انخفاض الدولار... الليرة استفادت أم آخرون؟!
استقر سعر صرف الدولار لمدة عام تقريباً. وساعد هذا الاستقرار، وإن كان على سعر مرتفع قرابة 500، على استقرار في تدفقات النقود في السوق، وهو عامل مساعد لزيادة النشاط الاقتصادي، وبالتالي لاستقرار الأسعار، ولكن هذا الاستقرار عاد للتخبط نزولاً فما الذي يجري في السوق اليوم؟
يعتبر انخفاض سعر صرف الدولار مؤشراً جيداً، فهو يعني أن قيمة الليرة الفعلية، قد تحسنت، وأن السوق تتخبط ليقترب سعر الصرف من القيمة الموضوعية الجديدة. ولكن قيمة الليرة هي قدرتها الشرائية، وزيادتها يجب أن تعني انخفاض الأسعار جدياً، وهو ما لا يحصل حتى الآن، وسنشرح لماذا. ولكن ذلك قبل علينا أن نقول ما هو السعر الموضوعي التقريبي...
محددات السعر الموضوعي لليرة
يمكن القول إن التقديرات تشير إلى أن السعر الموضوعي لصرف الدولار قد يتراوح بين 430-440 ليرة مقابل الدولار، وسعر 500 هو سعر مضخم ومبالغ به... إن قيمة العملة يمكن تحديدها تقريبياً بمعادلات رياضية لن نخوض في غمارها الآن، ولكن نستطيع أن نوضح قليلاً من العوامل المرتبطة:
إن قيمة العملة ترتبط بعملية الإنتاج بالدرجة الأولى، وكلما زاد الإنتاج زادت قيمة الليرة، ولكنها ترتبط أيضاً بعوامل أخرى أهمها: كم الليرات الموجود في السوق هل هي فائضة عن حاجة الإنتاج أم متناسبة معه أم تقل.
وكل ما كان يجري طوال سنوات الأزمة، يؤدي إلى تخفيض قيمة الليرة الحقيقية: فالإنتاج كان يتراجع، ومزيد من الليرات والليرات تصدر عبر المصرف المركزي لتمويل العجز. وبناء على هذين المحددين الأساسيين يمكن القول: أنه خلال العام الحالي، فإن مستوى الأسعار ارتفع عن عام 2010 بنسبة 877% تقريباً، وفقدت الليرة قرابة 88% من قيمتها.
وينبغي الإشارة إلى أن هذا الرقم تقريبي، وهو مبني على تقدير أن الناتج المحلي هو 22 مليار دولار وفق التقديرات الدولية لعام 2016. بينما الكتلة النقدية المتداولة في السوق السورية يمكن أن تكون قد بلغت: 6530 مليار ليرة تقريباً... ويمكن أن تكون أقل، ولكنها لا تقل عن 5000 مليار ليرة.
يضاف إلى هذا، أن هناك عاملاً آخر هو: سرعة دوران النقود، وهذا قد انخفض حكماً خلال الأزمة، بسبب تراجع حركة التداول والاستهلاك، وانخفاضه يرفع من قيمة الليرة، أي يجعل السعر الفعل للدولار أقل.
بكل الأحوال فإن قيمة الليرة موضوعياً أفضل من تعبيراتها الموجودة في سعر صرف الدولار المضخّم بفعل عامل المضاربة، ومستوى الأسعار في السوق المضخّم بالاحتكار، وكل من المضاربة والاحتكار من أفعال قوى الربح الكبرى في السوق.
لماذا ينخفض السعر الآن؟
إن العوامل التي كانت تسبب التدهور السريع لقيمة الليرة، قد توقفت منذ العام الماضي، مع تراجع نسبي في مستوى العنف والدمار، وهو العامل الأساسي، الذي كان يساعد المضاربين على تكسير قيمة الليرة، ولكن بعد عام تقريباً من استقرار سعر الصرف، وتحسن نسبي في الظروف الاقتصادية فإن المركزي يسعى لتخفيض سعر صرف الدولار، وهو أمر مطلوب، لأن قيمة الليرة تفترض سعراً أقل من 500، بل أقل من 440 على أغلب الأحوال.
وكان للسياسة النقدية المتبعة منذ شهر 8-2017 الدور الأهم في التخفيض. فالمركزي على ما يبدو يضع هدفين: تخفيض سعر الصرف، وإعادة تجميع الكتلة النقدية الأكبر من الليرة لدى المصارف، وهو ما يتقاطع مع الهدف الذي يعلنه حول أتمتة منظومة الدفع الإلكتروني مع بداية عام 2018. لذلك فإنه غالباً يسعى حتى نهاية العام، لتخفيض السعر، وإعادته إلى سعر استقرار جديد، إضافة إلى جذب مدخري الليرة في الخزائن ليضعوها في الحسابات المصرفية.
