الثلاثاء الاقتصادي يعرض لمشروع «سورية 2025».. جمال باروت: المشروع تجربة استشرافية فريدة بالنسبة للبحث العلمي والتنمية في سورية الدردري: لم يقرأ أحد منا هذا المشروع بكامله!

«الأستاذ عبد الله الدردري إنسان متفهم وديمقراطي نسبياً، ولكنه لم يتحمل أن يبقى ليسمع أنه يجب عليه الاعتذار عما قاله في محاضرته التي قدمها في أولى ندوات جمعية العلوم الاقتصادية هذا العام، إذ قال (حينها): لم تقدم الجمعية العلمية الاقتصادية السورية أية قيمة مضافة في البحوث التي تقدم إلى الحكومة السورية.. إنه لم يتحمل أن يقول ما قاله الآن دون أن يعتذر، أن يعتذر علناً!..».

هكذا رد د. معن نعمة على مداخلة النائب الاقتصادي في ندوة الثلاثاء الاقتصادية الأخيرة التي قدمها الأستاذ جمال باروت تحت عنوان «الاستشراف ومشاريع الاستشراف في المنطقة: حالة مشروع (سورية 2025)»، وكان النائب الاقتصادي ترك جمهور الندوة- لضيق وقته- بعد أن تحدث عشر دقائق، ومما قاله في الندوة الأخيرة: «أردنا مشروعاً وطنياً لسورية من المجمع العلمي السوري ولم نرد مشروعاً حكومياً، وكان هذا مقصوداً، لأننا كحكومات إنما نحن زبائن لمشروعات مثل هذه، ولسنا مولدين لها، (..) ولكن كيف سنستفيد من هذا المشروع؟! لقد قرأنا نتاجه قدر الإمكان، ومن يدعي أنه قرأ نتاج هذا المشروع بكامله فهو مدع.. لم يقرأ أحد منا هذا المشروع بكامله!..».
وفي المحاضرة، قدم الأستاذ باروت عرضاً أكاديمياً لمشروع (سورية 2025)، بيّن فيه خطوات إتمام هذا المشروع موضحاً ماهية هذه الأنواع من المشروعات، وقال: «كان هذا المشروع تجربةً فريدةً بالنسبة للبحث العلمي المرتبط بقضايا التنمية في سورية، وقد بُدئ التفكير به عام 2005 على أساس أن يتم إنجازه ليكون إطاراً مرجعياً لبناء ووضع الخطة الخمسية العاشرة، ولكن أموراً ومشكلات عديدة لعبت دوراً في عدم إنجاز أهداف المشروع وتحديداً هذا الهدف: أن يشكل قاعدةً أساسيةً لوضع الخطة الخمسية العاشرة».
وأشار باروت إلى أن (سورية 2025) هو المشروع الاستشرافي الأول من نوعه في سورية، ولكنه ليس الأول في المنطقة، فقد سبقه على مستوى المنطقة العربية مشروع شديد الأهمية هو مشروع استشراف الوطن العربي 2015، وكان هذا المشروع بدأ عام 1985، وعدّد الباحث مجموع المشروعات الاستشرافية في المنطقة مبيناً موقع المشروع السوري بين أبرزها، كما تطرق إلى الصعوبات التي واجهت إعداد المشروع السوري.
وأوضح باروت أن إعداد دراسة المشروع شملت وضع ثلاثة سيناريوهات استشرافية كلية للمشهد الاقتصادي السوري حتى 2025 هي: المشهد المرجعي، أو مشهد استمرار الاتجاهات؛ والمشهد الليبرالي؛ ومشهد الدولة التنموية.. كما أوضح أن الدراسة قامت بتحديد الفرضيات والفرضيات المضادة في كل مشهد على حدة، وحددت القطاع- القاطرة لتحقيق التنمية في كل مشهد أيضاً، إلى جانب تحديدها للاعبين الأساسيين وتحديد الاتجاهات الإيجابية والسلبية لكل مشهد من المشاهد الثلاثة.
كما أوضح باروت أن كل المشاهد الاستشرافية تبدأ بالمشهد المرجعي أي بفرضية أن التطور سيكون وفق ما تم خلال العقود الماضية، وأن العوامل والظروف التي حكمت التطور الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي ستستمر في حكم التطور المستقبلي خلال العقدين القادمين، وهذا اسمه مشهد استمرار الاتجاهات، وهو فرضي، لكن تعاملنا معه على أنه ليس تطوراً خطياً خيطياً، بل إنه يحتمل عملية انحراف نحو اليمين أو اليسار، أي نحو الدور الليبرالي أو الدور التنموي التدخلي، ودليل ذلك أن المرحلة السابقة شهدت هذه الاتجاهات، لكن هناك اتجاهات تكون بازغة واتجاهات ضعيفة نسبياً، حيث شهدت فترة الثمانينيات صراعاً بين الاتجاهات التحريرية والتصحيحية، وهذا أثمر عن حل وسط هو قانون الاستثمار، وبيّن الباحث أن الاقتصاد السوري شهد خلال العقود الثلاثة الماضية ثلاث عمليات إصلاح تحريري، أو عمليات