في ندوة الثلاثاء الاقتصادية.. البطالة والفقر.. الوجه الآخر لسوء توزيع الثروة والدخل الوطني!!

ضمن فعاليات جمعية العلوم الاقتصادية، انعقدت الدورة الرابعة عشرة لندوة الثلاثاء الاقتصادية حول التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية، تحت عنوان: «البطالة والفقر».

وقد شارك في الندوة كلٌّ من د. عارف دليلة ود. رزق الله هيلان ود. نبيل مرزوق. وأدار أعمال الندوة الأستاذ فاروق تمام أمين سر الجمعية.

وفيما يلي مقتطفات من الندوة:

وتحت عنوان «البطالة والفقر: ملاحظات وتأملات»، جاء في مداخلة د. رزق الله هيلان:

ما سبب البطالة؟ التقدم التقني، أم خلل أساسي في التوزيع؟

يقال بعامة: إن البطالة ناجمة عن تقدم العلم والتقنية، أي تقدم وسائل الإنتاج، وهذا ما يزعمه الخطاب السائد. هذا الخطاب صحيح تماماً في الظاهر، أي هكذا تبدو الأمور على السطح. لكن ما هي الحقيقة؟ وهل هذه تطابق الظاهر، أم تختلف عنه؟ فليس من شك إطلاقاً أن استخدام وسائل إنتاج أكثر تقدماً يؤدي بصورة إجمالية إلى زيادة الإنتاجية، وبالتالي إلى خفض كمية العمل اللازم للإنتاج وخلق فائض من الوقت، وقت الفراغ الذي يمكن تخصيصه لأغراض أخرى. هذا، أصلاً، أحد الأهداف الرئيسية للتقدم التقني، وهو يؤديها بنجاح تام. أما ما هو مصير هذا الفائض من الوقت الذي يحرره التقدم التقني من عملية الإنتاج، فتلك هي المسألة. وهذه المسألة ليست من مسؤولية التقدم التقني، وإنما هي من مسؤولية النظام الاجتماعي، ومن مسؤولية الإنسان العامل ذاته، فهما اللذان يقرران مصير هذا الفائض. وهنا يكمن لب المشكلة كلها، لب الحقيقة التي يبرزها التقدم العلمي بجلاء، والتي يأتي الخطاب ليخفيها ويزيفها. ماذا نفعل بهذا الفائض؟ تلك هي المسألة الجوهرية التي تحددها مجمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة، أي «النظام العالمي» فإما أن يستخدم كتلة الوقت الفائض لخير الإنسان والبشرية، فيكون نظاماً اجتماعياً جيداً، تقدمياً يمثل مصالحها تمثيلاً صحيحاً، أو على العكس من ذلك، يستخدمها لأغراض أخرى غير نافعة أو ضارة، ويكون عندئذ نظاماً اجتماعياً سيئاً، لا عقلانياً، وبالياً.

إلى قارعة الطريق!!

بعبارة صريحة، السؤال هو على الصعيد الوطني: أنهدر الفائض بتحويله إلى بطالة، أي برمي كتلة من العمال إلى قارعة الطريق، وحرمانهم من العمل والأجر، وإرهاق أسرهم، ودفعهم إلى اليأس والضياع وربما إلى ممارسة أنشطة محظورة و»أعمال طفيلية ضارة وإلى الجريمة المنظمة، أو إلى الهجرة والاغتراب، وغير ذلك مما يؤدي إلى خسائر فادحة اجتماعية وأخلاقية، أولاً، واقتصادية ثانياً، حيث تنعكس في زيادة التكلفة العامة للإنتاج الوطني وبالتالي في ضعف المنافسة إزاء السلع والخدمات الأجنبية؟.

