أيهما أسبق:  البشر أم الحجر؟

أيهما أسبق: البشر أم الحجر؟

«إعمار البشر لا الحجر» هذا ما يكرره البعض عند حديثهم عن ضرورات المرحلة القادمة في سورية، وأولويات عملية إعادة الإعمار، ليعتبروا أن عملية التنمية يجب أن تركز على الجوانب الاجتماعية قبل الجوانب الاقتصادية ومؤشراتها الملموسة.

بالطبع لا نستطيع القول بأن هذه الجملة غير صحيحة، فالبشر هم الهدف من النشاط الاقتصادي، ولكن الفصل الشكلي الذي يجري بين البشر ونشاطهم الاجتماعي العام وبين المقدرات المادية التي بأيديهم أو التي ليست بأيديهم هو فصل غير علمي، «فالبشر والحجر» لا ينفصلان...

الكارثة الإنسانية السورية التي تصنفها الجهات الدولية على أنها أكبر كارثة بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كانت قد حملت تأثيرات كبرى على البنية الاقتصادية السورية، إلا أن تأثيراتها المديدة أتت على البنية الاجتماعية، أي على قرابة 20 مليون نسمة انتقلوا من حالة الركود الشكلي للعقود الأخيرة حين كان التدهور الاجتماعي وعدم الرضا يتراكم بعمق وصمت، إلى حالة انفجار الأزمة بمستويات عنف ونزوح ودمار وفقر وتدهور اجتماعي غير مسبوقة.
«رأس المال الاجتماعي» نصف الثروة
تحاول الدراسات الاقتصادية الاجتماعية أن تصنف مستوى الضرر الاجتماعي لسنوات أزمتنا الست، بتوصيف تدهور «رأس المال الاجتماعي»، وتضع له معايير عامة لتقول بأنه قد تراجع بنسبة 30%، بتركيب مؤشرات قياس من مستوى فقدان الثقة والشعور بالأمان لدى السوريين، ومستوى وطبيعة التفكك لمعظم شبكات العلاقات الاجتماعية، وتراجع القيم والأهداف المشتركة التي تربط هذا المجتمع ببعضه البعض (مركز بحوث السياسات- 2017). حتى أن بعض الدراسات ذهبت لتحدد نتائج رقمية للخسائر البشرية والإصابات المباشرة، والهجرة وتقلص الإنفاق على تشكيل رأس المال البشري ليقدر بأنها تضيف 30% إلى الخسائر السورية كخسائر لرأس المال البشري بالمقارنة مع عام 2010، حيث كان رأس المال الاجتماعي يشكل نسبة 57% من البيانات الدولية لتقدير الثروة في سورية (Hamilton، K. and Nguyen، T. 2017).
ولكن هل ينفصل ترميم تدهور البنية الاجتماعية للمجتمع السوري، عن ترميم البنية الإنتاجية الاقتصادية؟ وإن كان لا بد من وضع أولوية لأحدهما فأيّهما له الأولوية منطقياً؟
بالطبع، من غير الممكن الذهاب إلى عملية إعادة إعمار للاقتصاد السوري، ووضع نموذج وخطة رقمية وتفصيلية، وسط تغافل عن ظواهر اجتماعية هامة كالأمية والتهميش والفقر، دون أن نلحظ واقع أن نصف جيل أطفال الأزمة لا يجيدون القراءة، بينما النصف الآخر معظمهم يتعلم صباحاً ويعمل مساءً، وآخرون يتعلمون في خيم نزوح، أو في الصفوف المكتظة، ويتلقون تعليمهم من مدرسين مثقلين بالسعي وراء رزقهم الذي لا تؤمنه أجور التعليم العام، وضمن مؤسسات تربوية أصبحت تحتاج لعملية تغيير جذرية من كافة النواحي.
ولا نستطيع أن «نعمِّر الحجر» دون الأخذ بعين الاعتبار أن القوى العاملة التي بعمر العمل يتناقص عددها سنوياً بنسبة 2% أي حوالي ربع مليون كل سنة، وأن 78% من الشباب عاطلين عن العمل، ومعظمهم يقتاتون من الانخراط في نشاط الحرب العسكري، أو الاقتصادي، ما يعني أن مرحلة مراكمة الخبرات والمعارف لغالبية الشباب السوري مشبعة بخبرات العنف وبقيم النشاط الاقتصادي غير الشرعي.
