هل ينجح الاستثمار.. بمال المستثمرين؟!
بدأ المجتمع الدولي يتحدث كثيراً عن التجهيز للاستثمار، في إعادة إعمار سورية، ويتم تداول الأخبار عن العقود الاستثمارية، ويكثر الحديث عن عروض استثمارية، في قطاع النفط، معروضة للاستثمار والشراكة مع الأصدقاء أو عموماً. وبعد قانون التشاركية، اتضح أن القرار الاقتصادي، هو للسعي المحموم لجذب المستثمرين، ليحلّوا مشاكلَ الاستثمار العام والبناء..
كيف نقف موقفاً مبدئياً ومَرِناً وواقعياً من مسألة الحاجة للاستثمار في المرحلة القادمة؟ وكيف نتقي شرور سعيه نحو أقصى ربح؟! وكيف نستطيع أن نفرض المصلحة الوطنية العامة على شركات الاستثمار الصديقة، أو غيرها، التي سنحتاج إلى قدراتها المادية والفنية؟!
هل الاستثمار ضروري؟
بالتأكيد، فالاستثمار هو أول محدد من محددات النمو، حيث أن ضعف الاستثمار، هو: واحدة من المشاكل الهيكلية في الاقتصاد السوري قبل الأزمة، فنسبة الاستثمار الوسطية سنوياً قاربت 11% من الناتج بشكل وسطي، وهو ما يعني: أن الاستثمار لم يكن يتوسع، بل كان يعوض فقط ما استهلك خلال عام سابق من معدات وأدوات، والأسوأ، أن هذا الاستثمار الذي تركز هو من مصادر خليجية وأوروبية، وصبّ في قطاعات مالية وسياحية وعقارية، بينما الصناعية أتت بنسب أقل بكثير.
ومع احتدام الأزمة سياسياً واقتصادياً، فإن رأس المال المستثمر في سورية، خسر ما يقارب 67 مليار دولار عبر الدمار والسرقة، وانتقل أكثر من 22 مليار دولار إلى الإقليم.
ومقابل هذا الضعف القديم في الاستثمار، والتهتك الكبير خلال الأزمة، هناك الحاجات الكبرى في مرحلة إعادة الإعمار، إلى استثمار أكبر قدر من الموارد، في مواضع النمو الحقيقي، والحاجة إلى توسيع الاستثمار، هي حاجة استثنائية في الظرف الراهن، وقد قدّرها الاقتصاديون قبل الأزمة بنسبة بين 30-40% من الناتج سنوياً، وهو ما يعني أن أكثر من ثلث الناتج السوري، يجب أن تتم عملية إعادة استثماره في سورية سنوياً. أي من الضروري المحافظة على تراكم كمّي سنوي للاستثمار، وهذا لا يمكن إلا بأن يتم الاقتطاع من الأرباح، لتدخل في توسيع الإنتاج، والاقتطاع بمقدار أكثر من ثلث الناتج، ويزداد وفق الضرورات.
ولكن هذا الكم السنوي من الاستثمار، لا يفترض أن يكون أيَّ كم! بل من نوع محدد، ومدروس بدقة، وفق محددات يمكن أن نحصرها أولياً فيما يلي:
القطاعات التي تشكل روافع تنموية من جهة: كالطاقة، والنقل، وغيرها، وفي القطاعات التي تخلق الثروة المادية مباشرةً مثل: الصناعة والزراعة، والبناء بالدرجة الأولى، وفي المجالات التي تدرّ أعلى مستوىً من الدخل، مثل ما نسميه: الميزات المطلقة السورية، أي المنتجات التي قد تنفرد بها سورية، وتستطيع أن تحقق دخلاً عالياً من إنتاجها وبيعها، وقد درس الباحثون الكثير منها، ونستطيع أن نذكر غنم العواس، والوردة الشامية، ومنتجات حجر البازلت، وغيرها..
