أوهام (سوليدير- سورية)...
تناقلت تصريحات إعلامية عن أحد العاملين في أجندة الإسكوا- الدردري (الوطنية لمستقبل سورية) بأن المدن السورية مدمرة إلى الحد الذي سنحتاج لتسوية بعضها بالأرض وبناء «سوليدير» مكانها، كما تنبع كل يوم شركة تطوير عقاري جديدة، حتى بلغ عددها 42 شركة خاصة. حيث ينظر البعض لصور الدمار السوري، على اعتبارها ورشة ربح عقاري ضخمة!
هل سأل أحدهم السؤال الموضوعي: من سيشتري هذه المساكن والمباني التي سيعمرها هؤلاء؟ وكيف ستدفع الأسر السورية لقاء هذا؟!
بلغ عدد المنازل المدمرة جزئياً أو كلياً 870- 1.5 مليون مسكن، حيث التقدير الأول للبنك الدولي في المحافظات الثماني الأكثر تضرراً، بينما كان الثاني للبنك الدولي أيضاً في منتصف عام 2014 لعموم سورية.
أكثر من 6 ملايين سوري نازحون داخلياً، وحوالي 5 ملايين لاجئون إقليمياً ودولياً، وهؤلاء كلهم كان لديهم منازل ما، ولا زال لديهم الحق في التعويض عن منازلهم. ويضاف إلى هذا أن التقارير الدولية كلها تقول: إن الفقر العام يطال 80% من السوريين، بينما تشكل تكاليف آجار المساكن نسبة 24% تقريباً من تكاليف المعيشة لأسرة في دمشق، وضعف الأجر الوسطي، وهناك الكثير من الدلالات الأخرى التي تقول بأن الأسر السورية لن تستطيع بأية حال أن تكون محركاً لسوق العقارات التي يتوعد المستثمرون بها، ويقيمون لها (ماكيتات وتصورات دولارية)...
هل ستدفع الأسر والأجور؟
من سيدفع للمستثمرين العقاريين عوائد استثماراتهم، ونسبة أرباحهم؟
منطقياً، على «مستهلكي المنازل والعقارات» أن يدفعوا قيمة هذه الاستثمارات وأرباحها، من دخولهم... ولكن هذا سيعني أن مسألة تعويض المساكن قد طويت جانباً، وأن على أصحاب الدخول المنخفضة في سورية من الغالبية الساحقة الذين لا يملكون منازلاً، أن يكونوا قادرين على اقتطاع جزء إضافي من دخولهم لتمويل المساكن الموعودة، بقيمة استثماراتها وأرباح مستثمريها العقاريين، وفوائد ممولي قروض السكن! أي: على دخول الأسر أن تغطي قيمة هذه الاستثمارات وأرباحها... ولا يمكن أن يحدث هذا إطلاقاً في ظل الدخول والأجور الحالية، بل عليها أن تتضاعف مرات عدة، لتكون قادرة على تأمين الحاجات الضرورية، ومن ثم فائضاً للقروض العقارية! والمفارقة أن مضاعفة الأجور والدخول الصغيرة السورية، يعني تقليص حصة الربح الكبير، ومن ضمنها أرباح العقارات!
إذاً، هذا السيناريو قائم على فكرة: أن دخل الأجور سيرتفع إلى الحد القادر على تمويل هذه الأرباح، وهو يتجاهل أن زيادة الدخول والأجور في سورية لا يمكن أن تحصل طالما أن الاستثمار عقاري، وحصته من الربح كبيرة، والأهم: أنه يتجاهل ميزان القوى المحلي الذي سيقول: إن حرمان 13 مليون سوري من تعويضة منازلهم، سيتحول إلى تأثيرات سياسية واجتماعية تقلب معادلة الأجور والأرباح، والسياسة الاقتصادية ككل على رأس كبار الرابحين.
لذلك فإن المستثمرين العقاريين لا يخططون ليحصلوا على أرباحهم من دخول وأجور الأسر السورية... فمن أين إذاً؟
الربح من الفشل!
الأغلب، أن السوق العقارية لا تجهز نفسها لاحتمالات شراء فقراء السوريين للبيوت... بل تعتمد على (السلبطة) على موارد تمويل إعادة الإعمار الدولية التي يتوقعونها، وتنوي إعمار المدن بالمجمعات التجارية ومنازل الأغنياء، كالتي أقيمت وستقام في كفرسوسة على أنقاض بساتين ومنازل أهل المنطقة.
