صناعة ريف دمشق.. بقي العمال و2% من رأس المال
100 ألف منشأة صناعية خاصة تقريباً كانت تعمل في سورية عام 2010، وبين حلب ودمشق وريف دمشق وحمص تركزت النسبة الأكبر من هذه المنشآت بإنتاجها التحويلي البسيط، وبمعاملها القليلة وورشها الكثيرة...
تعتبر حلب المركز الصناعي الأول إذا ما نظرنا إلى معيار عدد المنشآت والمساهمة في الناتج الصناعي، ولكن الكفاءة الصناعية الوسطية في ريف دمشق أعلى فبعدد أقل من المنشآت يتحقق ناتج أعلى، والسبب واضح ويعود إلى أن إنتاجية المعامل الكبيرة في دمشق أعلى من إنتاجيتها في حلب، حيث أكثر من نصف الناتج الصناعي للمعامل الكبيرة كان يأتي من ريف دمشق، بينما الربع تقريباً من معامل حلب في عام 2010، وهذا يعود إلى أن رأس المال الموضوع في الصناعة الكبيرة في ريف دمشق أعلى منه في حلب.
بعض المعطيات من صناعة ريف دمشق لعام 2016 حول عدد المنشآت العاملة حالياً، وعدد عمالها، ونوع نشاطها، تفيد في إعطاء نظرة أولية عن اتجاهات التغير في الصناعة الخاصة خلال سنوات الأزمة، تستعرضها قاسيون فيما يلي.
عدد المنشآت
وعدد العمال «ثابت»!
ثمانية تجمعات صناعية أساسية في ريف دمشق، من بينها المدينة الصناعية في عدرا، وممتدة عموماً من شمال ريف دمشق إلى جنوبه، بينما المخططات التنظيمية تضع إمكانية وجود 18 منطقة صناعية وحرفية في المحافظة، ما يعطي الدلالة على إمكانيات مركزة وتوسع الإنتاج الصناعي في المحافظة.
حوالي 16704 منشأة صناعية منظمة تعمل في ريف دمشق اليوم، بحسب تقرير مديرية الصناعة في المحافظة، والملفت أن العدد الإجمالي لم يتغير كثيراً عن عام 2010 حين بلغ عدد المنشآت الصناعية المرخصة 17924 منشأة صناعية، أي بالمعنى العددي هناك خسارة لأقل من 7% من المنشآت، وحوالي 1200 منشأة.
وكذلك الأمر إذا ما قارنا عدد العمال العاملين في النشاط الصناعي المرخص في عام 2016، مع عام 2010 فإن النتيجة ملفتة أيضاً، فعملياً صناعة ريف دمشق قد قلصت عدد عمالها بمقدار أقل من 3300 عامل فقط!
حيث كانت الصناعة الخاصة في ريف دمشق تشغل 86222 عامل في عام 2010، بينما تشير البيانات اليوم من مديرية صناعة ريف دمشق بأنها تشغل 82706 عامل، بخسارة في عدد العمال لا تتجاوز نسبة 4%.
ولكن الأعداد السابقة لا تعطي الدلالة الكافية، بل ينبغي الأخذ بعين الاعتبار حجم رأس المال العامل في هذه الصناعة والذي تقلص إلى حد بعيد.
تلاشي 98% من قيمة رأس المال
كان مجموع رأس المال للصناعة الخاصة في ريف دمشق عام 2010 يزيد على: 525 مليار ليرة، وحوالي 10.5 مليار دولار بسعر صرف السوق 50 ليرة مقابل الدولار في حينها، فإن رقم رأس مال المنشآت الصناعية في عام 2016 قد تراجع إلى 105 مليار ليرة، وحوالي 202 مليون دولار، بسعر صرف 520 ليرة مقابل الدولار.
أي أن ما تبقى من رأس المال العامل في صناعة ريف دمشق اليوم مقيماً بالدولار لا يشكل إلا نسبة 2% مما كان سابقاً، وخسارة رأس المال تقارب 98%!
