«العودة إلى الوراء»..  مع أجندة الإسكوا

«العودة إلى الوراء».. مع أجندة الإسكوا

كثر الحديث عن (الأجندة الوطنية لمستقبل سورية) المشروع الذي ترعاه منظمة الإسكوا، للتجهيز لمرحلة إعادة الإعمار، وقد قدمت المنظمة التابعة للأمم المتحدة في تقريرها مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية-2016، توصيات عامة حول عملية إعادة الإعمار في المرحلة القادمة، كجزء من التسويق لمشروع (الأجندة) الذي يعمل تحت مظلة الإسكوا..

 

فما أهم محاور إعادة إعمار الاقتصاد السوري، وفق الأجندة ذات الكوادر السورية، والرعاية الدولية، وكيف نرى فيها عودة إلى الوراء؟!..

نقطتان محوريتان أعلنتهما الإسكوا من المشروع، الذي لم يطلق ورقته الاقتصادية للعلن، الأولى: تتعلق بصياغة مهمة للنمو الاقتصادي، والثانية: تتعلق بمصادر التمويل وطرقه..

الهدف: «العودة إلى 2010»!

«المطلوب إعادة الناتج المحلي الإجمالي في البلد بحلول عام 2025 إلى المستوى الذي كان عليه في عام 2010» وفق الإسكوا..

حيث يشير التقرير، بأن الانتقال من ناتج قرابة 27 مليار دولار في عام 2016، إلى ناتج قرابة 60 مليار دولار في عام 2025، يتم عبر معدلات نمو سنوي: أعلاها 10,8% تقريباً في العام الأول، وتنخفض إلى 5% في العام العاشر، بوسطي نمو سنوي 8% تقريباً. وفق شكل (3-26) وارد في التقرير.

ولكن هذا مشروط بتوفر استثمارات سنوية، وسطية تبلغ 18 مليار دولار سنوياً، ونسبة استثمار من الناتج تبلغ قرابة 40%.

ومع هذا فإن الأجندة لا تتوقع أن تتوسع معدلات النمو، بل أن تتراجع ، لأنها لا تتوقع بأن كفاءة الاستثمار سوف تتحسن بشكل جدي، فتقدر أنها انخفضت إلى النصف خلال الأزمة، وأنها ستتحسن نسبياً في المرحلة اللاحقة..

إن أجندة الإسكوا، تشبه إلى حد بعيد الخطة الخمسية الحادية عشر، التي تستشهد بها، والتي وضعها أصحاب نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي، الليبراليون في سورية، والتي كانت تقول أن نسبة النمو الوسطية هي 7%، باستثمارات سنوية وسطية خلال خمس سنوات 20 مليار دولار.

ينبغي القول: بأن هذه التوقعات متواضعة إلى حد بعيد، وتحديداً عند قياسها بحجم المهمات المطلوبة بعد الأزمة. فهذه النسب الموضوعة كهدف، أقل من الأهداف الضرورية في عام 2010، فوفق التقديرات، كنا نحتاج إلى نمو وسطي سنوي 10%، لمضاعفة الناتج خلال 6 سنوات، ولكن بشرط رفع الكفاءة إلى 30% عوضاً عن 22% السابقة، ورفع نسبة الاستثمار إلى حدود 30-40% من الناتج. وكان هذا يتطلب بالضرورة تغيير في طبيعة النموذج الاقتصادي الليبرالي السوري، الذي ينتج نمواً ضعيفاً، أي في إلغاء نسبة الفساد والهدر التي تخفف الكفاءة، وتغيير جذري في حصة الأجور، التي لم تكن تتعدى ربع الناتج 25%، بينما تحصل الأرباح على 75%.

أي أن سورية قبل الحرب، وخسائرها ونتائجها الاقتصادية- الاجتماعية، كانت تتطلب معدل نمو وسطي 10%، خلال ست سنوات، وهي تحتاج بعد الحرب إلى أكثر من هذه النسبة، وتحتاج معها إلى تغييرات جذرية في نمط توزيع الثروة، وتعبئة الموارد ومركزتها وإدارتها بشكل منظم. ومقابل هذا كله تقتصر الإسكوا و(أجندة المستقبل) على هدف 8% نمو خلال عشر سنوات، دون أي ذكر لطبيعة النموذج الاقتصادي، وانحيازه للأرباح وتسخيره للفساد.

إن وضع أرقام نمو متواضعة كهدف، لا يعتبر واقعية، بل يعتبر محاولة لإبقاء النموذج الاقتصادي السابق، والعمل ضمن حدوده، أي عدم تغيير نمط توزيعه للثروة، وعدم تغيير السياسات كلها التي يفرضها هذا التغيير!

إن السوريين الذي يشمل الفقر أكثر من 80% منهم، يحتاجون إلى توسيع النمو بمعدلات أعلى، وهذا الجانب الأول، ويحتاجون بالضرورة، إلى إعادة توزيع هذا النمو على أجورهم ونفقاتهم الضرورية، فالأجور السورية اليوم تحتاج إلى زيادة بنسبة 500%، أي تحتاج إلى أن تحصل على نصف الناتج بالحد الأدنى! وهذا كله لا يدخل في حسابات أجندة الإسكوا، ومشروعها الليبرالي..

وتظهر ليبرالية المشروع، من خلال عدم التركيز على مسألة إعادة توزيع الثروة جذرياً، إلا أنها تظهر بوضوح أكثر من خلال الاعتماد على تدفقات الاستثمار الخاص كمصدر رئيسي لتحقيق هذه الأهداف المتواضعة!