حيث يعتقد البعض أنه، وكما حصل في لبنان مثلاً، ستتدفق الأموال والمساعدات والمنح مرتبطة بمشاريع عقارية كبرى لأمراء الحرب، و«رجال البزنس»، وسيكون لهؤلاء القدرة على تركيز الموارد في نفخ قطاع التمويل والإنشاء العقاري، الذي يعطي إيحاءات بالازدهار السريع، ويجذب إليه الموارد والأموال نتيجة (النتائج السريعة)، وتنشأ بالتالي مضاربات على أسعار العقارات، تجذب إليها الأموال دولياً ومحلياً، ويتحول شراء العقارات وبيعها إلى نشاطٍ أساسٍ لرؤوس الأموال.
أي: عملياً يبني هؤلاء في استثماراتهم العقارية على تضخم أسعار العقارات، وعلى مركزة الموارد فيها، وجذب الباقي إليها. وتقوم الوعود الاستثمارية العقارية الكبرى على حجب الموارد عن قطاعات أخرى، وعلى فشل عملية إدارة الموارد، مقابل توسع شريحة الممولين الكبار، والساعين إلى تبييض أموالهم في الريع العقاري.
عوائق في وجه الربح العقاري؟
يقف في وجه التمويل والاستثمار، وبالتالي الربح العقاري الكبير، عوائق جدية في سورية. أولها: أن هذا الربح يرتبط بمسألة اجتماعية معقدة وهي التعويض والسكن لملايين من السوريين، وبالتالي وزنهم في فرض حلول اجتماعية الطابع، تتناقض مع الربح العقاري. وثانيها: أن حجم المهمات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى لن يسمح بمركزة الموارد في بناء الأبراج والمجمعات المضاربية المعزولة عن سياق المهمات الاقتصادية الكبرى، التي تواجه إعادة النمو الحقيقي في سورية، فالموارد مطلوبة لإحياء البنى التحتية والصناعة، ولإيواء الملايين، ولتأمين غذائهم، ولتشكيل فرص عمل واسعة ومستدامة، ولسد ثغرات التعليم والصحة. وستفرض الوقائع القاسية لمعالجة التدهور، أن يكون للقطاع الإنشائي العقاري حجم محدد، وربح محجم قدر الإمكان. أما ثالثها: وهو الأهم: إن مسألة نجاح إعادة الإعمار في سورية أو فشلها، هي مسألة سياسية دولية، فالقوى الدولية التي تريد سحب العنف وإرساء الاستقرار، لن تحول الموارد أو المساعدات، إلى شرائح المضاربين العقاريين، وسيتلاقى هذا الاتجاه الدولي مع مصالح عموم السوريين، ويتناقض مع مصالح قلة المبيضين والمضاربين، الذين لن يجدون ظرفاً دولياً ومحلياً يخدمهم كالذي توفر للحريري وأمراء الحرب اللبنانية.
أزمة السكن في سورية أزمة اجتماعية، وحلها لن يكون بمفاهيم الاستثمار وربحه، والتمويل وفوائده. بل حلها يجب أن يكون اقتصادياً_ اجتماعياً، كما حصل ويحصل في مجمل البلدان التي تتبنى سياسات السكن الشعبي، وتتوسع بها بعد الأزمة العالمية، مثل: فنزويلا والصين والهند... وجوهر هذا الحل يجب أن يعتمد على أنه إذا أردنا أن نبني مليوني مسكن، فإنها يجب أن تكون على أراضٍ عامة، لا ندفع ثمنها، ويجب أن تكون شركات إنشائها ومعداتها وقواها العاملة ممولة بخطة التعويض الاجتماعي المستحقة للسوريين الذين خسروا جنى عمرهم، الذي وضعوه يوماً في البيوت التي تدمرت. أي: «أرض مجانية، وكلف مدعومة» لمهمة بناء المجمعات السكنية الضرورية، لمن خسروا بيوتهم، ومن قضوا أيامهم في السكن العشوائي...وعندها فإن الموارد لن تتجه نحو المضاربة العقارية، وستضطر للخضوع لعملية تخفيض معدل الربح والأسعار في قطاع الإنشاءات. وكل ما سبق سيبنى على الوزن الاجتماعي لملايين المحرومين الذين سينقلون الموارد من الربح للتعويض، وليس العكس كما يتوهم البعض.
*سوليدير: الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت، ورئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري أكبر المساهمين فيها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 833