بين «مشروع الإصلاح الاقتصادي».. وإصلاح المصالح!!
يقصد بكلمة «إصلاح اقتصادي» القيام بتعديلات في مسيرة الاقتصاد الوطني، من خلال تحديد الأخطاء المرتكبة وسبل معالجتها من جهة، وتحديد المجالات الجيدة وكيفية تنفيذها من جهة أخرى.
أهداف الإصلاح
إن أهداف هذا الإصلاح تختلف من مكان إلى آخر ومن بلد إلى بلد، وغالباً ما يكون الهدف النهائي من الإصلاح هو الوصول إلى أحد الأمور التالية:
1. تعديل بنية النظام الاقتصادي السائدة وإدخال أنظمة جديدة كمشاربع الإصلاح الاقتصادي التي ظهرت في العقود الماضية في أغلب البلدان العربية في مصر والأردن وتونس، والتي تركز في تحويل بنية الاقتصاد الوطني نحو اللبررة واقتصاد السوق عن طريق تطبيق وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين.
2. إصلاح النظم الاقتصادية السائدة لتسخيرها في خدمة المواطن الذي يفترض أن يكون الهدف الأساسي لأي مشروع إصلاح ولأي عملية تنموية.
3. إعادة تقسيم الأدوار في الاقتصاد الوطني نحو إعطاء الأهمية لقطاعات مكان أخرى وهذا الهدف يتطلب أن تتوفر في البلاد تعددية اقتصادية، وقطاعات: عام وخاص ومشترك، متعايشة إلى جانب بعضها، فيأتي الإصلاح لإعطاء أهمية متزايدة لإحداها على الأخرى وفقاً لقوة الضغط التي تمارسها كل منها.
وقد جاء مشروع الإصلاح الاقتصادي الأخير في سورية على أنه ضمن إطار عام للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، مما يعطيه مسؤوليات أكبر وأهم من كونه مشروع إصلاح اقتصادي، لأن الإصلاح الاجتماعي ينطوي في مفهومه على إجراء تعديلات أساسية في بنية المجتمع السوري من خلال تغير محاور الأهمية في طبقاته العلياوالوسطى والفقيرة.
وقد جاء هذا المشروع من حيث الأهداف والخطط الزمنية التطبيقية والمنطلقات كما حددته الحكومة على الشكل الآتي:
أ ـ الهدف الأساسي للمشروع حددته الحكومة بإجراء تغيير في بنية العملية الاقتصادية الوطنية والتخصص الوطني الإنتاجي وحتى في علاقات سورية الخارجية، على أن تساهم بالإضافة لذلك جميع القطاعات مساهمة فاعلة في تحقيق التنمية.
ب ـ تحدد مناطق وميادين الإصلاح بميادين أساسية في مجالات النقد والإدارة والمصارف والضرائب والتجارة الخارجية والاستثمار والصناعة، وميادين داعمة في مجالات التربية والتعليم والطاقة والزراعة والسياحة.
ج ـ حدد البرنامج الزمني للمشروع بخمس سنوات قسم لفترتين: الأولى من عام 2002 ـ 2004 ينفذ خلاله برنامج الإصلاح الاقتصادي وتكون مؤشراته في تحقيق معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي لا يقل عن 3 % بالأسعار الثابتة. الثانية بين عامي 2005 ـ 2006 تتوقف أهدافه على ماسيتحقق في المرحلة الأولى من عملية الإصدار. > >
المواطن.. خارج مشروع الإصلاح الجديد!!
ولمناقشة مشروع الإصلاح الاقتصادي في ميادينه الأساسية والداعمة لابد من التوقف عند النقاط التالية:
1. في جوهر الإصلاح: إن إجراء أي إصلاح اقتصادي لابد من أن ينطلق من تقييم قاسٍ للواقع الحالي وتحديد الطريقة التي سار عليها الاقتصاد الوطني في المرحلة السابقة للوصول إلى نقاط الضعف الأساسية في جميع الميادين الإصلاحية، وإذا لم يتحقق هذا الموضوع في مشروع الإصلاح الاقتصادي فسيكون أهم أهدافه إنهاء وتهميش القطاعات الاقتصادية السابقة وأعمالها نحو بناء اقتصاد جديد بكل متطلباته.