إذاً الاستثمار أهم ضرورات إعادة الإعمار، ولكن كم الاستثمار: الذي يجب أن يزيد على ثلث الناتج، ونوعه، مسألة دقيقة وضرورية، وذات طابع وطني، أي يجب أن تكون مخططةً وفق خطة وطنية عامة للاستثمار. ولكن هل يتفق هذا مع الملكية الخاصة، بل والخارجية أحياناً للموارد الاستثمارية؟!
مالكو رأس المال المستثمر
الاستثمار بالنهاية، هو: موارد مالية كبرى، يجب أن تكون متوفرة وجاهزة، للدخول بهذا الكم ووفق هذا النوع المحدد في خطة وطنية للإعمار. ولو أن الموارد العامة التي يتحكم بها جهاز الدولة متوفرة، فإن عملية إدخالها في الخطة، هي إمكانية أعلى من انتظار الموارد الخاصة لمالكي الاستثمارات. حيث يتحول تراجع الموارد العامة إلى الذريعة الأولى للقول: بإننا بحاجة إلى الموارد من الخارج، تلك التي تأتي بأشكال محددة عادةً: قروضاً أو استثماراً مباشر أو مشتركاً من قبل مؤسسة دولية أو دولة أو شركة.. يضاف إلى هذا، أن متطلبات الاستثمار النوعية، من معدات أو تكنولوجية، أو خبرات، تفرض أحياناً شروط المستثمرين في ظل صعوبة أن تغطي الإمكانات السورية في ظل صناعتها البسيطة، وعدم وجود أية نقلات نوعية كبرى في قطاعات إنتاج وسائل الإنتاج في سورية، منذ الاستقلال وحتى اليوم، كما في أغلب دول الجنوب الصغيرة.
وبناء على ما سبق، فإن المالكين الخارجيين للموارد، أي المستثمرين، مالكي وسائل الإنتاج الضرورية لبناء سورية، هم معطى سيدخل حكماً في عملية الاستثمار في القطاعات الضرورية الكبرى على الأٌقل.
وملكية هؤلاء للموارد الاستثمارية التي نحتاجها، قد تعيق تنفيذ خطة وطنية للاستثمار. فالمالكون الخاصون للشركات والتكنولوجيا والموارد المالية، يسعون للربح، والأقصى منه، وغالباً ما يسعون إليه، وخاصةً في المرحلة النيوليبرالية للاقتصاد العالمي، من القطاعات ذات الربح السريع كالمضاربة العقارية، وقطاعات المال، ويبتعدون عن قطاعات الإنتاج الحقيقي الكبرى المكلفة، إلا إذا تأمنت لهم تسهيلات وعقود احتكارية تضمن ربحاً مرتفعاً.
وهنا ينشأ التضاد، الذي لا بد من إيجاد سُبُلٍ لحَلّه، وجعل المصلحة الوطنية قادرة على فرض نفسها على هؤلاء المستثمرين أياً كانوا. فقد لا يرضى هؤلاء العمل إلا بنسبة كبيرة من العوائد، وبملكية كاملة للمشروع، وبمدة زمنية طويلة، وقد لا يرضى هؤلاء أن يوظفوا أرباحهم في توسيع العملية الاستثمارية في سورية، بل يشترطون أن تخرج أرباحهم من البلاد.
ويجب أن تكون لدينا القدرة على وضع جملة من الاشتراطات:
بتمويل المشروع، والحصول على عوائد منطقية للمستثمرين، سواء فوائد أم أرباح، بملكية عامة للاستثمار مباشرةً أو بعد فترة قصيرة، بضرورة فرض استمرار توظيف أرباح المستثمرين المنتجة في داخل سورية، وعدم إخراجها بأكملها، بضرورة نقل التكنولوجيا، والمهارات، وغيرها من المحددات والاشتراطات الاستثمارية، والتخلص من منطق: جذب المستثمرين، وتقديم الإعفاءات، والتسهيلات الضريبية، والعقود الاحتكارية، ونقل الملكية إلى هؤلاء كما حصل ويحصل!..
