الصناعة السورية تودع «بردى» بقرار ثأري!

في الوقت الذي تتراجع فيه الدول الرأسمالية الكبرى عن السياسات الليبرالية، وتسعى لقوننة سياسات الخصخصة المتبعة لديها، وتنمية الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، عبر إعادة تدخلها المباشر في اقتصاديات هذه الدول، وإعادة الحياة إلى شركاتها العملاقة التي دخلت دوامة الإفلاس، وباتت عاجزة عن الاستمرار بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، وأمام هذا الواقع الذي يعلن بصمت فشل الليبرالية الاقتصادية، وعجز اقتصاد السوق عن تنظيم نفسه وخدمة المجتمع الذي يتبعه كمنهج اقتصادي واجتماعي؛ تصر الحكومة السورية على الاستمرار في سياسات خصخصة القطاع العام، وإتباع منهج الليبرالية الاقتصادي والاجتماعي، والتي كان آخرها موافقة رئاسة مجلس الوزراء بناءً على توصية اللجنة الاقتصادية المتضمنة اقتراح وزارة الصناعة على طرح الشركة العامة للصناعات المعدنية «بردى» للاستثمار الخاص المحلي أو الأجنبي، لتكون بذلك الضحية الخامسة عشرة التي سقطت بيد الاستثمار والخصخصة، وذلك بموجب «عملية إصلاحية»، جاءت لتقتلع رأس القطاع العام، بدافع الحقد التراكمي عبر السنوات السابقة، لأن هذا القطاع أبعد خلال السنوات الماضية الكثير من أصحاب «الفعاليات الاقتصادية»، وعمالقة الخصخصة السورية (النيوليبرالية الجديدة) ومنعهم من الدخول في مشاريع كبرى (قطاع الصحة، التعليم في كافة مراحله، الطيران، الأسمنت، الصناعات الإستراتيجية الكهرباء وغيرها...)، لما يشكله هذا الدخول الخاص من مساس بالأمن الوطني، وتلاعب بالاستقرار الاجتماعي قبل الاقتصادي، لأن القطاع الخاص لا يسعى إلا لتحقيق الربح والمنفعة الشخصية والفردية لأصحاب هذه الشركات الخاصة، دون الأخذ بعين الاعتبار حاجة المجتمع وتنميته، مما جعل هؤلاء يتخذون قراراتهم الثأرية عندما جاءتهم الفرصة السانحة لإظهار حقدهم والأخذ بثأرهم.

لقد كان قرار المصرف التجاري السوري القاضي بالحجز على الحساب الدائن للشركة العامة للصناعات المعدنية «بردى»، والبالغ مليار ليرة سورية، المسمار الأخير الذي دق في نعش شركة بردى للصناعات المعدنية التي تأسست في العام 1957، وجرى تأميمها في العام 1963، وهو عبارة عن تصفية ديون قديمة لتجار (تعاملوا كوكلاء، والتعامل كان بالعهدة) قاموا بشراء كميات كبيرة من الشركة عبر المصرف التجاري، ولم يلتزم هؤلاء تسديد المبالغ المتراكمة عليهم من استجرار منتجات الشركة. والسؤال الذي لا بد من طرحه: لماذا لم يتم محاسبة التجار قانونياً، بدلاً من تحميل الشركة العامة مسؤولية ما حصل؟!‏
هذا الحجز الاحتياطي الذي لا تتحمل الشركة مسؤوليته، أدى بطبيعة الحال إلى إيقاف جميع أعمال الشركة، لأن عمليات الشراء المباشرة تتم من خلال المصرف التجاري، مما أدى إلى محاصرة الشركة، وأفقرها السيولة اللازمة لتحسين إنتاجها، أو الاستمرار في إنتاجها ذاته في أحسن الأحوال، كما أفقدها أيضاً قدرة الحصول على قرض من المصرف الصناعي أومن المؤسسة المعدنية أو من وزارة الصناعة، وذلك من أجل النهوض بواقعها وتحسين إنتاجها، ووضعها أمام منافسة غير متكافئة مع سواها من شركات القطاع الخاص، والتي أدخلت أحدث التكنولوجيات في مجال البرادات والغسالات إلى السوق السورية، مما أدى إلى زيادة خسائر الشركة وانهيارها بشكل تراكمي.
عانت بردى تاريخياً من الهدر والفساد، كغيرها من شركات القطاع العام، مما أرهقها وأدى لسحبها تدريجياً إلى ضفة الشركات الخاسرة أو المخسرة، لأن بعض إداراتها المتعاقبة اتبعت هذه السياسة تحقيقاً لمنفعتها ومصلحتها الشخصية، والتي تضاف إلى قدم الآلات التي يصل عمرها إلى أكثر من خمسين عاماً، حيث أن أجدد آلاتها يصل عمره 25 عاماً، وافتقاد بردى كغيرها من شركات القطاع العام للصلاحيات اللازمة للدخول في سياسات تسويقية صحيحة، كغيرها من شركات البرادات والغسالات الخاصة في سورية، وعدم السماح لها بتنويع منتجاتها، مما أدى إلى خلل في السياسات الإنتاجية والتسويقية لديها على حد سواء.
وزارة الصناعة تقول بالإصلاح، أي أن هناك خللاً بالقطاع العام، وهذا الخلل بطبيعة الحال يتطلب أموالاً من الوزارة للمساعدة في النهوض والإصلاح، لكن المرسوم 54 الخاص بالقانون المالي للشركات الإنتاجية وذات الطابع الاقتصادي، (تمول ذاتها من فوائضها المالية)، فكيف يمكن لهذه الشركات أن تمول ذاتها تلقائياً بمقتضى هذا القرار وهي تعاني أساساً منذ سنوات طويلة من تراجع إيراداتها بفعل إجراءات الإدارات المتعاقبة الخاطئة والممنهجة لتخسيرها، بالإضافة إلى الإجراءات الروتينية التي جمدت قدرة الشركة على المنافسة أمام تكنولوجيا البرادات الحديثة التي دخلت إلى السوق السورية، مما أوصلها للإفلاس والخسارة المتعمدة.
والسؤال الذي لا بد من توجيهه إلى وزارة الصناعة التي أصدرت قرار الإعدام هذا: كيف استطاعت شركات صغيرة بقدراتها وتمويلها، ويمتلكها اقتصاديون صغار قياساً بالقدرة الاقتصادية الكبيرة التي تمتلكها الدولة، الإبقاء على استمرارية وديمومة إنتاج ماركاتهم في مجال الأدوات الكهربائية والبرادات والغسالات في السوق السورية، في الوقت الذي عجزت فيه وزارة الصناعة والحكومة السورية عن تأمين استمرارية عمل الشركة الوحيدة التي تمتلكها الدولة في مجال صناعة الأدوات الكهربائية والبرادات والغسالات؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
431