وبالنظر إلى المشروع الإصلاحي في سورية قرر أن هدفه الأساسي يتفرع في أمرين:
الأول: تغيير بنية العملية الاقتصادية الوطنية وتغيير التخصص الوطني الإنتاجي وعلاقة سورية بالدول الخارجية، وهذا يتضمن بشكل واضح الاعتراف الضمني برفض (وليس إصلاح) كل ما هو موجود والعمل على تحقيق بنية جديدة تتغير فيها خصائص الاقتصاد السوري وميادينه.
الثاني: مساهمة كل القطاعات الموجودة مساهمة فاعلة في تحقيق عملية التنمية المنشودة، وهو اعتراف آخر وصريح بالمحافظة على جميع القطاعات الموجودة والاعتراف بوجودها الاقتصادي والعمل على مساهمتها في عملية الإصلاح الجديدة بأي شكل.
وبالنظر لما تقدم نرى أنفسنا أمام تناقض أساسي في هيكلية الإصلاح المنشودة وأهدافه المرجوة فهو بآن واحد إلغاء ورفض وتجديد، إضافة إلى اعتراف ومحافظة وتجديد.
2. في الإصلاح الاجتماعي: من الواضح أن وضع المواطن السوري في قمة أهداف مشروع الإصلاح الجديد لم يتحقق وهذا الكلام لم يأت اعتباطاً بل استناداً إلى وقائع وإجراءات جاء بها المشروع الجديد لعل أهمها في:
أ ـ إن إجراءات التعديل على بنود الموازنة العامة في سورية قد حددت هدفاً أساسياً مستقبلياً يحصر العجز السنوي بـ 3 % ـ 4% كحد أقصى مسموح به وللوصول إلى هذا الهدف حددت المهام التالية:
■ توسيع المطارح الضريبية لتصبح الضريبة على إجمالي الدخل وليس على صافي الدخل ( أي لتشمل المكافآت والعلاوات والتعويضات).
■ وضع ضريبة جديدة على المبيعات.
■ معالجة العجز التمويني وعجز المشتقات النفطية نحو تحديد أسعار هذه السلع حسب آليات السوق والعرض والطلب (أي التخلي عن الدعم الحكومي لها).
■ رفع إيرادات الإدارات المحلية (البلديات) بما يحقق التنمية الذاتية لكل منها.
إن المهام والإجراءات السابقة ستكون نتائجها واضحة وجلية في وضع أعباء جديدة على المواطن السوري ليكون الإنسان ذو الدخل المحدود الضحية الأولى للإصلاح الضريبي السوري، فهو الوحيد الذي لايستطيع أن يخبئ دخله الصافي أو الإجمالي أو يخفيه عن محصلي الضرائب... ناهيك عما سيحققه رفع الأسعار التموينية للخبز والسكر والمازوت من اضطرابات اجتماعية قبل أن تكون اقتصادية، ساحقا ًمعه آخر أمل في بقاء أو وجود للطبقة الوسطى.
ب ـ إن ربط الأجر بالرقم القياسي لأسعار التجزئة وبمعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي هو مؤشر إيجابي وخطوة لاحقة لتعديل الدخول الحقيقية، أما تطبيقه الفوري فهو يعني الاعتراف بصراحة بالدخل الحالي كونه الدخل الأمثل والمحقق لجميع الحاجات والمتطلبات ومن ثم فإن رفعه التدريجي المستقبلي لن يكون لزيادة إشباع الحاجات وإنما لمواجهة الارتفاع في أسعار السلع ا لأساسية والاستهلاكية في سورية.
