تريليون دولار خسرتها الشركات الأمريكية... وربحها الفيدرالي!
سجلت الأيام الخمسة الأولى من شهر شباط خسارة الشركات الأمريكية لـ 1 تريليون دولار من قيمتها السوقية. حيث كانت خسارة مؤشر داو جونز الأمريكي بالقيم المطلقة هي الأكبر في تاريخه ككل، وكانت الخسارة أشد وقعاً على الشركات التي امتلكت سجلات قياسية في القيم السوقية لأسهمها مثل: بيكشاير، ويلز فارغو، غوغل، إكسون موبايل، مايكروسوفت آبّل وغيرها من الشركات المدرجة في الأسواق الأمريكية الثلاث الرئيسية، حيث أن كلاً من الشركات الكبرى المذكورة خسرت 30 مليار دولار على الأقل، وفي يوم الاثنين فقط.
السوق منتفخة وخسرت غنائمها
أما حول خسارة الأشخاص فقد كانت أسماء أثرياء العالم هي الأبرز بين الخاسرين، فالـ 5500 الأغنى عالمياً الذين تعدهم قوائم مجلة فوربس العالمية، قد خسروا في يوم واحد 114 مليار دولار. خسر وارن بافت 5,1 مليار دولار، ومارك زوكربرغ 3,6 مليار دولار، وبيل غيتس 2,25 مليار دولار في هذا اليوم.
انتقلت عمليات الهبوط في قيم السوق في اليوم التالي، إلى الأسواق الأسيوية، فشهد يوم الثلاثاء 7 شباط هبوطاً في المؤشرات اليابانية الأساسية: نيكاي الذي يضم 225 شركة خسر في يوم واحد 5,5% من قيمته السوقية، وتوبيكس الياباني هبط بأكثر من 5%، وهونغ كونغ بأكثر من 4%، وكذلك كانت خسارات المؤشرات الأوروبية، والمؤشر الروسي.
أما حول السؤال: هل ستكون هذه الانخفاضات مجرد تعديل، أو بداية أزمة مستمرة في سوق الأسهم، وأزمة مالية عالمية... فالإجابات متباينة، ولكن المؤشرات الأولى للأزمة المالية العالمية عام 2007 سميت في حينه بعمليات تعديل في أسعار المشتقات الأمريكية، والجميع يفهم أنه عقب الرعد ستأتي عاصفة رعدية. وهذا ما حصل حينها حيث أتت العاصفة المالية لتستمر حوالي عامين، وتتسع إلى جميع دول العالم. وخسرت أسواق الأسهم المالية حينها 46% وقرابة نصف قيمها السوقية المضخمة...
في نهاية عام 2017 يقدر الخبراء، بأن القيم السوقية لأسواق الأسهم العالمية قد تجاوزت 100 تريليون دولار، وهي بذلك أعلى من أعلى قيمة للمؤشر في عام 2008. والآن إذا تكرر سيناريو الأزمة الماضية حرفياً ودون اتساع فإن الخسارة تقارب 50 تريليون دولار. أي ما يقارب ثلثي قيمة الناتج الإجمالي العالمي.
من الواضح، أن سوق الأسهم الأمريكية منتفخة وفقاعية بشكل غير مسبوق، فالمستويات المرتفعة لمؤشرات الأسواق، ولقيم أسهم الشركات لا تتطابق أبداً مع الأرباح، فعملياً إذا ما وزعت فعلياً الأرباح على كل المساهمين في الشركات المدرجة في الأسواق الأمريكية الأساسية، فإن عوائد الأسهم لا تتجاوز 4-5%، وتحديداً في أسعار أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى المتضخمة إلى حد بعيد.
من أسهم الشركات للفيدرالي الأمريكي
الجميع يربط بين انخفاض الأسهم، وتوقعات ارتفاع السندات الرسمية، أي سندات الخزانة الأمريكية. فعملياً منذ بداية شباط أصدرت وزارة التجارة الأمريكية إحصائيات شديدة التفاؤل حول الاقتصاد الأمريكي للشهر الأول من 2018 مشيرة إلى أن الاقتصاد الأمريكي سيخلق أكثر من 200 ألف فرصة عمل، وهذا أكثر من المتوقع، ومعلنة أن خطر الركود التضخمي قد زال، وكل هذا يقرأه المستثمرون بأنه إعلان بأن الوقت مناسب ليلتزم البنك الفيدرالي الأمريكي بوعوده، وذلك برفع أسعار الفائدة الأساسية. وسيؤدي رفع أسعار الفائدة إلى ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأمريكية. وفي نهاية العام يتوقع الخبراء بأن تصل عوائدها إلى 2,5%.
