ملامح حياة اقتصادية... من مدينة السلمية
مدينة السلمية واحدة من نماذج المدن والمناطق السورية الكثيرة التي لم تسعفها الزراعة لحدٍ بعيد، ولا الصناعة، ولا حتى نسب التعليم المرتفعة نسبياً خلال السنوات التي سبقت الأزمة... وباتصال واقع ما قبل الأزمة مع السنوات السبع الأخيرة، فإن ملامح الحياة الاقتصادية لسكان هذه المدينة في المنطقة الوسطى قد أصبحت متعبة قاسية ومشوّهة كحال المدن السورية كلها.
ظاهرة البطالة المنتشرة في سلمية، ليست وليدة الأزمة كما قد يظن البعض، بل إن تراجع فرص العمل بدأ قبل ذلك بسنوات، مع تقلص المساحات المزروعة بفعل الجفاف المتمدد في المنطقة، والذي يعيده بعض الأهالي إلى مرحلة تجفيف سهل الغاب في الخمسينيات، وما قاد إليه من تغيرات على مستوى المياه الجوفية في المنطقة الوسطى بأسرها. بالإضافة إلى مجموع الظروف التي كانت تدفع إلى الهجرة من الريف إلى المدينة، الموجة التي شملت السلمية كذلك الأمر.
الزراعة والرعي
سلمية واحدة من مدن وسط سورية، لها مناخ شبه صحراوي، يجعل من الزراعة مهنة غير أساسية، ولا سيما مع تدني الهطولات المطرية. أما ظروف الأزمة فقد فاقمت من الصعوبات الزراعية، فالأوضاع الأمنية السيئة المحيطة بالمنطقة، وسيطرة بعض الميليشيات على أراضٍ زراعية، أدتا إلى انحسار الزراعة أكثر فأكثر... إلى جانب الاحتطاب الجائر بغرض بيع الخشب للتدفئة مع ارتفاع أسعار المحروقات، ومجمل هذا يسرّع تحول محيط السلمية إلى صحراءٍ، يكاد ينعدم فيها الغطاء النباتي، فالحقول التي كانت تزرع بالقمح المروي وبالعدس إلى جانب الشعير بعلاً، بغرض صناعة الأعلاف، أصبحت في معظمها أراضٍ جرداء، تعشب فقط خلال فصل الربيع القصير، ويتم تضمينها لرعاة الغنم، لترعى أغنامهم فيها مقابل أجرٍ بسيطٍ لأصحابها.
عند الحديث عن الزراعة والرعي في المنطقة الوسطى عموماً، لا يمكن أن نغفل مركز البحوث العلمية الزراعية في سلمية، الذي كان واحداً من أهم المراكز البحثية التي تعنى بالتحسين الوراثي لأغنام العواس، وتطوير الإنتاج النباتي، إلى جانب إنتاج الغاز الحيوي كمصدر نظيف للطاقة، وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمربي الماشية في المنطقة، لكن انفلات الوضع الأمني خلال الأزمة، أدى إلى خسارة المركز لمعظم قطعانه وتجهيزاته، إذ تعرض للنهب مرات عدة، دون أي تدخل أمني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكانت آخرها مهاجمته من قبل مجهولي الهوية العام الماضي، حيث تمت سرقة 200 رأس من الأغنام إلى جانب سيارة وبضعة حواسيب.
إهمال تنموي صناعي
مثل كثير من المدن والبلدات السورية، وقعت السلمية ضحية للإهمال التنموي، الذي تجلى بغياب المشاريع الصناعية، وعدم توفير جبهات عملٍ وتردي الواقع الخدمي، فالحكومة لم تسع لتوطئة الصناعة كنشاط اقتصادي بديل لتراجع الزراعة والرعي، ورغم توافر المقومات النموذجية للكثير من الصناعات في المنطقة، فإن منشأتي الإنتاج الصناعي العام اليتيمتين لم تسيرا أية خطوة إلى الأمام، وبقي محلج القطن، وشركة تجفيف البصل والخضار، مستمرين فقط ولكن يؤمنان عملاً لعشرات العمال لا أكثر!
توقف محلج سلمية عن العمل منذ عام 2010 وتم فصل جميع العمال، وبقي عمال الحماية الذاتية فقط خلال سنوات الأزمة، ويرجع توقف المحلج حتى قبل بدء الأزمة، إلى تراجع زراعة القطن في سورية عموماً، بسبب خسائر المزارعين، فمنذ عام 2004 انخفض استلام محلج سلمية للأقطان إلى نحو 700 ألف طن، بسبب انخفاض قيمة زراعة القطن بالنسبة للمزارعين الذين دفعتهم خسارتهم المادية إلى استبداله بمحاصيل أكثر ربحية، وبذلك فإن معاناة المحلج، كما غيره، بدأت قبل الأزمة بسنوات بفعل التراجع الزراعي السابق. منذ نحو عامين عادت شركة حلج الأقطان لاستئناف عملها، بعد أن أصبحت واحدة من المحالج القليلة خارج الرقة وحلب، ولكن هذه العودة وسط تراجع إنتاج القطن السوري بشكل كبير، لم تتح حتى الآن فرص عمل إلا بما يقارب 50 عاملاً مثبتاً و 45 عاملٍ موسميًّ.