ج ـ إن معالجة الأجر السوري من خلال ماتقدم ستبقي كتلة الأجور السورية عبارة عن كتلة طلب شرائي دائم مما سيحول أي زيادة في الأجور وبشكل تلقائي إلى الطبقات الأخرى في البلاد عبر عملية رفع الأسعار المستمرة، وليبقى مع هذا الأمر الإنسان الكادح عاجزاً عن مواجهة أي خطر مفاجئ قد يواجهه في يوم ما هو أو أحد أفراد أسرته.
3. في هيكلية الإصلاح الاقتصادي:
4. إن كلمة إصلاح اقتصادي اجتماعي منشود تعني إعطاء الأولوية نحو دعم الشريحة الواسعة من السكان ألا وهي العاملين بسواعدهم وأدمغتهم وبالتالي فهو قبل كل شيء إصلاح في الميادين الاجتماعية من وزارة الشؤون الاجتماعية إلى وزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم إضافة إلى وزارة العدل، لأن أي إصلاح اجتماعي لا ينطلق من هذه الميادين لن يكون إلا ترميماً لأخطاء سابقة واعترافاً بالواقع الموجود.
إن مشروع الإصلاح المنشود قد ركز جل اهتماماته على إيجاد بنى اقتصادية جديدة من خلال إعادة تقسيم الأدوار والأهمية للقطاعات الاقتصادية المتعايشة (العام والخاص والمشترك) وقد أعلن بوضوح أن ميادين إصلاحه الأساسية ستكون في مجالات النقد والاستثمار والضريبة والتجارة والصناعة أما ميادين التربية والتعليم والثقافة فستكون ميادين داعمة للإصلاح الاقتصادي، وكلمة داعمة تخفي وراءها أمراً واحداً مفهوماً وهو إعادة هيكلة هذه الميادين الاجتماعية لتنسجم مستقبلا ًمع الإصلاحات الاقتصادية الجديدة، أي بدلا ًمن تسيير الاقتصاد نحو دعم الطبقات الاجتماعية والمصالح الوطنية، فتأتي هيكلة وإعادة تركيب البنى الاجتماعية لتتوافق والإصلاحات الجديدة.
5. في البرنامج التنفيذي للإصلاح:
إن الإصلاح الاقتصادي هو مشروع استراتيجي وطني قبل كل شيء واستراتيجية الإصلاح تعني وضع خطط مستقبلية استشرافية لواقع مأمول من خلال الوقائع الموجودة والتقييم السابق، ومن ثم لتنفيذ هذه الخطط بخطط قصيرة الأجل ومتوسطتها وسريعة التنفيذ وآنية النتائج ومتلاحقة التوقيت لتصل في نهايتها بعد أكثر من عقد إلى الأهداف الاستراتيجية المرجوة.
لقد وضع مشروع الإصلاح الجديد أمامه برنامجاً زمنياً لخمس سنوات إصلاحية تنفذ خلال قسمها الأول (2002 ـ 2004) كامل الإصلاحات الهيكلية والإدارية المطلوبة للوصول إلى نتائج وأرقام حددت مسبقاً.
إن الوصول إلى أرقام مسبقة (في رفع معدل النمو 3 % وتخفيض العجز إلى 4 % وزيادة الاستثمارات في المناطق الحرة إلى 17.1% وتخفيض الرسوم الجمركية ورفع معدل الاستثمار إلى 27 % من الناتج الإجمالي وغيرها من الأرقام) في غضون ثلاث سنوات هو في لغة المنطق ليس سوى تنفيذ لخطط واستراتيجيات موضوعة مسبقاً، وهو بالتالي ليس مشروعاً إصلاحياً بقدر ما هو مشروع تنفيذي لتعديل وتغيير البنى والوقائع الموجودة في أقصر مدة ممكنة ومحتملة.