وإذا ما أخذنا للمقارنة وسطي حصة كل منشأة من رأس المال الإجمالي، فإن المنشأة الصناعية في ريف دمشق في عام 2010 كانت برأس مال وسطي 585 مليون دولار، بينما رأس المال الوسطي للمنشأة الصناعية في ريف دمشق في عام 2016 قد أصبح: 12 ألف دولار فقط!
الملفت أن نسبة الآلات من رأس المال الموجود في صناعة ريف دمشق أصبحت أعلى من نسبتها سابقاً، فعملياً تبلغ قيمة الآلات في صناعة ريف دمشق عام 2016: 42 مليار ليرة سورية، ولكنها تشكل نسبة 40% من إجمالي رأس المال، بينما كانت نسبة مجموع الأصول الثابتة والتي تضم الآلات والأبنية وموجودات أخرى في عام 2010 تشكل بمجموعها نسبة 42% من رأس المال الإجمالي، أي أن المنشآت الصناعية الإجمالية العاملة في ريف دمشق قد حافظت نسبياً على نسبة الآلات من رأس مالها، ولم تغير كثيراً في تركيبها العضوي، إلا أنها قللت حجم رأس مالها ومجال أعمالها.
بين الحرفي
والكبير تغيرات ملفتة
تصنف مديرية الصناعة المنشآت الصناعية إلى ثلاثة أصناف: الأول هو الحرفي الذي يضم أقل من 9 عمال، والثاني هو الصناعي بسجل صناعي ويعمل بعشرة عمال وما فوق، أما الثالث فهو المشاريع الصناعية الاستثمارية المرخصة وفق قانون الاستثمار، وبين هذه التصنيفات الثلاثة يختلف تركيب رأس المال، ونسبة الآلات وعدد العمال.
وسنصنف كلاً منها حسب نسبته من العدد الإجمالي للمنشآت، حصته من القيمة الإجمالية للآلات، وحصته من التشغيل الإجمالي للعمال.
فالشريحة الأولى وهي المنشآت الحرفية يبلغ عددها 9125، بنسبة 55% تقريباً من عدد المنشآت، وقيمة آلاتها نسبة 2% فقط من قيمة الآلات، بينما توظف نسبة 25% من العمال، وحوالي 20 ألف عامل في ريف دمشق، ونسبة الآلات من إجمالي رأس المال 67% ما يدل على حصة الأجور المنخفضة جداً في القطاع الصناعي الحرفي، بالقياس لما تبقى من رأس المال، وعدد العمال، فحوالي 1,5 مليار ليرة فقط سنوياً تتوزع على قيمة الأبنية والمواد الأولية والأجور لأكثر من 20 ألف عامل في أكثر من 9000 منشأة!
أما الشريحة الثانية أي المعامل المرخصة بسجل صناعي، فيبلغ عددها 7336 معملاً بنسبة 44% تقريباً من عدد المنشآت، وقيمة آلاتها 42% من مجموع قيمة الآلات، بينما توظف نسبة 60% من العمال وحوالي 50 ألف عامل، ونسبة الآلات من إجمالي رأس المال 40%، ليتبقى حوالي 27 مليار ليرة توزع على قيمة الأبنية والمواد الأولية وعلى أجور العمال البالغ عددهم 50 ألف عامل!
بينما الشريحة الثالثة والمتمثلة بالمشاريع الصناعية الاستثمارية، فعددها في عام 2016 لا يتجاوز 234 مشروعاً ونسبة 1% تقريباً من عدد المنشآت، أما قيمة آلاتها فتبلغ نسبة 56% من مجموع قيمة الآلات، بينما توظف نسبة 15% من عدد العمال وحوالي 12 ألف عامل. ونسبة الآلات من إجمالي رأس المال 40%، ليتبقى حوالي 35.5 مليار ليرة توزع على قيمة الأبنية والمواد الأولية وعلى أجور العمال البالغ عددهم 12 ألف عامل!