أما شركة تجفيف البصل والخضروات، فقد عانت لسنوات من تراجع زراعة البصل البلدي، الذي يعد المنتج الأمثل للتجفيف مقارنة بالبصل الهجين الأقل جودة، إلى جانب قدم الآلات وعدم تطويرها، أو استحداث خطوط إنتاج جديدة_ وهو بالطبع ما لا يمكن إلقاؤه على الأزمة وحدها_ والنتيجة اليوم اقتصار عمل الشركة على طحن، وتعبئة وتغليف بعض المواد الغذائية، كالبرغل وزعتر المائدة والفلافل.. بعمالة لا تتجاوز عشرين عاملاً.
جامعيون ولكن..
وليس أصحاب التعليم الجامعي أوفر حظاً في إيجاد فرص عمل ملائمة ضمن سلمية، إذ غالباً ما يضطرون إلى مزاولة مهن خدمية عامة لا ترتبط بالمؤهل العلمي الذي ناضلوا لبلوغه، كالعمل في البيع والورشات والتدريس..
مروة خريجة جامعية، تعمل في مكتب تجاري صباحاً، وتعطي دروساً خصوصية في المساء، بهذه الطريقة تساعد في الإنفاق على أسرتها بعد اختطاف والدها، في حين هاجر شقيقها للعمل في تركيا وبقي إخوتها الثلاثة يتابعون تعليمهم المدرسي، بالنسبة لمروة، فإن دخلها الشهري بالكاد يكفي نفقاتها الخاصة، والأمر ذاته ينطبق على شقيقها الذي اقترض مبالغ كبيرة للسفر ويتحتم عليه سدادها، في حين أن والدتهما ربة منزل، وإخوتها أصغر من أن يدخلوا سوق العمل، لذلك تستعين الأسرة بمبلغ نقدي يرسله العم المقيم في الخليج كل شهر لأسرة شقيقه، فلولا دعمه لكان الوضع أسوأ بكثير بالنسبة إليهم كما تؤكد الشابة، أما الشهادة الجامعية التي حازتها منذ سنوات، فما تزال حبيسة الأدراج دون نفع يذكر.
بين خيارين
كما تعتمد كثير من الأسر على العمل في قطاع الدولة، كمصدر رئيس للدخل، كالعاملين في مجال التعليم، والموظفين في سلمية نفسها، وفي حماه وحمص، ممن يضطرون إلى السفر كل يوم قاصدين أماكن عملهم، وتتبدد أجورهم المتواضعة على الطرقات، وقد قاد غياب السياسات الاقتصادية الرامية إلى إيجاد فرص عمل حقيقية للشباب، الآلاف منهم إلى خيارين لا ثالث لهما: إما التوجه إلى العمل العسكري، أو الهجرة إلى الدول المجاورة بحثاً عن الرزق، وهو ما تضاعف خلال الأزمة، مع تردي الوضع الأمني في المدينة واضمحلال القيمة الشرائية للأجور.
واقع تلخصه تجربة علي كمثال على حال كثير من الشبان في سلمية، فبعد أن فقد الأمل في إيجاد دخل ثابت يعيل به والدته الأرملة، وأختيه العازبتين اختار التطوع في الجيش رغم كونه وحيداً، لكنه أعاد حساباته بعد بضعة أشهر حين اصطدم بدخل هزيل لا يكفي متطلباته حتى كعسكري، فآثر السفر إلى لبنان بحثاً عن فرصة عمل عجز عن إيجادها في بلده.
أمام الوقائع الاقتصادية المرّة كلها، اليوم للسلمية كما غيرها، إلا أن المعالم التنموية للمدينة واضحة وواعدة، ومرتبطة بالتغيرات السياسية، وبدء تدخّل وتحكم الناس بتنمية مناطقهم وفق الضرورات، فبعض الدراسات السورية تشير إلى أن مدينة السلمية هي واحدة من نقاط الربط السورية الهامة. حيث وجودها في شمال شرق الإقليم الأوسط السوري، الممتد من القلمون وصولاً إلى حمص وحتى حماة، يجعلها مشرفة على الإقليمين الشمالي والشرقي، مما يتيح فكرة أن تكون واحدة من عقد المواصلات والخدمات في المستقبل بين أقاليم سورية الزراعية، ومراكزها الصناعية. وإضافة إلى هذا فإن قربها من نهر الفرات، بالإضافة إلى مستويات التعليم، تشكل بمجموعها ملامح اقتصادية مستقبلية للمدينة لتكون نقطة وصل، ومركزاً عمرانياً، وتعليمياً_ مهنياً، وواحداً من المراكز الصناعية الفرعية، التي يجب أن تتوسع على خارطة المستقبل السوري.