زيادة الأجور ضمانة توازن اقتصادي
عندما تنخفض قدرات الاستهلاك لدى الشريحة الاجتماعية الأوسع فإن الاقتصاد يصاب بشلل عميق، وبتشوه لا فكاك منه إلا باستعادة قدرة هؤلاء الاستهلاكية وتوسيع نطاق الإنفاق الاجتماعي...
يرى البعض في انخفاض الأجور، وفي انخفاض قيمة الليرة فرصة اقتصادية لزيادة معدل الربح، وبالتالي زيادة النمو الاقتصادي، وبالفعل فإن الأجور المنخفضة تشكل ربحاً مرتفعاً في الوحدة الاقتصادية التي تعطي عمالها المنتجين أجوراً منخفضة، فعمال هذه الوحدة الاقتصادية يعملون طوال الشهر، ويأخذون أجراً يكفيهم حتى ثلث الشهر على سبيل المثال، ما يعني أنهم يعملون ثلثي الشهر مجاناً، ويتحول هذا العمل المجاني إلى ربحٍ صافٍ لمالك المعمل أو المصرف أو المتجر أو المزرعة أو أية وحدة اقتصادية أخرى.
تشوهات بالاررتباط
بالخارج وبالمضاربة
ولكن المفارقة، أن الإنتاج الناتج عن عمل هؤلاء، هو بضاعة تذهب للسوق، وينبغي استهلاكها، لكي يعود الربح أموالاً إلى جيوب مالكي الإنتاج، أي: يجب أن يتحقق الربح، ولا سبيل لتحقيقه إلا إذا ما تم استهلاك المنتجات. ولكن عملية الاستهلاك ينبغي أن تقوم بها بالدرجة الأولى: الأغلبية من هؤلاء الذين يحصلون على أجور لا تكفيهم لثلث الشهر! أي: أن أمثال هؤلاء يستهلكون بالحدود الدنيا، وعندما يستهلكون بالحدود الدنيا، فإن الإنتاج لن يباع والربح لن يتحقق...
وينتج عن هذا، أن يسعى الإنتاج المحلي إلى الارتباط بالخارج، حيث إمكانات الاستهلاك أعلى، ويصبح الإنتاج المحلي مرتبطاً بالتصدير للسوق الخارجية. ويصبح المنتجون، ينتجون الكثير، ويأخذون الأجر القليل، ويستهلكون كمية قليلة، بينما المنتجات والربح تتحقق بارتباط الاقتصاد المحلي بالاستهلاك الخارجي.
كما أن قدرة الاستهلاك المنخفضة على استهلاك المنتجات، تبطئ من عملية استرداد رأس المال، الذي وضعه مالكو الإنتاج في بداية العملية الإنتاجية، ما يؤدي إلى تباطؤ دورة رأس المال. وينتج عن هذا تشوهات أيضاً، حيث تتقلص دوافع زيادة الاستثمار، لأن استرداد الأموال أبطأ، وتنجذب الأموال نحو القطاعات التي تدور فيها الأموال بشكل أسرع، كالمضاربة العقارية، والمضاربة على العملات. لتؤدي هذه العمليات بدورها إلى تقلص مستويات الإنتاج، وارتفاع مستويات الأسعار، وتراجع قدرات الاستهلاك مجدداً.
تراجع الاستهلاك
تراجع للدخل
إن تراجع قدرات الاستهلاك، مرتبط بتراجع حصة الأجور من الناتج، ولكنه يؤدي بدوره إلى تراجع القدرات الإنتاجية ككل، ويؤدي حتى إلى تراجع الدخل الإجمالي، وحتى الربح. ويسعى أصحاب الربح إلى البحث عن الحلول المعزولة التي تؤدي إلى تشوهات في بنية الاقتصاد الوطني، كالاعتماد على قطاعات تصديرية، أي: عمليات إنتاج معتمدة على تكاليف الأجور المنخفضة، وعلى قيمة العملة المنخفضة، ليتم التصدير للخارج، بغض النظر عن الاستهلاك المحلي.
أو تعتمد رؤوس الأموال، على البحث عن مجالات الربح المضاربي، لتتجنب تعطيل الأموال في دورة الإنتاج البطيئة نتيجة الاستهلاك المحلي المنخفض.
إن زيادة الأجور، وزيادة قدرات الاستهلاك، هي الضمانة الوحيدة لنمو اقتصادي متوازن، ولزيادة الإنتاج. وإن كانت زيادة الأجور تؤدي إلى تقلص الربح، إلا أنها عملياً تؤدي إلى زيادة الدخل الإجمالي والنمو الاقتصادي. أما اقتصاد يبني نفسه على »جدوى الأجور المنخفضة» لا يمكن أن ينتج عنه إلا تشوهات اقتصادية أقلها، انتشار المضاربة، والإنتاج المرتبط بالسوق الخارجية حصراً، هذا عدا عن الآثار الاجتماعية لبنية اقتصادية مشوهة بإنتاج محلي متراجع، ودخول محلية قليلة للأغلبية.