ملكية الدولة: السلاح الروسي الأمضى...

ملكية الدولة: السلاح الروسي الأمضى...

مجموعة من العقوبات الجديدة على روسيا أقرتها الولايات المتحدة مؤخراً، تضاف إلى العقوبات المفروضة منذ عام 2014 على خلاف الأزمة الأوكرانية.

العقوبات التي هي بمعظمها عقوبات اقتصادية، الهدف المعلن منها هو معاقبة الروس على خلفية مواقف سياسية معينة، أما الهدف منها بالعمق: فهو استخدامها كإحدى أدوات تقييد النمو الاقتصادي الروسي، ومحاولة لعرقلة صعود القوى الجديدة المنافسة للولايات المتحدة، والمتمظهرة بشكل أساسي بمجموعة دول البريكس، ولكن في عمقها الروس والصينيون، كقاطرة للقوى الدولية الجديدة التي تمتلك إمكانيات «ردع الأمريكان».
فهل أدت العقوبات الهدف المطلوب منها، وهل استطاعت فعلاً تقليص نمو الاقتصاد الروسي وتوسعه؟ أم أن الحكومة الروسية استطاعت إيجاد أدوات كفيلة بحماية اقتصادها، والتأقلم مع تلك العقوبات بالشكل الذي يضمن تجاوز آثارها المعرقلة؟
في الحقيقة تشير البيانات إلى أن الاقتصادي الروسي تراجع فعلاً بنسبة 3% في عام 2015، وهو العام الذي تلى عقوبات عام 2014، إلا أنه عاد ليحقق نمّواً بنسبة 1% في عام 2016، ونمّواً بنسبة 2.5% في عام 2017. أي: أن الحكومة الروسية استطاعت خلال عام تجاوز الأثر السلبي للعقوبات إلى حد جيد، ويمكن تصنيف السياسات التي اتبعتها الحكومة الروسية في سبيل ذلك إلى ثلاث: أولاً: زيادة ملكية الدولة في الاقتصاد، ثانياً: الاستفادة من ثرواتها الطبيعية كأداة في سياساتها الخارجية، البحث عن تحالفات جديدة وبناء تكتلات اقتصادية.

خسارة 600 مليار دولار
لاشك أن للعقوبات آثارها السلبية على الاقتصاد الروسي، والتي تجلت في انخفاض قيمة الروبل مباشرة بعد فرض العقوبات عام 2014، الأمر الذي جعل استيراد التكنولوجيا من الغرب أكثر تكلفة، ودفع الحكومة إلى تخفيض ميزانية الاستثمار في البنى التحتية بمعدل 10%، بالإضافة إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 17% ببداية عام 2015. حيث تقدر خسارة روسيا خلال الفترة 2014-2017، جراء حرب النفط والعقوبات الاقتصادية بـ600 مليار دولار. ومع ذلك فإن الآثار السلبية للعقوبات انحصر بشكل أساسي في بعض الشركات والمشاريع الخاصة، مع توجه الحكومة لتوسيع ملكيتها في الاقتصاد، وتحكمها بالقطاعات والمفاصل الاستراتيجية.   