وهذه السندات لا تزال تعتبر الأوراق المالية الأقل خطراً عالمياً، وبالمقارنة بين مخاطرها القليلة، ومخاطر أسهم الشركات التي تتدهور، فإنها ستكون أعلى عائدية، وتحديداً مع رفع أسعار الفائدة، ومع توجه إدارة ترامب إلى زيادة عجز الموازنة في هذا العام، أي: زيادة إصدار السندات. ما يعني بأن المستثمرين ينتقلون من سوق الأسهم إلى سوق سندات الدين الأمريكية، ما سيرفع من قيمة هذه الأوراق المالية، التي يملكها ويصدرها نخبة أثرياء العالم المساهمين في الفيدرالي الأمريكي، والتي تلتزم بدفعها وسدادها وحماية قيمتها الحكومة الأمريكية، التي تستدين من مستثمري العالم.
لقد ترافق يوم الاثنين الأسود المذكور، مع اليوم الأول للحاكم الجديد للفيدرالي الأمريكي جيرمي باول، ومع استباق استلامه لمنصبه بإصدار الحكومة الأمريكية للإحصائيات الاقتصادية المتفائلة، التي وبغض النظر عن مدى اقتناع السوق بها، إلا أنها إشارة: (بأننا ماضون في ما نسعى إليه) أي: رفع أسعار الفائدة، وتوجيه أنظار أموال العالم بشكل أساسي نحو السندات الأمريكية، حتى لو كان الثمن هو تداعيات كبرى على سوق الأسهم العالمية.
هل السندات محمية 100%؟!
إن يوم الاثنين الأسود المذكور، يعبر عن نهاية مرحلة المال السهل عندما تدفقت الأموال من الفيدرالي الأمريكي، ومن البنوك المركزية الأساسية في الاتحاد الأوروبي واليابان بفائدة صفرية، وأحدثت فورة كبرى، وعملية تجميع مالي هائلة في الأسواق المالية، وتحديداً أسهم الشركات الكبرى، والآن تبدأ عملية الاسترداد، أو إعادة التوجيه، التي ستؤدي إلى مزيد من التمركز في الثروات، حيث أن الأزمة في سوق الأسهم وخسارات الشركات ستتحول إلى انتعاش لمالكي المال الفعليين في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي... إن هذه العملية تعتمد على ثقة مطلقة بسندات الخزينة الأمريكية، على اعتبارها معصومة عن المخاطر، ولكن الظرف اليوم مختلف عن عام 2008 فالسندات الأمريكية ليست محصنة 100%، فأولاً: الولايات المتحدة الحامي الأساسي لقيمة هذه السندات لم تعد مطلقة القوة الاقتصادية والعسكرية، بل تواجه منافسة حادة في الميدانين. حيث أصبح الدين الأمريكي الإجمالي أربعة أضعاف الناتج المحلي. وأصبح تضييق دائرة تداول الدولار أمراً عملياً مطروحاً على جدول العمل الصيني بالدرجة الأولى، وتقليص تداول الدولار، هو: تقليص لموثوقية وعوائد سندات الخزينة. يضاف إلى هذا ما يشاع من احتمالات أن يرد حائزو السندات الأمريكية مثل: الصينيون على رفع أسعار الفائدة رداً قاسياً، فهم يملكون كتلة من السندات الأمريكية تبلغ 1 تريليون دولار، ويستطيعون بيع جزء منها، أن يغيروا الاتجاه المالي المذكور، وقد بدأوا عملياً بإعادة تقييم هذه السندات، وخفضوا تصنيفها من A- إلى BBB+ حيث لم تعد في التصنيفات الصينية الأوراق المالية الأكثر أمناً وموثوقية.
المعركة المالية، هي: معركة عالمية اقتصادية سياسية، وتوازنات القوى فيها أيضاً موزعة، وإمكانية الإيلام والرد مفتوحة لدى الطرفين، ولكن لا تزال المنظومة الغربية في هذا الموضع تمتلك زمام حركة ومبادرة أعلى، إلا أن هدفها أصبح تجنب الخسائر الأكبر، واستباق الأزمات والتعامل مع الأمر الواقع الجديد... إن إيقاد أزمة مالية في سوق الأسهم العالمية، قد يؤدي إلى خسارات كبرى عالمية للأسواق والشركات عبر العالم، وهذه الخسائر قد تتحول إلى مرابح للسندات الأمريكية. ولكن هذا لا يعني بأن السندات الأمريكية في مأمن، بل كل خطوة مؤلمة ستستتبع بردود مؤلمة، أقلها تخفيض الصين لقيمة السندات الأمريكية، وتسريعها لفرض التداول بعملتها، وبالآليات والأوراق المالية البديلة...
*عن مقال لفالنتين كاتاسانوف: اثنين أسود أم تصحيح اعتيادي للأسواق؟