فالمركزي قيّد حركة الليرة، وذلك عندما دعا المواطنين والفعاليات ليشتروا الدولار من المصارف العامة كالتجاري مثلاً، ولكنه اشترط أن من يريد أن يصرف أكثر من 1000 دولار، عليه أن يودع الليرات التي سيأخذها بالمقابل لمدة شهر، ثم شدد الإجراءات فأصبح من يريد أن يبيع 500 دولار عليه أن يودع مبلغ الليرات لثلاثة شهور، وإن أراد سحبها فعليه أن يدفع غرامة نسبة 10%. وإضافة إلى ذلك فإنه قد سمح للأفراد بسحب 100 دولار مرة واحدة بالشهر. ووضع استثناءات لهذه الإجراءات، وأشار إلى أنها مؤقتة.
ومع كل تشديد للإجراءات ومزيد من حبس الليرة، فإن السوق السوداء تأخذ إشارة بإمكانية تخفيض السعر أكثر من ذلك، لأن الليرة مطلوبة في السوق مع تشديد حبسها! وستنتشر حكماً حالة من الهلع، مع انخفاض الدولار، والمسألة ليست بالعوامل النفسية فقط! بل هناك حاجات اقتصادية تتطلب تحويلاً سريعاً وسيولة بالليرة، ومجموع هذا سينشط سوق كبار حائزي الثروات من دولار وليرة أي: حيتان السوق، ليتلقفوا هذه الموجة ويشتروا أكبر كمية من الدولار من صغار السوق بسعر رخيص. بينما قيد المركزي من وصول الدولار إلى المصارف العامة، والمنظومة الرسمية مع كل تشديد للإجراءات. وأخيراً سرع انخفاض السعر عندما خفض السعر سريعاً من 490 إلى 434 ليرة مقابل الدولار في يوم واحد.
نتائج ما حصل
قد يحقق المصرف المركزي في نهاية الموجة أهدافه أي: ينخفض سعر الصرف الرسمي والأسود، ويستقر عند حد أخفض من 500 وغالباً أعلى من 440 ليرة، وتتجمع نسبياً كتلة نقدية بالليرة في حسابات في المصارف.
ولكن في بلاد أكثر من 80% من دخلها لدى أصحاب الأرباح، والجزء الأعظم منه لدى قلة قليلة من حيتان السوق الكبرى، لا يمكن أن تتم أية سياسة، إلا بالشكل الذي يتيح لهؤلاء أن يحققوا مغانم هامة منها... ورغم أن المركزي (برّا زمتّه) بأن دعا الناس كي لا تبيع الدولار وألّا تهلع، إلا أن الكلام لا ينفع أمام القوانين الموضوعية للربح والخسارة. وتحديداً أن المصرف المركزي قد صرح بأن حركة بيع الدولار هذه الفترة أكثر بـ 30 ضعفاً عن حالة الاستقرار، أي أن موجة بيع تجري...
فن تضرر ومن استفاد؟
على مستوى المواطنين السوريين والجزء الهام منهم الذين يعتمدون على حوالات المغتربين في مصروفهم، فإن هؤلاء سيصرّفون خلال هذه الفترة من المكان المتاح، وإن كان لديهم بضعة مئات من الدولارات مخبأة، فإنهم سيخافون من موجة النزول، وسيسعون لمن يعطيهم أفضل سعر أي السعر الرسمي الآن، فإن امتنع عن إعطائهم أكثر من 100 دولار بالشهر فسيتجهون للسوق السوداء. ولكن هؤلاء الكتلة الأقل تأثيراً، على السوق إجمالاً، ولكنها الأعلى تضرراً.
يأتي بعدهم أصحاب الفعاليات الاقتصادية كالتجار المتوسطين والصغار، أو أصحاب النشاطات الإنتاجية والخدمية العاملة، بل وحتى صغار الصرافين، فهؤلاء جميعاً يحتاجون إلى سيولة دورية بالليرة، فيسعون إلى تصريف دولاراتهم كي لا يخسروا أكثر من ذلك، وعندما يضع المركزي شروطاً للإيداع فإنهم لن يتجهوا إلى الجهات الرسمية إلا ما ندر، بل سيذهبون إلى السوق السوداء. أو سيوقفون نشاطهم الاقتصادي إلى أن يستقر السعر وتتبين الأمور. وبكل الحالات يخسرون نسبياً. فإذا باعوا دولار بـ 400 في السوق الموازية، فإنهم يعلمون أنهم سيعودون ليشتروه لاحقاً بـ 450 وربما بـ 500 من السوق السوداء.
وأخيراً، هناك كبار السوق السوداء، ممن يساهمون في تخفيض السعر إلى أقصى حد ممكن، ويشترون الدولار الرخيص، عوضاً عن الجهات الرسمية التي وضعت قيوداً زائدة عن الحد المطلوب. ويستفيدون من مرحلة هبوط السعر، ليسحبوا الدولار من السوق برخص، وتجري عملية مركزة أعلى في حيازة الدولار... فمن كل مليون دولار يستطيع هؤلاء أن يحققوا ربحاً يقارب 100 ألف دولار بين سعري 400، و450 خلال الموجة!
