أيهما أولاً:  الإغاثة أم الاستثمار؟

أيهما أولاً: الإغاثة أم الاستثمار؟

تتجدد تقديرات الدمار والخسائر في سورية بشكل دوري وآخرها 327 مليار دولار، حيث توضع مسألة تأمين الموارد على أنها العقبة الأساسية، ولكن لنفترض أن هذه الموارد مؤمنة، فهل لدى أحد تصور عن حجم المشاكل والمهمات التي ستقف أمامنا؟ وهل يمكن أن نجيب إجابات أولية على سؤال: من أين نبدأ؟!



يطرح البعض في الأمم المتحدة الطرح السائد دولياً حول إعادة الإعمار وفق ما يعرف «باقتصاديات بناء السلام» والذي يركز على أن إعادة الإعمار تبدأ بمرحلة «بناء السلام»، والتي تركز على الإغاثة والطوارئ وبعض جوانب البنى التحتية، التي تشرف عليها المنظمات الدولية كما في طرح الإسكوا: «بدائل السياسات الاستراتيجية» بينما تنزاح مهام الاستثمار وبناء النموذج الاقتصادي إلى الدرجة الثانية...
بالمقابل تركز بعض الطروحات المحلية على فكرة استقطاب المستثمرين، وتنطلق من الجانب الاستثماري وتدفق موارد المستثمرين، معتبرة أنها ستؤدي إلى تأثيرات تلقائية على المؤشرات التنموية الأخرى، مثل: تحسن دخل الفرد، والأجور وموارد الدولة، وتحسن قدرتها على الإنفاق، وفي هذا المنطق تهميش وتجاهل لحجم المهمات الاجتماعية الكبرى التي تتطلب إغاثة وإنفاق مباشر، وليس عن طريق المستثمرين.

الإنفاق والاستثمار لا ينفصلان
إن كانت مهمات الإغاثة والتعويض عالية الأهمية في المراحل الأولى لتأسيس الثقة بالنموذج، إلا أن تنحية الخطة الاقتصادية الاستثمارية إلى الدرجة الثانية تثير المخاوف من ناحية فشل عملية تأمين نمو الموارد ذاتياً، والوقوع في فخ «انتظار الموارد والعون الخارجي» مما قد يعيق أهم عوامل الاستقرار، وهو: بناء نموذج اقتصادي وطني مستقل يؤمن موارده ذاتياً، ولذلك فإن المرحلة الأولى يجب أن تركز على تركيب دقيق بين مهمات الإغاثة والتعويض ومهمات الاستثمار.
وإذا ما عدنا إلى افتراض أن الموارد مؤمنة، وفكرنا بالمفردات الاقتصادية، فإن الموارد تستخدم في نهاية الأمر في وجهتين أساسيتين للتصنيف: إنفاق اجتماعي استهلاكي- وإنفاق استثماري مرتبط بمراكمة رأس المال الثابت لقطاعات إنتاجية تنتج الثروة الجديدة، وتولد الدخل الحقيقي، أي: تؤمن توليد الموارد الجديدة من الموارد القديمة. وكلا الجانبين الإنفاق الاستهلاكي، والاستثماري لا ينفصلان عن بعضهما البعض بل يرتبطان عضوياً.

وحدة البلاد وتنمية سكانها
 جملة من المهام الأساسية المرتبطة بمسألة تأمين الاستقرار تندرج في إطار الإنفاق الاجتماعي الاستهلاكي، فأولاً: إعادة أسس الوحدة الوطنية المرتبطة بدمج وربط مناطق البلاد اجتماعياً واقتصادياً كمهمة أولى، تتلاقى مع الإنفاق الضروري على حل مشاكل النزوح والهجرة والتغيرات الديمغرافية والتقطع بين أوصال البلاد وسكانها، وثانياً: الحل السريع للمشاكل التنموية الكبرى وانتشال ملايين السوريين بشكل فعال من مظالم الجوع والفقر والبطالة وكل ما ينجم عنها.
ولا يمكن حل هذه المهمات الأساسية عن طريق الإنفاق الاجتماعي فقط، حيث قد يتطلب ربط البلاد ببعضها إعادة تخطيط شبكة الطرق والسكك وتأمين الانتقال السريع، كما أن تصحيح الخلل الديمغرافي الناشئ عن الدمار والهجرة والنزوح يتطلب حل مشاكلات السكن والتعامل مع احتمال عودة 4 ملايين سوري من الإقليم، وأكثر من 6 ملايين سوري، نازحين داخل البلاد لهم الحق في العودة إلى مناطقهم، وبالتالي بناء حواضر جديدة في مناطق الدمار والهجرة والنزوح الكبرى، مع كل بناها التحتية وخدماتها الاجتماعية، وهذا لا يمكن التعامل معه في إطار الإنفاق الاجتماعي فقط، أي: مخصصات إنفاق من الموارد، بل يجب التعامل مع هذه المهمة على أنها مشروع استثماري وطني عابر للقطاعات: الطاقة والمياه والإنشاء وتخطيط المدن وما يرتبط بها من صناعات.