الملفت أن المنشآت الحرفية التي تضم أقل من تسعة عمال، قد تقلص عدد العمال العاملين فيها بنسبة 62%، بينما ارتفعت نسبة الآلات من رأس مالها، ما يعني أن المنشآت الحرفية التي استطاعت الاستمرار اضطرت إلى زيادة إنتاجيتها عبر الإنفاق على الآلات دون زيادة في عدد العمال. بينما استطاعت المنشآت الصناعية الأكبر أن تستقبل العدد الأكبر من العمال، وتعتمد على العمالة أكثر من اعتمادها على الآلات التي بقيت نسبتها لرأس المال دون تغير، أي أن المنشآت الحرفية تجري نقلات في بنية رأس مالها وتوزيعه بين الآلات والعمال، لتعتمد على الآلات أكثر، بينما المعامل الكبرى تحاول الاعتماد على العمال أكثر وتبقي نسبة آلاتها من رأس مالها ثابتة دون نقلات..
نصف الصناعة كيميائية
تشكل المنشآت الكيميائية نسبة 50% من مجموع المنشآت الصناعية العاملة في ريف دمشق، الجزء الأكبر منها حرفية. وتساهم الكيميائية بنسبة 45% من رأس المال، مقابل 35% من عدد العمال، تليها الصناعات الهندسية بنسبة 23% من مجموع المنشآت، وأغلبها صناعية وغير حرفية، وتساهم بنسبة 16% من رأس المال، ونسبة 25% من العمال، تليها الغذائية، وثم النسيجية ذات المساهمة الأقل في رأس المال وقيمة الآلات، إلا أن نسبة العمال فيها أعلى من الغذائية التي عدد منشآتها هو الأقل بينما قيمة رأس مالها هي الأعلى بعد الكيميائية، وتساهم بأقل عدد من تشغيل العمال بالقياس إلى قيمة الآلات، ما يعني أن الصناعات الغذائية في ريف دمشق منشآتها أقل عدداً ولكن أعلى كثافة برأس المال والآلات، ولكن نستطيع القول بأن أكثر من نصف النشاط الصناعي في ريف دمشق مرتبط بالصناعات الكيميائية.
20%
كانت حصة الأجور من الإنتاج الصناعي الخاص في ريف دمشق لا تتجاوز 20% من القيمة المضافة التي ينتجها العمال، مقابل 80% للأرباح، أي ينتج العامل 40 ألف ليرة شهرياً ويحصل على 8000.
25%
رأس المال الموظف في الصناعة الخاصة في ريف دمشق كان ينتج دخلاً يشكل نسبة 25% من رأس المال، فاستثمار بمقدار 170 مليار ليرة ينتج قيمة مضافة 42 مليار ليرة، ويسترد الصناعي رأسماله خلال أربع سنوات وسطياً.
لا يوجد تقدير لحجم الدخل والقيم المضافة التي تنتج عن هذا النشاط الصناعي المتبقي في ريف دمشق المحافظة التي جزء كبير منها يعتبر مناطق معارك متوترة طوال سنوات الأزمة، فإذا ما كان العامل الصناعي في ريف دمشق عام 2010 ينتج قيمة مضافة سنوية تقارب 490 ألف ليرة، وتؤمن دخل سنوي يشكل نسبة 25% من إجمالي رأس المال، فإنه بافتراض أن إنتاجية العامل لم تنخفض فإن حجم الناتج الصناعي في ريف دمشق لا يزيد عن 40 مليار ليرة سنوياً بأحسن أحواله، وحوالي 77 مليون دولار، إلا أن الناتج الفعلي يقل عن هذا الرقم بالتأكيد لأن إنتاجية العامل قد انخفضت نتيجة انخفاض كتلة رأس المال التي يستخدمها كل عامل، ونتيجة لهجرة الكثير من الكفاءات العمالية، ونتيجة موضوعية لمستوى معيشة أصحاب الأجور حيث متطلبات معيشتهم أعلى من أجورهم الوسطية بتسعة أضعاف تقريباً...
