المؤامرة والجواميس

دى حواري مع أحد الأصدقاء الموالين المتشدّدين للنظام توجّه بسؤاله موبّخاً: هل فعلاً لا ترون المؤامرة على سورية؟ ألهذه الدرجة أنتم قصيرو النظر؟ يا أخي ماذا يعني وقوف حلف الأطلسي والدول الرجعية العربية والقوى الظلامية، إلى جانب ما تسمّونه الحراك الشعبي السلمي؟ ألا يعنيكم هذا التكالب غير المسبوق في تاريخنا المعاصر، على دولة صغيرة مثل سورية، لإسقاط نظامها المقاوم للمخططات الأمريكية في المنطقة؟

أجبته: لا شكّ أن كل ما تقوله صحيح وأوافق عليه بالمطلق. ولكن دعني أستهلّ إجابتي بالتطرّق إلى برنامج تلفزيوني أحرص على مشاهدته كلما أُتيح لي المجال وأعني برنامج (عالم الحيوانات). ربما لأنه يلخص واقع الحياة الاجتماعية للجنس البشري في بعض جوانبه، وبأسلوبٍ وثائقيّ شائقٍ ممتعٍ بعيدٍ عن التمثيل والخدع السينمائية. حيث نرى مثلاً قطيعاً من الجواميس يعدو في البرّية وعدداً من الذئاب والضباع تتربّص بهذا القطيع من خلف الحراج مراقبةً متفحّصةً مكامن الضعف في هذا القطيع؛ الجواميس الهرمة، المريضة، المولودة حديثاً.. والتي تفتقر إلى آلية الدفاع الغريزية عن حياتها ويسهل الوصول إليها وافتراسها.. فتنقضّ عليها. فالوحوش دائماً غدّارة وديدنها التخطيط والترقّب والانتظار للهبش والفتك بالفريسة. ولا يمكن أن تتوقف عن ذلك أبداً.
نعم يا صديقي، إن بلدنا يتعرّض إلى مؤامرة خبيثة دنيئة بسبب دعمها للمقاومة ووقوفها صامدة بوجه المخططات الإمبريالية. وتدفع ثمناً باهظاً لقولها لا للهيمنة الأمريكية على المنطقة.. لا لتصفية القضية الفلسطينية.. نعم للقرار الوطني المستقل الذي يخدم مصالح الشعوب. وطبعاً الدول المتضرّرة من هذه السياسة لا يمكن إلا أن تخطّط وتتآمر علينا لتطويعنا وتركيعنا.. ولكن من يسلك هذا السلوك الممانع المقاوم، يجب عليه أن يكون قد اتخذ كل تدابير المواجهة لصدّ هذا العدوان.
أجاب صديقي عابساً: يا رجل وكأنك لست من هذا الكوكب! وحياتك لو كانت سورية جنة الله على الأرض، فالمؤامرة قادمة لا محالة..
قلت له: أتفق معك بأن المؤامرة مبيّتة وقد اختار أعداؤنا التوقيت المناسب جداً لهم. وللأسف فإن التربة خصبة لدينا لنجاح مؤامرتهم. بالله عليك قل لي: كيف تفسّر تغوّل الفساد وانتشاره في كافة ربوع البلاد.. هيمنة وشراسة الأجهزة الأمنية وتدخّلها حتى بصغائر الأمور. دخول السلاح عبر الحدود.. غياب الحريات والأحزاب.. أزمة الكهرباء، جنون الأسعار، ازدياد أرباح الأثرياء الجدد، ارتفاع نسبة البطالة والفقر الشديد والتخلف..؟
هل يعقل أن بلداً يعدّ نفسه مقاوماً ولديه كل هذه الاختراقات؟!!!
أجاب صديقي مستنكراً: على مهلك.. إذا كنت تشير إلى حالات الخلل والفساد والأخطاء.. فهذه الأمور موجودة في كل بلدان العالم.. اعطني بلداً واحداً خالياً من العيوب يا رجل؟!
قلت له وبحرقة قلب: صحيح، ولكن حجم الثغرات لدينا كان كبيراً جداً وعلى مختلف الصعد.. ولم نهيّئ بلدنا ونحصّنه لمواجهة المؤامرة كما ينبغي.