بين التقدم التقني.. والإنسان

الإجابة على هذا التساؤل، وفقاً للخطاب المذكور، هي بالإيجاب وهي واضحة نظرياً وعملياً ولا تترك أي مجال للشك. فالممارسة الرأسمالية في جميع البلدان الغربية تثبت ذلك صراحة دون لبس، حيث الدولة الرأسمالية لا تسعى إطلاقاً إلى وضع حل صحيح ونهائي لمشكلتي البطالة والفقر، كما سنرى لاحقاً، فهي تدرك تماماً أن مثل هذا الحل ليس مرغوباً من قبل سادة النظام من ناحية، وهو مستحيل عملياً في إطاره من ناحية أخرى. في هذه الحال ألا يغدو التقدم العلمي والتقني مناقضاً لغايته التي هي خدمة الإنسان وراحته ورقي شخصيته، وتكون زيادة الإنتاجية ضد مصلحة العامل، دون معنى، بل ذات معنى لا إنساني؟ أم نعيد استخدام الفائض في مجالات اقتصادية أخرى، أي في توسيع العملية الإنتاجية لإشباع الحاجات بشكل أفضل، وبخاصة الحاجات العليا التي تعطي معنى للحياة، من ناحية، ولزيادة أوقات الفراغ اللازمة للتمتع بالحياة والراحة والفنون، والاهتمام بالأسرة والأصدقاء وبالأمور الشخصية، وممارسة الأنشطة الاجتماعية التضامنية التي تحقق غاية إنسانية جميلة ونبيلة، وما شابه ذلك؟ أليس هذا بالضبط هو الحل الصحيح الذي يحقق الغاية من التقدم التقني ومن زيادة الإنتاجية؟ أليس هذا هو المنهج الصحيح الواجب تطبيقه لامتصاص فائض العمل كله وتقليص البطالة، أو إلغائها؟ أليس هو الحل الأفضل بل الوحيد الذي تفرضه نظرية اقتصادية ـ اجتماعية ـ أخلاقية هدفها وغايتها خير البشر وتناغم المجتمع والتقدم الإنساني؟ أليس في هذا بالضبط يكمن العلم الاقتصادي؟ لكن مثل هذا العمل يناقض النظرية الرأسمالية التي همها الأول حرية السوق والمنافسة والربح والسيطرة وتراكم الثروة في أيدي الأقلية، وحرمان الغالبية من البشر والشعوب من ثمار العمل والتقدم العلمي والتقني.

بين الجشع.. والفضيلة

يقول المؤرخ الأشهر آرنولد توينبي في حوار بينه وبين الفيلسوف الياباني أيساكو إكيدا: إن المشروع الخاص يحكم على نفسه بالموت لأن كل الأطراف يخفقون في لجم جشعهم. المسلمة غير الأخلاقية لهذا المشروع هي أن الجشع فضيلة وليس رذيلة. لكن الجشع غير المحدود مدمر للذات. وفي مكان آخر يقول: أملي للقرن الـ21 مجتمع عالمي إنساني، اشتراكي اقتصادياً وحر التفكير روحياً. فالحرية الاقتصادية تعني في أكثر الأحيان العبودية للآخرين. المسألة والقضية هي إذن تحويل البطالة إلى وقت فراغ تقدم الإنسان والمجتمع وتفتحهما الروحي والثقافي.

ليس من شك بأن النظام الرأسمالي ذاته اضطر إلى السير في الاتجاه الصحيح إلى حد ما، حيث حقق بعض التقدم في أمور كثيرة. لكنه فعل ذلك جزئياً فقط، وببطء شديد، ومرغماً تحت ضغط الصراع الاجتماعي. هذا ما يثبته لنا الواقع التاريخي، حيث نجد أنه منذ الثورة الصناعية البرجوازية تضاعفت بمئات المرات القوى العلمية التقنية ووسائل الإنتاج، كما تضاعف مراراً عدة حجم سكان العالم ومنه بالدرجة الأولى سكان الدول الصناعية ذاتها التي تلجأ اليوم إلى «استيراد» عشرات ملايين العمال والفنيين من البلدان الأخرى، لكن بالرغم من ذلك ازداد بأضعاف حجم العمالة وتم تخفيض ساعات العمل اليومي وانخفض إلى حد كبير العناء والمشقة في الأعمال البدوية والذهنية، هذا من ناحية.