فكيف تستطيع أن تبني اقتصاداً قوياً بشعبٍ متعبٍ... حرفياً! بأكثر من 13 مليون فقراء بالمطلق، وقرابة 7 مليون تحت حد الأمن الغذائي أي لا يأكلون ما يكفي لاستمرارهم بشكل سليم ويعتمدون على المساعدات؟!
ما هو فوق مرتبط بما هو تحت!
البنية الاجتماعية محكومة بالتفسخ طالما أن أهم محددات بناء الإنسان الفاعل كالتعليم والعمل بل والغذاء الضروري هي حقوق مسلوبة، وهي مسلوبة لأسباب ترتبط بالحرب، ولكن إذا حددنا أكثر فالأسباب ترتبط بظروف الإنتاج والتوزيع خلال الحرب، فنحن لا نأكل كفاية ولا نمتلك حقنا بالعمل، وحقنا بتعليم أطفالنا عوضاً عن تشغيلهم، لأن الإنتاج الاقتصادي متدهور والدخل الناتج لا يكفي حاجات السير للأمام وهذا من جهة، ومن جهة أخرى، لأن الدخل القليل الناتج يوزع بطريقة جائرة تثري أقلية مالكة وتفقر أغلبية عاملة.
إذاً، لا نستطيع أن نرمم رأس المال الاجتماعي ونعيد الشعور بالثقة والانتماء، ونعزز الفاعلية الاجتماعية والسياسية ونصحح العلاقات الاجتماعية: العائلية والمؤسساتية والقانونية وغيرها، ونرمم كل التشوهات التي طالت بنية المجتمع السوري أو ما يسمى بنيته الفوقية... دون أن تكون أسس بناء الإنسان المادية متوفرة، أي دون أن نتيح السبل المادية للعيش الكريم والتقدم للجميع.
هذه الأسس المحددة والتي نسميها البنية التحتية للمجتمع متمثلة بالإنتاج من جهة، وبطريقة تملكه وتوزيعه من جهة أخرى، أي بالعلاقات الاجتماعية الإنتاجية: أي من يملك الإنتاج؟ وكم يأخذ؟ وكم يعطي الآخرين؟ وهل تسمح علاقات الملكية والتوزيع هذه بالتقدم؟ فإذا بقيت الصناعة هامشية والزراعة ريعية والنقل متخلف والطاقة مقننة ومنهوبة، وبقيت بالمقابل المصارف والتجارة والخدمات منتعشة كما قبل الأزمة فلن يتطور الإنتاج وتزداد الثروة المادية الحقيقية. وإذا بقيت الأرباح تحصل على كل الغلة وتلقي الفتات للأجور، وتعطي حصة هامة لشركاء الغرب الاقتصادي عبر تهريب رؤوس الأموال وعبر التجارة غير المتكافئة وعبر إغراء المستثمرين وتدليلهم، فإن الناتج القليل الناجم سيبقى منهوباً وتبقى أسس البنية التحتية مهزوزة، وتؤدي لفقر وبطالة وأمية أوسع، وبالتالي انتماء وأخلاق وقيم أقل...

لا إعمار البشر قبل الحجر صحيح، ولا العكس صحيح... ولكننا نستطيع القول بأنه لا يمكن إعادة بناء الفرد والمجتمع السوري وتعزيز دور رأس المال الاجتماعي دون أن نضع حجر الأساس لحياة كريمة: بتطبيق نموذج اقتصادي وخطة وأهداف رقمية تضمن إنجاز مهمة الغنى والتقدم للجميع سريعاً، أي تركز على أجدى وأوسع إنتاج، وتمنع استئثار البعض بالعوائد وحرمان الأغلبية.
ولا يمكن بالمقابل أن ينجح تطبيق هذا النموذج التحرري ما لم يوضع نصب الأعين تحرير حماته والمدافعين عنه، أي الأغلبية المحرومة، أولاً بالوصول إلى وقف العنف، وثانياً بوضع أهداف سريعة لانتشالهم من الفقر والأمية والبطالة والتهميش ضمن خطة إعادة الإعمار، لأن هذا شرط استعادتهم للثقة والانتماء ولبناء القيم المشتركة والعلاقات الاجتماعية والسياسية على أساس الدفاع عن التقدم، لا الهروب من المحرقة كما كان الظرف خلال سنوات الأزمة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
823