د. سنان علي ديب د. سنان علي ديب

التأميم والخصخصة.. والنتائج المستخلصة

شهد العقدان الماضيان جدالاً كبيراً وقوياً حول دور الدولة في الحياة الاقتصادية، خصوصاً بعد ارتفاع الأصوات الداعية لضرورة انسحاب الدول من الحياة الاقتصادية وترك قوى السوق تنظم نفسها. وقد اتسم هذا الحوار بتسلط فريق على فريق بعد انهيار التجربة السوفيتية، والنشوة التي جعلت المعسكر الغربي الرأسمالي الامبريالي ينتقل من مرحلة الحوار إلى مرحلة الإملاءات والفرض، حتى لو اقتضى الأمر التدخل العسكري أو تحريض قوى داخلية مرتبطة بمشروعه..

هذا الخيار غير العقلاني وغير الواقعي جعل هذه القوى تصطدم بحواجز قاسية أدت إلى تصدع كبير في مفاهيمها ومرتكزاتها وفي أدواتها، بحيث أصبحت تلجأ إلى أدوات كانت تحرمها على غيرها، وهذا ما جعل أنصار هذا الأسلوب النيو ليبرالي يقعون في انفصام تفكيري وتصريحي بحيث أصبح الذي كان بمثابة محرمات دواءً شافياً لنبع الإيديولوجية الذي شربوا من أفكاره بعض الأفكار العكرة التي نسيها من ابتكرها. وهنا كان الجدال والحوار الجديد حول صوابية وفعالية وعقلانية الطروحات والممارسات والآثار الناجمة عن تطبيقها على البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وأصبح تداول كلمة تأميم وتدخل الدولة طبيعياً، بعد أن كان من المحرمات وضرباً من الجنون، وبعد أن انجر بعض المهتزين إلى التشهير بمبادئ كان لها أثر كبير وقوي وبناء على تاريخية واستمرارية وقوة بلدان عديدة، ومنها بلدنا.

وكان مصطلحا الخصخصة والتأميم أهم مصطلحين أثارا الجدل والخلاف والحروب والدمار، حيث أن مصطلح  الخصخصة أو التخصيص أو الخوصصة استحوذ على اهتمام معظم دول العالم، سواء أكانت متقدمة أم نامية، وهي جميعها تسميات لمصطلح اقتصادي باللغة الإنكليزية أو الفرنسية (privatizathon )، ولا يوجد مفهوم دولي متفق عليه لكلمة الخصخصة، حيث يختلف مفهوم هذه الكلمة من مكان إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، ولكننا نستطيع أن نميز ثلاثة مفاهيم وهي:
المفهوم الأول: يرى أن الخصخصة تعني تحرير النشاط الاقتصادي والمالي، وإعطاء القطاع الخاص مجالاً أوسع والحد من احتكار الدولة.
المفهوم الثاني: يرى أن الخصخصة علاقة تعاقدية بين الدولة والقطاع الخاص، وذلك بإدخال الخبرة الإدارية لهذا القطاع في أنشطة المنشآت العامة وإدارتها وفقاً لطريقة سير المنشأة الخاصة، ويأخذ هذا المفهوم شكل عقود الإدارة وعقود الإيجار وعقود الامتياز.
المفهوم الثالث: ويظهر هذا المفهوم شكل الملكية، بمعنى تحويل الملكية من الدولة إلى القطاع الخاص، ويأخذ هذا المفهوم اتجاهين:
الاتجاه الأول: ويرى أن خصخصة مشروع ما، هو أن يتم بيعه بالكامل للقطاع الخاص.
الاتجاه الثاني: يميل إلى الاكتفاء ببيع جزء من أسهم المشروع إلى القطاع الخاص.
مما سبق، يتضح أن الخصخصة ليست هدفاً في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لزيادة كفاءة أداء الاقتصاد ومسؤوليات الدولة الاجتماعية، بل دورها مستمر في تقديم الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة والضمان الاجتماعي.. وللخصخصة أشكال وأنواع منها: تخصيص الإدارة: بحيث تأخذ شكل عقود الإدارة أو التأجير- البيع الجزئي - نقل الملكية إلى الإدارة والعمال - الاكتتاب - البيع الكلي المباشر.
إذاً، المهم أن نعلم أن الخصخصة وسيلة وليست غاية، وأنه عندما تتحول إلى غاية سينجم عنها الكثير من النتائج السلبية والانعكاسات الخطيرة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتؤدي إلى زعزعة الاستقرار وضعف البنيان من خلال انتشار الأمراض الاجتماعية كالبطالة والفقر وغيرها، وبالتالي يكون حل الخصخصة آخر الأدوية بعد أن تعجز جميع الحلول الأخرى من إصلاحات اقتصادية وإدارية عن حل المشاكل التي تؤثر على المؤشرات الاقتصادية الكلية. أما أن تكون الخصخصة بأيٍّ من الأشكال التي ذكرناها، بمثابة فرض لتحقيق غايات شخصية أو غايات طبقية لمصالح فردية أو مصالح جماعات لقوى محلية أو لقوى خارجية، كما وجدناها في الكثير من الدول التي تبنت الوصفات الجاهزة التي فرضها البنك الدولي الذي تسيره الولايات المتحدة من أجل بعض الهبات أو من أجل جدولة الديون، في الوقت الذي لو أنهم استمروا في الأسلوب التنموي المتواصل والواقعي والمحلي لكانوا جنوا أضعافاً مضاعفة لهذه الهبات أو القروض التي تورط من يأخذها وتسلبه الاستقلال التنموي والسياسي؛ فهنا تكون الخصخصة هي الداء وليس الدواء، على الرغم من أن دواء الخصخصة أثبت فشله بالمعنى العام، أي تحويل الملكية بشكل كامل. وهنا يجب التذكير بأن من يقف ضد الخصخصة كفرض، لا يعني أنه ضد القطاع الخاص ودخوله في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لأن الفرق كبير، فأصحاب الرؤى التي وقفت ضد الخصخصة ومع تدخل الدولة ومع إصلاح القطاع العام والإصلاح الإداري، منها قوى في القطاع الخاص، فولوج القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية هو ضرورة موضوعية فرضها التطور التاريخي للاقتصاد والتطور الاجتماعي، من خلال أن يأخذ هذا القطاع دوره بتوظيف أمواله وخبراته في استمرارية التنمية عن طريق المنافسة والجودة وليس عن طريق الإقحام وتدمير القوى المنافسة، وخاصة المملوكة من الدولة.