الرأسمالية.. لا تحل مشكلتي البطالة والفقر

لكن من ناحية أخرى، وهي الأخطر بكثير، فإنه يفعل ذلك اليوم بشكل مشوه، وضار، حيث تؤجج الدعاية التجارية أنواعاً من البذخ والهدر الاستهلاكي ذي الآثار السيئة، اجتماعياً وبيئياً وأخلاقياً. والحقيقة يظهر بوضوح أنه ليس ثمة حل صحيح لمشكلتي البطالة والفقر في إطار الرأسمالية، حيث تكتفي الدول بإدارة هاتين المشكلتين، وتُحمِّل تكلفتهما الباهظة وإلقاء عبئهما الأكبر على المجتمع وعلى البلدان المستضعفة، وذلك من أجل منع تفاقمهما وتحولهما إلى أزمات اجتماعية ـ سياسية عاصفة. وفي حال تفاقم المشكلة إلى مستوى من الخطر يصعب السيطرة عليه، والركود وتعطيل قسم كبير من الطاقات الإنتاجية، وسباق التسلح والحروب، كما حدث مثلاً في الأزمة الاقتصادية الكبرى في الثلاثينات من القرن العشرين، حيث وصلت معدلات البطالة في الدول الغربية إلى 20 ـ 25% من مجموع قوة العمل، فكانت أحد أهم الأسباب للانفجار الأوربي في عام 1939، وكما حدث كذلك خلال ما سمي بالحرب الباردة التي كانت في أحد أهم وجوهها غطاء لإلقاء عبء الأزمة الاقتصادية الرأسمالية على بلدان العالم الثالث والبلدان الاشتراكية السابقة من خلال تأجيج المنازعات والتوتر الدولي والحروب الإقليمية، كحربي الخليج على سبيل المثال، وبالتالي تسعير سباق التسلح في العالم. والدليل الفاضح على قولنا هذا، هو الصراع الشديد بين الدول الرأسمالية المصدرة للسلاح، لاقتناص الصفقات الدولية الكبرى من أسلحة وعتاد، وأساطيل حربية ومدنية، ومشاريع اقتصادية كبرى، وغيرها.

أما البلدان الفقيرة، فمثل هذه السياسات ترهق شعوبها اقتصادياً وسياسياً، كما أرهقت الاتحاد السوفييتي سابقاً، حيث تشكل أحد أهم أسباب تبديد الموارد، والفقر، وعسكرة المجتمع وممارسة القمع والاستبداد وانتشار الفساد. لذا فإن هذه السياسات التي تفرضها العلاقات الدولية السائدة وتفرضها عليها بخاصة، وبشكل مباشر وفج في كثير من الأحيان، القوى الكبرى والأنظمة المرتبطة بها، كإسرائيل على سبيل المثال بالنسبة للبلدان العربية، تشكل جريمة لا تغتفر بحق الشعوب الفقيرة وبحق البشرية ككل.

سوء توزيع الدخل والثروة

هكذا تبرز لنا ظاهرة البطالة كتعبير عن سوء العلاقات الاجتماعية وإجحافها، كوجه آخر لسوء توزيع أو تقسيم العمل الاجتماعي، وسوء توزيع الدخل والثروة، على المستويين المحلي والوطني، وعلى المستوى العالمي بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وبالتالي يتضح لنا أيضاً، أن البطالة والقهر والحرمان التي تشكل آفات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية معاً، ليست نتيجة طبيعية للتقدم التاريخي، وبخاصة ليست نتيجة حتمية للتقدم العلمي والتقني، كما يزعم الفكر المحافظ المدافع عن المصالح والامتيازات المكتسبة ضد منطق العلم والتاريخ، وإنما هي ناجمة عن فساد وجور وخلل أساسي في النظام الاجتماعي السائد، في العملية الاقتصادية ـ الاجتماعية كلها الجارية اليوم في ظل العولمة وعلى جميع الصعد، الدولية والإقليمية والمحلية. هذا ما تذكرنا به تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة سنوياً، داعية الجميع، حكومات ومنظمات وشركات، إلى توجيه جهودها لتصحيح الخلل وبناء علاقات أكثر عدلاً وانسجاماً. لكن هذا «الجميع» لا يعني أحداً من الأحياء بالذات. فالمحرومون المهمومون بخبز يومهم، صوتُهم لا يُسمع. والأسياد غارقون في ترفهم وحساباتهم المصرفية، الذين ليس لهم أوطان ولا قلوب ولا آذان. فلمن إذن النداء؟

المشكلة ممكنة الحل..