لبرلة هي على التوالي: الأولى جرت عام 1973 حين تم فتح بعض المجالات للقطاع الخاص، ولكن تدفق القروض الخارجية والمنح الريعية قبل وبعد حرب تشرين أقفل الباب أمام هذا التوجه الذي لعب دوراً هاماً في تخفيض عجز الموازنة السورية، والثانية جرت عام 1987 حين أفلست الدولة السورية من القطع النادر، وكانت البلد على شفير المجاعة بسبب الجفاف حيث تم اللجوء إلى طريقة التحرير الانتقائي الإلزامي لحل مشكلة المستوردات، ووصل التحرير إلى ذروته بصدور قانون الاستثمار. أما مرحلة الإصلاح التحريري الثالثة فيمكن أن تسمى بالإصلاح التحريري، وبلغة أخرى بعملية اللبرلة الاقتصادية التي قد تكون لمصلحة فئة جديدة من رجال الأعمال، أو يمكن أن تسمى بالليبرالية المتوحشة، وقد انطلقت بعد عام 2003، وترافقت مع تحرير شامل في عدة مجالات..
ومع تطرقه للأزمة العالمية، تناول باروت مشهد الدولة التنموية الذي يشتمل على بعض عناصر ما يسمى بالتنمية الوطنية المستقلة المعتمدة على الذات، وأوضح باروت أنه كان هناك اتجاه قوي في المشروع لاعتماد هذا النوع من التنمية، ولكن الباحثين انطلقوا من أنهم يطرحون مشاهد وصفية وليس مشاهد معيارية، وأنهم لم يكونوا مفوضين بذلك، ولكن الباحثين ارتأوا أن عملية تقرير مشهد معياري للذي يريده السوريون لأنفسهم تحتاج إلى إجراء حوار وطني معمق ما بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والجهات الاجتماعية كافة، ويحتاج ذلك إلى مسوح معمقة وإلى ندوات مفتوحة واسعة لتقدير هذا المشهد المعياري، ولذلك وقف الباحثون عند حدود الاستشراف.
وبيّن باروت أن الباحثين اعتمدوا مشهد الدولة التنموية الذي يقوم على الدور التدخلي للدولة موضحاً أن بعض الفرضيات الموجودة كانت تشير إلى أن الموجة الليبرالية الجديدة تنكسر في العالم، وأن هناك اتجاهاً جديداً في نظيرات المداخل التنموية الجديدة تحاول أن تستفيد من تجارب منظمة شرق آسيا، ولكن في شروط تعمق العولمة وتشكل منظمة التجارة العالمية الحرة وفي شروط نشوء محظورات ومقيدات كثيرة لعملية انتقال الاختراعات والابتكارات المثبتة في منظمة حقوق الملكية الفكرية، فقد كان هناك بعض التصورات أنه لابد من وضع الموجة الليبرالية بين الفرضيات المطروحة.
وتحدث باروت كذلك عن التحديات المجالية المستقبلية الأساسية في سورية، وعن مفاهيم وأدوات الإدراك الجديدة، وحيز الإمكانيات والفرص والخيارات، مقدماً نموذجاً لذلك: الأرض، والموارد المائية حيث أوضح أن سورية تنتمي واقعياً إلى دول العالم مرتفعة الكثافة السكانية، وأن هذه الكثافة تعادل ثلاثة أضعاف الكثافة السكانية الحسابية، وبالمقارنة مع الكثافة الفعلية بالصين لفت باروت إلى أن الكثافة الفعلية في الأجزاء المأهولة من سورية هي أعلى مما هي في الصين، وتبلغ الكثافة السكانية في سورية 269 نسمة في الكيلومتر مربع، بينما لا تتجاوز في الصين 230 شخصاً. وبين كذلك أن المناطق المأهولة في سورية تشكل 33.5% من المساحة الكلية وأن الكثافة الحسابية للسكان مرشحة للارتفاع من 98 إلى 155 شخصاً في الكيلومتر المربع والكثافة السكانية المجالية المعمورة مرشحة لارتفاع وسطي من 273 إلى 410 بين عامي 2005 و2025، ورأى أن هذا يفرض ضغوطاً غير مسبوقة على مورد الأرض في حال استمرار الخلل في التوزع الجغرافي للسكان، وارتفاع حدة المنافسة على الأرض.
وأنهى باروت محاضرته بالقول: إن هذا المشروع تمتع بدعم كامل ومطلق من الإدارة السورية، وتمتع الباحثون القائمون عليه البالغ عددهم 264 باحثاً بحرية كبيرة، ولم يكن لديهم سوى الاعتبار العلمي في كل المسائل في مجال الجيوستراتيجية أو مجال السياسة الداخلية، وإذا كانت هناك نقاط قوية في هذا المشروع فتعود إلى سبب واحد هو الحرية العلمية التي تمتع بها الباحثون، وحسب الحكمة القديمة: من لم  يكن حراً في لسانه فلن يكون حراً أبداًَ.

معلومات إضافية

العدد رقم:
405