زيادة ملكية الدولة في الاقتصاد
الأداة الروسية لمواجهة العقوبات كانت واضحة وهي بالدرجة الأولى: زيادة حصة الدولة في مجمل نشاطات وقطاعات الاقتصاد الوطني، وبالتالي رفع درجة تحكمها فيه، وتخفيض درجة اعتماده وتبعيته للغرب، وبالتالي تقليص درجة هيمنة الغرب، وقدرته على التحكم في الاقتصاد من خلال العقوبات.
ملكية الدولة في روسيا موزعة ضمن مجموعة من المشاريع التي تملك فيها الدولة ما لا تقل نسبته عن 25% من رأس المال مثل شركة غازبروم التي تمتلك الدولة فيها نسبة 38.37% من الأسهم، وبنك سبيربنك أكبر بنك تجزئة روسي، بالإضافة إلى مشاريع الاحتكارات الطبيعية وخطوط السكك الحديدية، وتتضمن أيضاً المشاريع المملوكة بشكل كامل من قبل الدولة، ويصل عددها إلى 3719 مشروعاً، وفي عام 2013 كانت الشركات التي تسهم الدولة في ملكيتها هي الأعلى ربحاً حيث من ضمن أكبر 25 شركة روسية فإن 10 شركات تساهم بها الدولة لديها حصة 53% من الأرباح الصافية لـ 25 شركة كبرى.
منتصف عام 2015، أصبح 55% من الاقتصاد الروسي بيد الدولة، مع وجود 20 مليون عامل يعملون بشكل مباشر في القطاع الحكومي، وهو ما يعادل 28% من مجمل القوة العاملة في روسيا. وفي عام 2016 ازدادت النسبة بسرعة قياسية حيث أصبحت الشركات التي تساهم فيها أو تملكها الدولة تشكل حوالي 70% من مجمل الاقتصاد الروسي، وفق ما نشرته FAS وكالة مواجهة الاحتكار الحكومية الروسية، وهي أكبر نسبة منذ موجتي الخصخصة في مطلع ومنتصف التسعينيات. أي: أن حصة الدولة من الاقتصاد هي في ازدياد مستمر..
وبشكل عام فإن ملكية الدولة ازدادت في قطاعات المال، الطاقة، المواصلات، التكنولوجيا، الصناعات الثقيلة والإعلام، حيث بلغت في عام 2015: 49% في قطاع المصارف، و45% في إنتاج النفط، و73% في قطاع المواصلات، وغيرها.

مواجهة الأزمة لا العقوبات فقط
في الحقيقة إن التوجه الروسي لزيادة تحكم الدولة بالقطاعات الاستراتيجية مثل: الطاقة، المال، صناعة الآلات والتجهيزات بدأ مع بدء تجلي ظواهر الأزمة الاقتصادية العالمية، ففي عام 2006 على سبيل المثال، استحوذت الحكومة على نسبة 60% من شركة فسمبو-أفيسما، وهي الشركة التي تنتج ثلثي عنصر التيتانيوم في العالم، وفي عام 2007 قامت شركة الطائرات المتحدة، والتي تمتلك الدولة نسبة 51% من رأس مالها، بدمج جميع الشركات الروسية المنتجة للطائرات ضمنها، وارتفعت مساهمة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي من 38% عام 2006 إلى 50% عام 2012، لتصل إلى 70% في 2016 مع ارتفاع التحدي الاقتصادي والسياسي ضد روسيا.
أي: أن هذا التوجه كان قد بدأ قبل العقوبات بأعوام وتسارع على إثرها، فالشركات التي كانت تعتمد في السابق على التمويل الخاص من الخارج تلجأ اليوم للحصول على التمويل من البنوك الحكومية، وفي حالة استمرار الصعوبات، فإن ملكيتها تتحول للدولة. أي: أنه كلما طال أمد العقوبات فإن الملكية الخاصة تتقلص وحصة الدولة من الاقتصاد ترتفع. ومن ناحية أخرى، أنشأت الحكومة في عام  2015  لجنة خاصة لإيجاد بدائل محلية للمستوردات الأوروبية، أي: إيجاد بدائل للتكنولوجيا التي لا يمكن الوصول إليها بسبب العقوبات. بالمقابل منعت الدولة الشركات الروسية من استيراد التجهيزات الطبية ومعدات البناء من خارج الاتحاد الأوراسي بهدف تشجيع البدائل الروسية وتعبئة الموارد المحلية.  


كانت خصخصة الاقتصاد الروسي مطلع التسعينيات واحدة من أهم التعبيرات عن ذروة هيمنة النموذج الغربي الأميركي عالمياً، ولكن الأمر لم يتطلب إلا عقدين من الزمن لتعود حصة الدولة في روسيا إلى 50% وكلما تعمقت أزمة الغرب الاقتصادية واشتدت عقوباته كلما دفعت روسيا وغيرها من القوى المستهدفة نحو الخيارات الموضوعية: «تعاون اقتصادي شرقي»، دور دولة اقتصادي أقوى، وقطع مع أدوات هيمنة الغرب التي يبقى أهمها اليوم المنظومة المالية للدولار العالمي تلك التي أعلنت روسيا على لسان القادة العسكريين استعدادها لمواجهتها بعد العقوبات الأمريكية الأخيرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
824