مستويات في تخصيص الموارد
أما في مهمة رفع مستوى المؤشرات التنموية للسوريين التي تدهورت بالجملة: من الجوع ونقص التغذية، وعدم الوصول إلى مياه الشرب النظيفة، وحاجات الطاقة الضرورية، وصولاً إلى تدهور الوضع الصحي، وإلى مستويات الأمية بين الأطفال، وجملة من الظواهر الاجتماعية التي يلخصها جانبان جوهريان: اجتياح الفقر والبطالة لملايين السوريين. فهذه المهمة لا يمكن رهنها بعمل المنظمات الدولية التي يتبع كل منها لجهة، والتي تنتظر أموالها من المانحين، بل إن هذا الحجم من المشاكل يتطلب مخصصات كبرى من الموارد تدار مركزياً وتخصص على مستويات عدة.
فأولاً: هناك موارد ينبغي إنفاقها مباشرة لترميم جزء من مؤشرات التنمية، مثل: تأمين السكن المؤقت ورفع حجم ومستوى الخدمات المجانية الطبية والتعليمية لتستطيع تغطية الحاجات جميعها كماً ونوعاً. وثانياً: هناك موارد ينبغي إنفاقها على الاستثمار السريع في تأمين البنى التحتية الأساسية التي ترمم مؤشرات حصول الجميع على المياه، والكهرباء، والمواصلات، والاتصالات، بكلف هامشية أو دون كلف. وثالثاً: والأهم، يأتي حل مشكلة الفقر- البطالة- وانخفاض الأجور الجوانب التي لا تنفصل عن بعضها البعض، والتي تساهم مساهمة فعالة في تدهور مختلف مؤشرات التنمية الأخرى، فزيادة الأجور تحديداً ومستوى دخل الأسر عموماً يتيح تأمين الغذاء الضروري والكافي، ويتيح إعادة الأطفال إلى المدارس ويوقف تشغيلهم، ويتيح حياة لائقة تخفف ظواهر التدهور الاجتماعي والإنساني.

الموارد المولدة للموارد
إن كانت الموارد المخصصة للإنفاق على التعليم والصحة وتأمين خدمات البنى الأساسية تساهم في تخفيض الفقر عموماً، وتساهم في زيادة التشغيل نسبياً، إلا أن التخلص من الفقر لا يمكن أن يحل جدياً إلا بزيادة النمو الاقتصادي، والدخل الفردي، وبرفع مستويات التشغيل، وبوضع حد أدنى للأجور، متغير بتغير تكاليف المعيشة الضرورية. وهذه الجوانب يحلها تخصيص الموارد للمشاريع الاستثمارية الكبرى، التي تركز على إيجاد البنية الإنتاجية المحلية الضرورية لتوليد النمو الاقتصادي الضروري، لاستدامة تأمين الحاجات الضرورية من سكن وغذاء وبنى تحتية وتعليم وصحة بالدرجة الأولى، أي: تأمين الأساس الاقتصادي لتوليد محلي للموارد التي تغذي هذه الجوانب الأساسية.
المرحلة الأولى من إعادة الإعمار في سورية والتي ينبغي أن يتم تخصيص مواردها، لتهيئة ظروف الوحدة الوطنية والاستقرار تتطلب تخصيص الموارد بتركيب لجانبي: الإنفاق الاستهلاكي الاجتماعي الإغاثي التعويضي، والذي لا ينتج الموارد مباشرة، مع جانب الإنفاق الاستثماري على مشاريع إنتاجية كبرى تؤمن الموارد اللازمة لحل مشكلات التنمية حلاً مستداماً.
ويمكن القول بأن مشاريع البنى التحتية، والإنشاء، وإنتاج الغذاء أولاً والحاجات الضرورية ثانياً، مثل: اللباس وغيرها، هي مشاريع ذات أولوية في المرحلة الأولى، وهي تتقاطع مع مجالات زراعية وصناعية يمكن تحديدها بدقة. وتحريك هذه القطاعات الأساسية في المرحلة الأولى يتطلب تخصيصاً واسعاً للموارد، لتخصص لتأمين التراكم الاستثماري الضروري في هذه القطاعات، وتأمين حصة من الإنفاق الاجتماعي لدعمها، وتخفيض كلفها في المراحل الأولى إلى حين إقلاعها وقدرتها على تأمين مواردها دون دعم إنفاقي.

لن تنجح المرحلة الأولى من إعادة الإعمار، إذا ما تم التركيز فقط على دفع مبالغ على خدمات اجتماعية، والعمل بمنطق ترميم المشاكل الاجتماعية، كما تعمل بعض الجهات الدولية، ولن تنجح كذلك الأمر إذا ما يتم الاعتماد على حل المشاكل الاجتماعية عن طريق الموارد اللاحقة المرتقبة من نشاط المستثمرين، كما تركز مؤتمرات الاستثمار المحلية! بل ينبغي أن تدخل الموارد في عملية مركبة دقيقة تضع هدفها: حل المشاكل الاجتماعية الكبرى بأسرع وقت، وبأكثر طريقة مستدامة. عبر تأمين إنفاق اجتماعي لحاجات التعويض والتعليم والصحة، وللإنفاق على استثمارات للمشاريع الإنتاجية الكبرى: في البنى التحتية، والإنشاء، وإنتاج الحاجات الضرورية والغذاء في مقدمتها، والتي تخدم حل المشاكل الاقتصادية- الاجتماعية الأساسية كالبطالة والفقر حلاً نهائياً لنضعها وراءنا وننتقل إلى المراحل التالية، ونفكر في المستقبل بعد أن نرمم ثغرات الماضي والحاضر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
829
آخر تعديل على السبت, 23 أيلول/سبتمبر 2017 23:57