ألا يمكن إذن حل المشكلة، مشكلة البطالة والفقر والحرمان والجوع؟ أليس ثمة بديل أو أمل حقيقي؟ نعم، دون ريب. هنالك مستقبلات بديلة، لكنها لن تهبط علينا من الأعالي. مستقبلات يزخر بها التاريخ، وعلينا أن نبحث عنها بجد وإيمان، ونعمل لتجسيدها في الواقع. نعم إننا «محكومون بالأمل» والأمل يقتضي منا الاجتهاد والعمل دون كلل.

البطالة والفقر أسبابهما وعلاجهما

وكانت مداخلة د. عارف دليلة تحت عنوان «البطالة والفقر أسبابهما وعلاجهما»، حيث جاء في المداخلة:

خطة لمكافحة البطالة والفقر:

تتضمن خطة مكافحة البطالة والفقر، برأينا، ما يلي:

1ـ جرد وصيانة ما تبقى من الأملاك والأموال العامة ووقف الاعتداء المتصاعد عليها. ونقدر أن نصف الأملاك والأموال العامة قد انتهبت حتى الآن، ويتسارع استملاك ما تبقى منها.

2ـ البحث عن الموارد الضائعة والمضيعة، وبالطبع ليس عند من يقل عن الحد الضروري للمعيشة الذين يجب أن تلتزم لهم الدولة بهذا الحد، كما بتأمين العمل المناسب، وإنما تلك الضائعة والمضيعة على أيدي وعند من امتهنوا إدارة الضياع على مدى عشرات السنين. ونعيد التذكير ببعض الموارد الضائعة والمضيعة والتي تحدثنا وحاضرنا وكتبنا ونشرنا عنها عشرات المرات، ولسنا نحن فقط بل نخبة واسعة واعية وعالية الهمة والغاية من المخلصين:

آ ـ وقف التهريب الذي يجبر القائمون عليه الشعب السوري على تمويل أعدائه بمليارات الدولارات سنوياً، ومن أخطر هذه المهربات التبغ المسرطن، ونستطيع أن نوفر للميزانية الحكومية وللاقتصاد الوطني من هذا الباب ما يزيد عن ملياري دولار أميركي (100 مليار ليرة سورية) سنوياً تذهب الآن إلى جيوب الأعداء الخارجيين وشركائهم المحليين.

ب ـ تنقية العمل الإداري والمالي من الذين يؤدون عكس المهام المناطة بهم. ولسنا بحاجة إلى تكرار ما فصلنا فيه كثيراً من الثغرات المصطنعة والمفصلة لتكون أبواباً لمختلف أنواع الفساد، الذي أصبح شاملاً، أفقياً وعمودياً، حتى أصبح بالإمكان الحديث عن وجود نظام كامل لـ «تبييض الفساد» ليجعل منه نظام الحياة الطبيعي الذي يصبح كل خارج عنه شذوذاً منبوذاً.

البيروقراطية الفاسدة

لقد أصبح الأقوى والأكثر رسوخاً وثباتاً في كل مفاصل العمل الإداري والمالي والجمركي... إلخ هم الأكثر ضلوعاً والأكبر حصيلة والأشد تنظيماً في الفساد، حتى أصبح من السخرية الحديث عن مكافحة الفساد بأدوات البيروقراطية الفاسدة، وإنما الوسيلة الوحيدة هي إطلاق القوى الاجتماعية المناهضة للفساد وتمكينها من وسائل التعبئة العامة في حصاره ومواجهته.