إذا انخفض الدولار
تنخفض الأسعار؟!
إن واحداً من أهم أهداف السياسة الاقتصادية اليوم، يجب أن يكون تخفيض المستوى العام للأسعار... وقد يشكل انخفاض سعر الصرف عاملاً مساعداً فقط، ولكن بشرط أن يستقر عند مستوى أقل من المستوى السابق، ولكن هذا غير كاف تحديداً إذا ما كان يجري بآليات تقيد حركة الليرة والنشاط الاقتصادي، وتسمح لكبار السوق السوداء بهامش غنائم واسع.
إن تخفيض المستوى العام للأسعار، أي: رفع القيمة الشرائية لليرة، وتخفيض التضخم، لا يرتبط بسعر الصرف فقط، ولا يمكن أن يتم عبر نشرات أسعار، وجولات مكوكية لوزير أو مراقبين على أسواق محددة!
لا يمكن أن ينخفض مستوى الأسعار إلا إذا زادت كتلة البضائع، ليقل ثمنها... وأصحاب الموارد الخاصة لن يزيدوا كتلة البضائع المنتجة في السوق السورية، طالما أن مستويات الاستهلاك فيها متدنية إلى حد بعيد: مع مستوى الأجور المعيب، والفقر العام الذي أصبح سمة غالبية الأسر السورية. وسيستمر كبار السوق على أسعارهم الاحتكارية حتى لو انخفض سعر الصرف، فهم لم يرفعوها لأن سعر الصرف مرتفع فقط، بل لأن الاحتكار وحاجة الناس لاستهلاك المواد الأساسية يتيح لهم معدل ربح مرتفع، بدون منافس...
لن ينخفض المستوى العام للأسعار جدياً، إلا إذا تم توجيه المزيد من الموارد للإنتاج، أو حتى استيراد سلع أكثر بسعر منافس أقل، وبمعدل ربح أقل. وهذا النوع من الاستثمار لا يمكن أن تقوم به إلا جهة عامة، أي: من موارد عامة! ولكن طالما أن السياسة الاقتصادية تحرص على أن تكثر من الكلام، وتقلل من الأفعال، أي تحرص على ألا (تبل يد) جهاز الدولة بالنشاط الاقتصادي الاستثماري الفعلي، أو حتى في دعم فعلي للنشاط الاقتصادي زراعة وصناعة وخدمات أساسية... فإننا لا نستطيع أن نأمل انخفاضاً جدياً في مستويات الأسعار مع سياسة من هذا النوع.
لأن ترك الأمور للسوق دون تدخل اقتصادي إنتاجي مباشر، أو تجاري استيرادي مباشر من قبل المال العام الذي تديره الحكومة، يعني عملياً: ترك الأمور لحيتان السوق حيث أقل مستوى ممكن من الإنتاج، وأعلى مستوى ممكن من الأسعار الاحتكارية، وأكبر فائدة من المضاربات بأنواعها.
انخفض سعر الدولار، لأن المصرف المركزي أجرى إجراءات تقييدية على حركة الليرة بالدرجة الأولى... ولكن سعر الصرف يجب أن ينخفض إن كان عليه التعبير عن القيمة الموضوعية لليرة، والتي وإن عبرنا عنها بسعر الدولار فإنها قد تكون بين 430- 440 ليرة، وربما أقل.
يسعى المركزي لتخفيض الدولار، وجذب كتلة نقدية بالليرة إلى المصارف، ولكنه اتخذ إجراءات متشددة تساعد حيتان السوق السوداء على الاستفادة من الانخفاض السريع.
الانخفاض لن يستمر على الأقل طويلاً، وقد يستقر السعر عند مستوى أخفض من المستوى السابق الذي كان قرابة 500. ولكن إلى ذلك الحين يكون كبار المضاربين قد ملأوا جعبتهم بالدولار الرخيص، واستعدوا لتحقيق مرابحهم من رفع سعره عبر حجبه عن السوق لاحقاً.
88%
بناء على مقاربة لمدى الخسارة الموضوعية في قيمة الليرة بين 2010 و 2017 فإن الليرة قد خسرت قرابة 88% من قيمتها. والمستوى العام للأسعار ارتفع بنسبة 877%.
440 ل.س/$ بناء على تقدير الناتج بـ 22 مليار دولار، وتقدير الكتلة النقدية بـ 6530 مليار ليرة كمجموع العجوز والكتلة النقدية السابقة، فإن سعر الصرف ينبغي ألا يتجاوز 440 ليرة مقابل الدولار.
100 ألف $ إذا ما استثمر كبار المضاربين مليون دولار فقط في الموجة الحالية فإنهم قد يحققون أرباحاً تقارب 100 ألف دولار من الشراء بسعر 400 فرضاً، والبيع لاحقاً بـ 450 مثلاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 839