ويبقى لنا التقدير وللأرقام الرسمية الكتمان، عسى أن يتم نشر قريب للإحصاء الصناعي الذي يعلن المكتب المركزي للإحصاء عن إتمامه!
«بارقة أمل»
صناعي.. ولكن!
تستطيع أن تقول عن الإنتاج الصناعي الخاص في سورية أنه «متكيف» في واقع اقتصادي رديء حتى قبل الأزمة، مستفيداً من رافعتين الأولى هي الكفاءات البشرية وخبرة القوى العاملة الطويلة، بشريحة واسعة من خريجي المعاهد التقنية ومعامل الدولة ومهندسي الجامعات الحكومية، والأهم بأجور منخفضة، لم تتجاوز 20% من الناتج الصناعي عام 2010.
أما الرافعة الثانية فهي القدرة العالية على تقليص التكاليف، فعدا عن الأجور هناك الدعم السابق للطاقة، وإمكانات تهرب ضريبي استثنائية وتوظيف قطاع الظل في خدمة الصناعة الخاصة المرخصة...
ولكننا هنا لا نلقي باللائمة على الصناعيين، فهذه الحال كانت جزءاً من بنية الاقتصاد السوري عموماً، وكل من أراد أن يستمر في العمل في القطاع الإنتاجي والصناعي تحديداً عليه أن يبحث عن مسارب التفافية لتحسين الدخل، لأن زيادة الناتج عن طريق التوسيع الاستثماري النوعي ليست مسألة ترتبط بقرارات المستثمرين فقط، بل بمجمل الجدوى الاقتصادية والعائد، وهي تتطلب نقلات نوعية داعمة في البنى التحتية، والعملية التمويلية، وتأمين عتبة تكنولوجية أعلى، وإمكانات استهلاك أعلى في السوق، وهذه بمجملها لم تكن متاحة، طالما أن الأرباح كانت تتكدس في قطاعات غير إنتاجية، أو تخرج خارج البلاد، وجهاز دولة متوقف عن الاستثمار، ويركز على الدعاء بطول العمر للمحسنين من المستثمرين.
هذه الصناعة وأية صناعة متواضعة غير مدعومة، لن تستطيع أن تصمد جدياً في وجه أزمة بهذا الحجم، فالمنشآت ورؤوس الأموال طالها الدمار، أو هربت للخارج، ودعم الطاقة بل وجود الطاقة ذاته أصبح واحداً من الأعباء بعد أن كان واحداً من الروافع، والعمالة الخبيرة قد غادرت البلاد، أو هدّها التعب بعد أن أصبحت متطلبات معيشتها أضعاف أجورها..
ومع ذلك يحاول الكثير من الصناعيين وأصحاب الورش الاستمرار، ويقلع الكثيرون، وأعداد المنشآت في ريف دمشق لم تتغير عن عام 2010، مع ولكن برأس مال لا يتجاوز 2% من السابق، ولكن بمرونة تستفيد من فائض العمالة لتعويض نقص رأس المال، وتستفيد من حاجات السوق الموضوعية في ظل تراجع الاستيراد. قد يقول البعض أن في هذا بارقة أمل، وهو أمر طبيعي، ولكن من قال أن هذا أفضل ما يمكن حتى في ظروف الأزمة؟! ولماذا لا ينخرط رأس المال المتكدس أرباحاً خلال الأزمة والموجود في البلاد في نشاط صناعي أوسع؟! ولماذا لا تتأمن عودة الصناعيين العاملين في مصر وتركيا اليوم ولو بشروط؟! الفرص المتاحة أكبر مما هو الآن، ولكن يعيقها جدياً عقلية الإدارة السياسية- الاقتصادية للأزمة، والتي تسعى لتحويلها إلى «فراخة» ربح سريع وغير شرعي..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 816