وكنت قبل عدة سنوات قد قدرت حصيلة الفساد والعطالة المفتعلة بجميع أشكالها بـ 25% من الدخل القومي. إلا أنني، من كثرة اتصالي بالواقع المعاش، والكشف اليومي عن الذين يمارسون الفساد وضحاياهم، يتأكد لي يوماً بعد يوم أن النسبة السابقة تتصاعد بمعدلات مخيفة، بحيث أن حصيلة الفساد تتضاعف ما بين التوزيع الأولي والتوزيع الثانوي والتوزيع الثالثي... إلخ مع اتساع وتزايد حلقات دوائر الفساد وإحكام قبضتها على البلاد والاقتصاد والعباد. وهذا النوع من «الريع المركزي» يحرم التراكم لإنتاجي سواء في رأس المال أو في التنمية البشرية، بتقديرنا، من حوالي نصف الدخل القومي، الذي يذهب إلى الطبقات الطفيلية فيضيع على الاقتصاد الوطني وعلى ميزانية الدولة والقطاع العام والمواطنين كمنتجين وكمستهلكين، كمستثمرين إنتاجيين وكأصحاب قوة عمل، ويجعل الدولة والنظام الاجتماعي في أدنى درجات الأمان.

التكاليف غير المباشرة للفساد

إن التكاليف غير المباشرة للفساد من نوع الفرص الضائعة والانحلال والتفسخ وتهميش القوانين والمبادئ والأخلاق التي تقدر العلم والعمل وأصحابهما تعادل عشرات أضعاف حصيلته المالية المباشرة، والأخطر من ذلك كله آثاره على الأمن الوطني ومستقبل الأجيال، وهو ما أصبح نادراً ما يأتي على بال الغارقين في الفساد، الذين فقدوا البصر والبصيرة، وأصبحوا منذ زمن طويل يعيشون على حاسة الشم، شم النقود، وليس النسيم طبعاً.

جـ ـ وقف التخصيص الضمني الذي يتمثل بتجريف الأموال والثروات من خزائن القطاع العام، سواء بشكل «رسمي» ولكن مخالف لأصول الإدارة الاقتصادية، مثل التخصيص المجاني للأعمال المصرفية والبريد والهاتف وجزء كبير من التجارة الخارجية.. إلخ، أو بشكل غير رسمي من خلال انتقاء الإدارات من نوعية محددة وتغطيتها بالقوانين والقرارات والأوامر والتوجيهات التي تجعلها تسرِّع عملية تسليم وظائف الدولة والقطاع العام إلى جهات مختارة ومجاناً، إما بشكل «تآمري» او بشكل «تعاقدي» ومنذ محاضرتي في ندوة الثلاثاء عام 1986 عن «القطاع العام ودوره في التنمية» وحتى اليوم ونحن نتحدث عن مختلف أشكال التخصيص الضمني المجاني الذي إذا لم يوقف لن يترك القطاع العام والدولة إلا جثة هامدة، وهو ما يتسارع يوماً بعد يوم.

د ـ إخضاع جميع الميزانيات والحسابات إلى رقابة مستقلة وشفافية، بدءاً من ميزانية الدولة ونفقاتها الاستثمارية والجارية وحتى ميزانيات وحسابات مؤسسات ومصارف القطاع العام، يقوم بهذه الوظيفة ديوان للمحاسبة العامة غير خاضع للسلطة التنفيذية، وتقوم الجمعيات العمومية للعاملين في المؤسسات بالانتخاب الحر لممثليها في مجالس الإدارة وفي مناقشة خطط الإدارة وتنفيذها. ويجري نشر نتائج الحسابات وتقارير المحاسبة بصورة منتظمة في حينها، وتتاح الأرقام الفعلية للميزانيات العامة وليس فقط الارقام التقديرية وسنة بسنة وليس بفاصل خمس سنوات!! أما المؤشرات المالية والنقدية والاجتماعية فيجب أن تنتشر دورياً وأولاً بأول كما في دول العالم المتمدنة.

سرقات مكشوفة!!