الطريقة:

 الاستثمار الخليجي والدولي

الإسكوا تقول: بأن تأمين الاستثمارات، وتدفقها هو الشرط لتحقيق هذه الأهداف، أي إذا لم تأتِ الاستثمارات، فمن الممكن عدم تحقيق النجاح..

وتقول بأن الموارد لها مصدران: محلي ودولي، أما المحلي فتقصد به المنظمة الدولية، مجموع الفوائض المتوفرة في المنطقة، أي في منطقة (الشرق الأوسط)، والتي تقدرها بحوالي 951 مليار دولار، الجزء الأساسي منها في دول الخليج العربي، وتعود إلى القطاع الخاص، والشركات الاستثمارية العربية كما يقول التقرير.

فهل تعتبر هذه الموارد محلية بالنسبة لسورية؟! لا إنها تعتبر استثمارات خارجية، وقد جربت سورية دفق (الاستثمار العربي) إليها في مرحلة الخطة الخمسية العاشرة، حيث أنه لم يتعد نسبة 3% في عام 2008، واتجه بمعظمه لقطاعات السياحة والنفط والمصارف، كما تذكر دراسات القائمين على هيئة التخطيط السورية.

وقد قدمنا لهؤلاء، التسهيلات الممكنة كلها لكي يستثمروا في سورية، فلم نشترط عليهم أن يستثمروا في الصناعة أو الزراعة، وخفضنا لهم الضرائب إلى مستويات قياسية، وسمحنا لهم بأن يُخرجوا أموالهم وأرباحهم من سورية ساعة يرغبون، وهو ما فعلوه عندما اندلعت الأزمة.. فهل من المعقول أن يعتمد السوريون في إعادة إعمار بلادهم، على تدفقات الأموال الخليجية أو حتى السورية الخاصة، وشروطها والمواضع التي تريد الاستثمار بها؟ وهل لدينا ترف أن نعطيهم نسبة ربح كبيرة من الناتج ليسحبوها ويخرجوا من البلاد؟! لا نعتقد ذلك، ولكن النموذج الليبرالي لإعادة الإعمار الذي تسوق له الإسكوا، يرى أن هذا هو المخرج الوحيد! رغم أن التقرير يتوقع انخفاضاً وتراجعاً كبيراً في الفوائض المالية في منطقة (الشرق الأوسط) نتيجة التراجع المستمر في أسعار النفط، ونتيجة تراجع القدرات المالية لهذه الدول والصناديق المالية الخليجية التي لا تنفصل عن الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تخفض معدلات الاستثمار في كل مكان عبر العالم.

أما بالنسبة للمساعدات الدولية، فلا تبدي الإسكوا تفاؤلاً كبيراً بها، بناء على تجربة عدم التزام الجهات الدولية في مؤتمر لندن وغيرها، بما تعهدت به من مساعدات للاجئين السوريين، ونتيجة ظرف الأزمة الاقتصادية العالمية..

أي أن الإسكوا تضع خطة نمو متواضعة وليست على مستوى الكارثة، والأسوأ أنها ترهنها لرغبات ومصالح الاستثمارات الخليجية والدولية التي تأرجحها الأزمة العالمية، وأنها لا تأتي على ذكر أي من التشوهات الاقتصادية الكبرى التي تعتبر سمة الاقتصاد الليبرالي السوري، لا بل تريد الإسكوا أن تعيدنا ليس فقط إلى رقم نمو عام 2010، بل إلى النموذج الاقتصادي السابق..

لن تضمن سورية في مرحلة إعادة الإعمار، الحصول على أكثر من 180 مليار دولار استثماراً مطلوباً من المال الخليجي، أو الدولي، كما تأمل «الإسكوا»، وتجربة السوريين مع هذه الاستثمارات تقول: أن هذه الأموال إذا ما تدفقت، فإنها لن تحقق شكل ونموذج النمو المطلوب. فالضرورات تقتضي أن يتم الإنفاق الكبير على توسيع قدرات الاستهلاك والإنتاج السورية، عبر خطة استثمارية منظمة، ستتطلب حكماً أن نخفض حصة أصحاب الربح، ونزيد حصة الإنفاق والأجور. أي أن نرفع الضرائب على أرباح الشركات، والمستثمرين الأجانب، والعرب، لا أن نخفضها، وأن نمنع إخراج الأموال والأرباح، لا أن نحرر حركتها ونسمح لها بالمغادرة. والضرورات قد تقتضي أن نصل إلى سحب قطاعات كاملة من يد السوق، كتجارة الأراضي العامة، وجزء من تجارة الغذاء الضروري، لنؤمن للسوريين حقوقهم الأساسية في الغذاء والسكن بسرعة.. وهذا كله لا يلائم المستثمرين، الذين يجدون في نموذج الإسكوا و(أجندتها الوطنية) مدافعاً ليبرالياً عن مصالحهم.. بينما تحتاج مصلحة سورية، إلى إنهاء الأوهام الليبرالية القديمة، ووضع أجندة ثورية في إعادة إعمارها، تنهي بشكلٍ فعلي، أكبر أزمة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، لتشكل نموذج جديد قائم على أعلى نمو، وأعمق عدالة اجتماعية.

هوامش: الإسكوا اللجنة الاقتصادية الاجتماعية للأمم المتحدة في غربي آسيا.

 

آخر تعديل على الأحد, 20 تشرين2/نوفمبر 2016 13:37