ولكن كيف لنا أن نفرض على هؤلاء مُحدّداتِنا؟! وأن نرفع موقعنا التفاوضي؟!
المسألة مرتبطة بفكرة: (من يملك يحكم)، فلا يمكن أن نفرض الشروط إلا إذا ملكنا خيارات أخرى، أي موارد أخرى، ما يعني أنه يجب زيادة وزن المصلحة العامة، ولا طريق لذلك إلا بزيادة وزن الملكية العامة، والموارد العامة في عملية الاستثمار، وهنا أيضاً يجب أن نسأل كيف؟ وهل يمكن؟!
مصادر منسية للموارد العامة!..
حتى يستطيع السوريون، أن ينفذوا خطتهم الوطنية للاستثمار في إعادة الإعمار، لا بد أن يمتلكوا مواردهم الوطنية، وهذا لا يمكن أن يتم، إلا عبر جهاز دولةٍ مراقب شعبياً، بالأدوات السياسية والديمقراطية في المرحلة القادمة.
لذلك فإن توسيع الموارد العامة، التي تدخل في الاستثمار هو ضرورة فما سبله الأساسية؟!
الحق بالتعويضات الدولية
يحق للسوريين بعد الكارثة الإنسانية، التي ساهمت بها جهات دولية عدة، عبر العقوبات، وعبر التمويل والتسليح، بل وعبر التدمير والسرقات المباشرة، أن يحصلوا على تعويضات دولية، وليس قروضاً أو مساعدات. وهذه التعويضات يجب أن تكون مورداً من أهم موارد الاستثمار، أي أن تصب في هيئة سياسية وطنية عامة، وألا تكون مقدمةً بأشكال محددة وضيقة، كما في حالة المساعدات الدولية التي تمولها جهات مالية أو سياسية، عبر مؤسسات غير حكومية محددة، وقد أثبتت تجارب إعادة الإعمار السابقة، أن هذا يؤسس لتهميش دور جهاز الدولة، وزيادة الولاءات الخارجية. أما حول مبلغ التعويضات فيمكن القول: بإنها يجب أن تكون بالحد الأدنى، تعادل الخسائر من العقوبات، والتي تقدر بأكثر من 40 مليار دولار، مع ضرورة تقدير خسائر السرقات المنظمة في الشمال السوري، وغيرها من التفاصيل الملموسة.
الحق بالأموال المنهوبة
تحولت الأزمة السورية وبجانبها الاقتصادي تحديداً، إلى فرصة ذهبية للقلة القليلة من أصحاب رؤوس الأموال، وممن جنوا أرباحاً كبرى، بمقدار خسارات السوريين الاقتصادية الكبرى. وسواء كانت طريقة هذا الجني شرعيةً أم غير شرعية، وفق منطق السوق، فإنها غير عادلة وفق المنطق الموضوعي، الذي يقول: إن الثروات الكبيرة قابلها الفقر الواسع، فهؤلاء جنوا أرباحهم من الاستثمار في النهب من الجوع، عبر الاحتكار وارتفاع الأسعار، ومن الدمار عبر مراكمة ثروات من السرقات، ومن العنف عبر سطوة وقوة السلاح والفوضى، وما يترتب عليها من فرض الأتاوات على مختلف جوانب النشاط الاقتصادي. وهؤلاء جميعهم استثمروا بحماسة في المضاربة على قيمة الليرة، وغنموا من تدهور معيشة السوريين وعملتهم الوطنية. وهؤلاء يستولون على نسبة تفوق ثلاثة أرباع الناتج، (وهي حصة الربح قبل الأزمة) مما تبقى من الناتج السوري، ويتركون أقل من الربع لمجمل السوريين المتبقين في البلاد، وبناءً عليه، فإنه من الضروري أن يتم وفق عملية سياسية اقتصادية وطنية، إيجاد طريقة للمحاسبة المباشرة ومصادرة الأموال التي جنيت من الأعمال غير الشرعية قانوناً، وطريقة أيضاً لفرض حصة عامةٍ، وإعادة توزيعٍ للثروة على كبار الرابحين ومالكي الثروات حتى لو كانت أعمال هؤلاء (نظيفة قانوناً).