وقبل أن يشاغلنا البعض في مدى دقة التقديرات، نقول؛ عليكم أن تبرهنوا على عدم دقة الأرقام بأرقام مبررة. وعلى سبيل المثال نقول: إن كل صاحب أجر أو راتب في سورية قد تعرض إلى سرقة ثلثي القيمة الحقيقية لدخله، بقوة السياسات والقرارات والممارسات الحكومية والبيروقراطية والفساد. فإذا حسبنا حصيلة هذه السرقة المكشوفة على مدى سنوات طويلة لاكتشفنا أنها وحدها كافية لترقية مجتمعنا ومواطننا إلى مصاف العديد من الدول المتقدمة، وإذا حسبنا كم تخسر الميزانية العامة والاقتصاد الوطني من حصيلة السياسات والممارسات الواعية للقائمين على إدارتهما أو غض النظر عن الممارسات الجارية وحمايتها، فإننا نقول بكل ثقة، كما أكدنا ذلك مراراً في السابق بأن ميزانية الدولة والدخل القومي يجب أن يكونا الآن، ببساطة، أكبر بـ 2 ـ 3 مرات من حجمهما الراهن، وإنه بالإمكان الوصول إلى هذا الحجم بواسطة خطة تنفذ على ثلاث سنوات تقوم على صيانة الأملاك والحقوق العامة وحسن إدارتها واستثمارها، ذلك أن الحجم الراهن للدخل القومي والميزانية الحكومية والموجودات المصرفية وخزائن القطاع العام ومستوى الدخل الفردي للمواطن مختزل ومنتقص إلى حد كبير لا يحتمل.

إن إدارة عامة من نوع جديد في جميع المواقع تضع هدفها وخطة عملها تحقيق الإصلاحات أعلاه تستطيع نقل سورية خلال سنوات قليلة إلى مواقع متقدمة. إلا أن تأخير قيام مثل هذه الإدارة سيزيد من استحالة عملية الإصلاح مستقبلاً، ليستمر وضع البلاد المادي، والمعنوي وأمنها الوطني والاجتماعي بالتقهقر عاماً بعد عام، ولن ينفع الإعلام المضلل والأرقام المزورة المستخدمان لطمس الوقائع الحقيقية، إلا في إطالة عمر الركود والفساد المستشريين، وتسريع الانهيار الشامل.

فلو أعدنا للدولة ومؤسساتها أملاكها وحقوقها المستلبة وأصلحنا الإدارة العامة والقانون والقضاء والإعلام، وأحيينا السلطات العامة التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية، ووضعنا أصحاب الكفاءات والخبرات في المواقع المناسبة لهم، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية والأمنية، ليحسنوا استثمار الموارد العامة، لأمكن بهذه الطاقات والإمكانيات المتنامية مضاعفة الاستثمار والإنتاج الوطني والتصدير وعدد المشتغلين في الاقتصاد الوطني ومضاعفة المداخيل الفردية، والاستغناء عن الاستجداء وانتظار الصدقات والمعونات والقروض التي تضاعف تكاليف المشروعات وتضاعف الزمن المتوقع لإنجازها.

محاربة البطالة والفقر بسياسة مضادة للركود:

منذ الاجتماع الأول، وعلى مدى الاجتماعات المتتالية، للجنة التي اجتمعت بدعوة من السيد وزير التخطيط قبل حوالي عام مضى، من أجل دراسة مشكلة البطالة في سورية ووضع برنامج لمكافحتها، كنت أؤكد على ما يذكر الزملاء أعضاء اللجنة ومن بينهم الدكتور رزق الله هيلان والدكتور نبيل مرزوق، أن الإجراء الأكثر فعالية في مكافحة البطالة، وبالأحرى الفقر، هو وضع خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق أهدافها باستخدام الأدوات المالية والنقدية والتسليفية، والإصلاحات التشريعية والإدارية، وإعادة توزيع الدخل القومي، والتنمية البشرية والتطوير العلمي ـ التقاني في فروع الاقتصاد كافة، وأنه لا يمكن لأي برنامج طوارئ إسعافي أو إنقاذي أن يحل مشكلة البطالة بإجراءات جزئية أو قطاعية.

فأي مكافحة للبطالة يستطيع تحقيقها، مثلاً، برنامج لإنفاق بضعة مليارات من الليرات السورية لتوفير فرص العمل لبضعة آلاف من العمال بشكل مؤقت، بينما يقل الإنفاق الحكومي الاستثماري الفعلي عن الإنفاق المقدر بمبلغ يعادل أضعاف ما يتوفر لمشروع مكافحة البطالة سنوياً.

)لو كان الفقر رجلاً،لقتلته(

 علي بن أبي طالب

 

نصف الدخل القومي يذهب إلى جيوب الطفيليين!!