■ وبعد قراءة آلية تطبيق مشروع الإصلاح الاقتصادي في ميادينه الأساسية والداعمة، بمقارنتها بالأهداف والمنطلقات الموضوعة سنصل إلى جوهر حقيقة الإصلاح الاقتصادي المرجو (فهو قبل كل شيء ليس سوى إعادة تقسيم للادوار والمصالح بين القطاعات الاقتصادية السورية العامة والخاصة، وهو إصلاح اقتصادي هيكلي قبل أن يكو ن إصلاحاً اجتماعياً يرمي لإيجاد صيغة جديدة للتعايش بين قوى القطاع العام وبين قوى القطاع الخاص المدعومة داخلياً وخارجياً من قوى السوق).
استمرار الصراع بين جشع الخاص وترهل العام
إن ما يدعم ما ذكرناه يمكن استنتاجه وبوضوح تام من المشروع، وسنوضحه بالآتي:
1. تطبيق السياسات المالية والنقدية لصندوق النقد والبنك الدوليين والمطبقة في غالبية الدول العربية من خلال:
■ تحرير الأسعار وإلغاء الدعم.
■ تخفيض العجز الحكومي في الموازنة برفع الإيرادات وتخفيض النفقات.
■ تخفيض التعرفة الجمركية وتحرير التجارة الخارجية.
■ تحرير النقد الوطني (تحرير سعر الصرف) لملاءمة آليات العرض والطلب وإقامة بورصة مالية ونقدية في البلاد لربطها بالنظام الاقتصادي العالمي.
2 ـ إن تطبيق السياسات السابقة، والتي تدعم قبل كل شيء، آلية السوق والقطاع الخاص السوري لم تتعد مجال الإصلاحات الهيكلية الأساسية في إجراء الخصخصة وإلغاء القطاع العام كما حصل في البلدان العربية، بل ركز المشروع الإصلاحي ا لجديد في جزئه الثاني بمحافظته على القطاع العام ودعمه ورفده بجميع الإمكانات المطلوبة، وهنا جاء الطرح متكاملاً على مستوى القطاع العام الصناعي من خلال دعمه ورفده بجميع الإمكانات المطلوبة وباستراتيجية متناسقة المراحل متعددة الأهداف انطلقت قبل كل شيء من واقع الصناعة في القطاع العام وأسباب التراجع لنضع بعد ذلك خططاً قصيرة ومتوسطة الأجل لتنفيذ بنود وأهداف خطة شاملة استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة بناء قطاع عام صناعي رائد بكل ما تتضمنه الكلمة وقد ظهرت هذه الخطط واضحة في مشروع الإصلاح الجديد.
3 ـ إن التخطيط الواعي والمحكم لسياسات الإصلاح الاقتصادية في القطاع العام الصناعي يظهر فرقاً شاسعاً في التخطيط في القطاعات الأخرى سواء النقدية أو المصرفية أو التجارة الخارجية والتي لم تتعدَ استراتيجية الإصلاح فيها سوى ذكر أهداف كبيرة ومعروفة دون تحديد للأخطاء السابقة أو توضيح للسياسات المستقبلية، وهذا الأمر يؤكد ما ذكرناه سابقاً من تقسيم الإصلاح الجديد حسب مصالح ونفوذ القطاعين العام والخاص السوريين حيث أعطيت الأولوية والريادة للقطاع العام الصناعي للقيام بدوره الأساسي في رفد الصناعة السورية والمحافظة على الوجود المستمر للقطاع العام بهيكليته وتشعباته وترهلاته المعروفة، وأعطيت قوى السوق ميادين التجارة والاستثمار لتمارس نشاطاتها وآلياتها المكشوفة. ولعل أشد ما يخيف في الأمر هو في تمهيد الأجواء وتحضيرها نحوصراع حتمي مرتقب بين جشع القطاع الخاص الذي سيظل هو وقواه مطالباً بتنازلات جديدة وبين القطاع العام وطبقاته المستفيدة وأبعاده السياسية والاجتماعية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 179