تُرى، لو أننا نفّذنا ما اتفقنا عليه مع (هوغو تشافيز) خلال زيارته لبلدنا عام 2007 بإنشاء مصفاة لتكرير النفط في الرميلان، هل كنا سنتأثر بالعقوبات الاقتصادية الأوربية المتمثلة بوقف استيراد النفط السوري؟
لو أننا بنينا محطات لتوليد الطاقة الكهربائية تكفي حاجة البلد المتنامية خلال السنوات القليلة الماضية.. لما استطاع كبار الفاسدين في وزارة الكهرباء وكبار تجار المولّدات والبطاريات والشواحن والشموع.. من استغلال الأزمة وتحقيق الأرباح الخيالية.
لو كان لدينا (مولات) في كل حيّ، تعود ملكيتها للدولة، تؤمّن الحاجات الأساسية للمواطن، وخاصة الغذائية منها.. لما تمكّن التجار من التحكّم بالأسعار ورفعها إلى الحدّ الذي يحلو لهم.
لو أننا علّقنا كبار التجار المحتكرين على أعواد المشانق، لما تجرّأ غيرهم ولوّعوا المواطن بشتى صنوف الإيلام. أم أن الديكتاتورية والاستبداد هي فقط على الفقراء والشرفاء في هذا الوطن المعذّب؟
لو كنا نوزّع الثروة الوطنية بشكلٍ عادل، لما وصلت نسبة الفقر لدينا إلى أكثر من %40 ولعانى أعداؤنا من إيجاد من يشتريهم ويجنّدهم من فقراء بلادي لحسابه. ولما كان للأصولية الدينية المتطرّفة مطرحاً لها في هذي البلاد.
لو أن التنمية بمختلف جوانبها شملت المواقع الجغرافية الأكثر بؤساً وتهميشاً ومرارةً.. لما التهبت هذه المناطق بتظاهرات الغضب بالأصل.
لو كان لدينا إعلام حرّ وصحافة حرة وأحزاب فاعلة وبرلمان حقيقي وقضاء نزيه.. لما كنا خسرنا المعركة الإعلامية بامتياز.
لو أن النظام أتاح للقوى العلمانية والتقدمية ما أتاحه لخصومها، من حرية تعبير وتنظيم ونشاط ودعم وتسهيلات لا تعدّ ولا تحصى.. لما تفوّق واحدٌ كالعرعور، من حيث قدرته على التحشيد والاستقطاب، على جموع اليساريين في سورية.
لو كان مبدأ تكافؤ الفرص فعّالاً، والجميع تحت سقف القانون دون تمييز أو محاباة.. لتعثّرت جهود دعاة العصبيات الطائفية والمذهبية..
لو أن القسم الأعظم من الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة في مصارفنا، بالروبل الروسي واليوان الصيني والروبية الهندي.. بدلاً من الدولار واليورو، لما تدهورت وهبطت القيمة الشرائية للّيرة السورية إلى هذا المستوى.
لو أن النظام استجاب لصوت العقل والمنطق وقام بتشكيل حكومة موسّعة قبل احتدام الأزمة، تشمل الشرفاء من النظام والمعارضة والحراك الشعبي.. وباشرت بالحوار الوطني والمصالحة والتعويض للمتضررين والإفراج عن المعتقلين السياسيين.. لما استطاع الحمدان والسعودان ومن يديرهما من تنفيذ مخططاتهم.
وأخيراً. ومن باب أولى، لو كنا بدأنا بالإصلاحات الشاملة والجذرية قبل بدء الأزمة، بصدمات إيجابية مبهرة.. من اجتثاث رؤوس الفساد الكبير، إلى إغلاق ملف الاعتقال السياسي، إلى بيئة تشريعية جديدة تواكب العصر.. إلى الإقلاع عن السياسات الاقتصادية الاجتماعية الليبرالية المدمّرة.. إلى اعتماد نهج اقتصادي يحقق أعلى معدّل للنمو وأكثر عدالة اجتماعية.. لما حصلت الأزمة، ولوفّرنا الكثير من المعاناة على شعبنا..
عندما أنهيت مداخلتي المطوّلة، أشعلت سيجارة تاركاً لصديقي «المؤيّد» جداً فرصة التعقيب، فما كان منه إلا أن هرش رأسه متثائباً وقال: بس يا أخي والله فيه مؤامرة كونية على هالبلد.
شو هالحكي؟!