فهناك الكثير من البلدان في مرحلة بناء الدولة الوطنية البعيد عن الإملاءات وفي فترة صعود الفكر القومي والاندفاع الوطني، تبنوا أفكاراً ثورية، وقاموا بأفعال إعجازية، لو قيست بالظروف الزمانية والمكانية في فترتها، وحوكمت بعقلانية وحيادية من خلال نتائجها لقدست!! ومن أهم الأدوات التي استخدمت هي التأميم والإصلاح الزراعي التي قامت على مبدأ واقعي وطني إصلاحي ثوري، هذه الأدوات التي أدت إلى نتائج باهرة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والعسكرية، وساهمت في بناء الدولة القوية المنيعة واستمرارية البناء والتقدم. هذه الأدوات تنادى الضعفاء والمهتزون في فترات ليست بعيدة إلى انتقادها والتبرؤ منها في محاولة لجلد النفس إرضاء لقوى ولأفكار جديدة متذرعة بمصطلحات مستوردة من دول لا تطبقها على شعوبها، قبل أن تسقط هذه الأفكار الجديدة بسقوط القوى التي اتبعتها والتي فرضتها على الآخرين. وهنا لا نعرف ماذا حل بالضعفاء والشتامين والذين لم يصمتوا عن المطالبة بالاعتذار عن قانوني التأميم والإصلاح الزراعي، هذين القانونين اللذين كانا ثورة على مجتمعات تابعة وطبقات تشكلت عبر المجاملات، وهذين القانونين اللذين لم يكونان غاية وإنما كانا وسيلة أدت إلى ثورة اقتصادية واجتماعية وتراكم صناعي ورأسمالي ساهم بما وصلنا إليه، وساهم في ثبات وقوة الاقتصاد عل الرغم من الضربات الموجعة، وبالتالي أثبتا أنهما كانا أساس البناء والنمو والتطور، ولولا هذا البنيان القوي لحدث ما لا يحمد عقباه. وهنا نطالب الشامتين والضعفاء بالاعتذار من التاريخ ومن الحاضر، وأن يكونوا منطقيين وواقعيين في كل نقد، وألا يحاولوا أن يحاكموا الإنسان الحجري على تخلفه أمام الإنسان الذي يستخدم الطائرة والكمبيوتر والانترنيت مع اختلاف الزمان والظروف. ونسأل: ماذا كان رد هؤلاء عندما استخدمت الدول الغربية الأدوات الاشتراكية كتدخل الدولة والتأميم وزيادة دعم القطاع العام للخروج من أزمتها البنيوية التي حاولت توريط الآخرين بانعكاساتها؟ ألا يجب على هؤلاء الاعتذار عما اقترفوه بحق من حمل هذه الأفكار وعمل بها وناضل من أجلها، خاصة وأن مخترعي فكرة «السوق تنظم نفسها» تدخلوا بمسيرة العمليات التي كانوا يتباهون بقدرتها الخارقة على تنظيم نفسها؟ وهل وصلوا إلى نتيجة مفادها أن هناك ثوابت وطنية وقومية وإنسانية لا يمكن تخطيها؟
أما أن يكون هناك ثوابت وتحجر وفرض في السياسات الاقتصادية، فهذا تخلف باطني يظهر على شكل تطور خارجي، فلكل دولة ظروف خاصة تقتضي سياسات خاصة تنطلق من واقع الدولة بما يتناسب مع ظروف هذه الدولة، فليس المهم ما يقال عن السياسات الاقتصادية، ولكن الأهم أن تكون مناسبة للظروف التي تمر بها البلد وتحافظ على تنميتها وتؤدي إلى استمراريتها.

• عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية

معلومات إضافية

العدد رقم:
410