وإذا أردنا أن نضع تقديراً بالأرقام، فإننا نستطيع القول: إن حصتهم البالغة أكثر من ثلاثة أرباع الناتج حكماً، أي حوالي 140 مليار دولار من الناتج المتراكم خلال السنوات 2011-2015 بمجموع: 187 مليار دولار تقريباً، فإن مصادرة وإعادة توزيع نسبة 15% منها فقط، تعني مواردَ عامة بمقدار: 20 مليار دولار تقريباً.
حقوق الدولة
هناك بعض القطاعات، التي يُفتَرض أن تكون ملكيةً عامةً، وهذا الفرض منطلق، من محوريتها في العملية الإنتاجية، ودخولها كمعطى في كل نشاط اقتصادي، وبالتالي عوائدها الكبرى، ما يفتح احتمالات تحويلها إلى عنصر تخفيض للتكاليف، وتسهيل للعمليات الإنتاجية في حالة إدارتها وطنياً، أو العكس بإعاقة النشاط الاقتصادي والتحكم بمستوياته وأسعاره، إذا ما كانت ملكيتها فرديةً وخاصةً!
فالملكية العامة لهذه القطاعات الاقتصادية، تعطي وزناً اقتصادياً لجهاز الدولة، وترفع موقعه التفاوضي. مع المستثمرين الآخرين، لتستطيع المصلحة العامة أن تدخل كمحدد، وقد خبرت سورية هذا، وإن كان في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، عندما ألغت اتفاقيات أنابيب النفط مع شركات بريطانية، وخبرته غيرها من الدول بعد عام 2000، كما في فنزويلا وبوليفيا، الدول التي نقلت ملكية قطاعها النفطي، من ملكية خاصة إلى عامة، عندما أنهت عقود استثمار الكثير من الشركات الأجنبية في حقول النفط. حتى ألمانيا وفق نموذج إعادة إعمارها، أبقت قطاعات الطاقة والبنية التحتية ملكاً لجهاز الدولة، وتحت إدارته، على الرغم من وجود استثمار أمريكي كبير وفق مشروع مارشال في هذه القطاعات.
وفي هذه القطاعات، فإن الملكية العامة لوسائل الإنتاج ضرورة، حتى ولو دخلت الشركات الأجنبية في تمويل المعدات، أو في حصة استثمارية فإن تحديد فترات استرداد رأس المال، والعائد لهذه الشركات، يجب أن يكون منطلقاً من تسريع التحول نحو ملكية عامة لوسائل الإنتاج، وبالتالي ملكية وإدارة عامة لمنتجات وخدمات هذه القطاعات، والأولوية في هذا، لقطاعات الطاقة سواء النفط أو الكهرباء، والنقل، والاتصالات.
40 مليار دولار
تشير التقديرات إلى أن أثر العقوبات على سورية، يقارب خسارة 40 مليار دولار، ويمكن القول: إن هذا هو الحد الأدنى لحق السوريين بالمطالبة بتعويضات دولية، وليست قروضاً ومساعداتِ، بينما خسائرها الإجمالية فتقدر بـ 200 مليار دولار!
140 مليار دولار
تراكمت الثروات لدى كبار الرابحين في سورية، خلال الأزمة، وإذا كانت حصة هؤلاء 75% من الناتج كما هي قبل الأزمة، فإنهم قد راكموا ما يزيد عن 140 مليار دولار إضافية، وإعادة توزيع 15% فقط منها يعني 20 مليار دولار للمال العام.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 795