بصدد مقالة د. نبيل سكرصحيفة «تشرين» 28/6/2003 ...ذاب الثلج وبان المرج
إن التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عصفت بالعالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي بدأت تفرز مفردات جديدة يحاول مطلقوها التعمية على الحقيقة وطمس المفاهيم الصحيحة وسحبها من التداول. كمفردة الدكتور نبيل سكر (الاقتصاد الجديد) بدل النيوليبرالية ونعرف بأنه يجب أن يتبع هذا المصطلح نيوليبرالية صفة المتوحشة. كل ذلك يعمى عليه بمصطلح الاقتصاد الجديد.
لنتابع مايقصد د. سكر بالاقتصاد الجديد الذي يتميز بخاصتين رئيسيتين حسب زعم د. سكر:
- الانفتاح التجاري والاستثماري العالمي وما يتضمن من تزايد هائل في انتقال السلع والاستثمارات الخاصة بين الدول، إلى الحد الذي جعل من التجارة والاستثمار الأجنبي محركين للنمو.
أي كرازة هذه؟؟!!
إذن لماذا كل هذه المعارك المفتوحة بين المراكز الإمبريالية عبر سياسة الحماية الجمركية والقوانين الخاصة / الفولاذ في أمريكا ـ المنتجات الزراعية في أوروبا / والانعكاس الاقتصادي للقوانين التي تحاصر فيها الولايات المتحدة كوبا بالنسبة لبقية بلدان المركز.
نعم الصحيح هو الفتح التجاري لا الانفتاح
فتح تجاري وبالقوة إن لزم الأمر لأسواق العالم خارج المركز لتدفق البضائع والسلع ولنهب المواد الأولية وكل الثروة المتحققة من تراكم رأسمالي أولي في هذه الأسواق.
الطامة الكبرى أن التجارة والاستثمار الأجنبي كما يزعم د. سكر (يحققان النمو المنشود).
هل لعاقل أن يصدق هذه الأقوال وهو يشاهد ماحل بالمكسيك والبرازيل والأرجنتين وأندونيسيا…إلخ.؟؟!! بل ما هو ناتج هذه التنمية في هذه الدول التي تدفقت عليها مليارات الاستثمار الأجنبي وتجارتها الحرة مع الأسواق العالمية. لقد نتج عن هذه التنمية في هذه الدول أرقام فلكية للديون وإفلاس كامل لقطاعات واسعة من طبقاتها الوسطى بل شبه إفلاس كامل لهذه الدول. ولكن ربما كان د. سكر يقصد النمو الكبير الذي حصل في جيوب فئة القلة من بورجوازيي هذه الدول، لقد نمت هذه الجيوب حتى التهمت أوطانها وحولتها أرقام سندات في بورصات المراكز الإمبريالية، أما ثورة الاتصالات والمعلومات وغزارة تدفقها فعن ماذا يجري الحديث؟!! كأن تكافؤ الفرص أصبح متاحاً وهناك معلومات بغزارة البحار ومن شاء فليغترف منها لسهولة وإمكانية تداولها. إن المستعدين لتلقي المعلومات والفائدة منها هم مالكو وسائل الإنتاج. مالكو رأس المال. المراكز الإمبريالية. وكما نهبت ولاتزال تنهب المواد الأولية والمنجمية فإنها تنهب أيضاً العقول المنتجة والمصنعة للمعلومات بحيث يستمر التقسيم العالمي للعمل.
تكنولوجيا المعلومات المتطورة ستبقى حكراً على المركز. وستنهب هذه المراكز أية إمكانية علمية تتوفر في أي مكان من الأطراف كأي مادة أولية ولن تصدر هذه المراكز المعلومات بل ستصدر السلع المصنعة بهذه المعلومات. وتستطيع أن تستورد الكثير من هذه السلع الاستهلاكية ولكنه (محُرمٌ) استيراد تكنولوجيا تستطيع إعادة إنتاج معلومات جديدة وسلع جديدة وحماية الملكية كقانون يصونه (الرب الإمبريالي) ويفرضه على عباده في كل العالم. ولنرى إن كنت قادراً على شراء حقوق هذه الملكية.
بيت القصيد
هانحن نصل مع الكاتب د. سكر إلى بيت القصيد.
يقول د. سكر: «لقد عزز الاقتصاد الجديد من هيمنة القطاع الخاص ونظام السوق في العملية الإنتاجية.وزاد من التدفق الاستثماري الخاص بين الدول الصناعية والدول النامية» ويخلص د. سكر أن (التنمية المستقلة اصبحت لاغية وغير موجودة ومستحيلة) والسوق المعولمة كلمة السماء ولامجال للاعتراض عليها. وما على الدول الراغبة في التنمية إلا الانخراط في السوق العالمية وبشروط هذه السوق بشرط أن تتعرى من كل قوانينها وأنظمتها الاقتصادية وتقف عارية ساجدة في حرم الرب الرأسمالي. ونتيجة لهذا القدر المقرر لم تعد الدولة كمالكة لوسائل الإنتاج (قطاع حكومي) قادرة على التنمية المستقلة المعتمدة على خطة خمسية ولم تعد قادرة كدولة على إدارة القطاع الاقتصادي ولعبة السوق. لذلك نصل مع د. سكر وبجبرية مهولة إلى الحل القدر:
القطاع الخاص هو الحل ـ قانون السوق هو الحل ـ السجود على عتبة المراكز الإمبرالية هو الحل. وبلا أحلام رومانسية عن التنمية واستقلال القرار الاقتصادي وبالتالي القرار السياسي.
أي بلا وجع رأس ودعونا ندخل حلقة الراقصين.
يقول د. سكر: «يحمل هذا الاقتصاد للدول النامية فرصاً من جهة وتحديات من جهة أخرى يفتح لها منفذاً لمنتجاتها في الأسواق العالمية ـ يوفر لها مصادر استثمارية خاصة ترفد مدخراتها المحلية ومن خلال دخولها عالم المعرفة واستخدامها أدوات المعرفة الحديثة يمنحها فرصة تاريخية لتحقيق فقزات تنموية كبيرة إلى الأمام تمكنها من الاندماج في الاقتصاد العالمي».
«تعولم».. أم حنين؟!
نسأل د. سكر: كيف نستطيع تغيير تقسيم العمل الدولي؟! أم أن هذا العمل قد دول ويستطيع أي عامل في أي مكان من العالم الذهاب إلى السوق التي يراها مناسبة له في العالم؟! ولكن وكون هذا التقسيم لم يزل قائماً وبشدة، فنعم إن إنتاج المزيد من المواد الأولية المنجمية مطلوب وبشدة لتشغيل مكنة السلع في دول المركز وإذا نظرنا إلى الأرقام الفلكية المستثمرة في إنتاج المواد الأولية والمنجمية وخاصة النفط، نعرف عن أي منفذ لمنتجاتنا يقصد د.سكر أي مصادر استثمارية خاصة. والمضحك!! الحديث عن مدخراتنا المحلية؟!!! يا أخي ألم تتعولم الرساميل والناس. ألم يصبح العالم قرية صغيرة. فعن أي محلية تتحدث وأرقام أرصدة السوريين في المراكز الإمبريالية شاهدة على هذا التعولم، أم أنك تحن إلى المحلية؟؟!!!
أما الدخول في عالم المعرفة فنكتة مبكية: إن بنية المعرفة تتطلب مجتمعاً عارفاً يملك بنية تحتية تؤهله لاستقبال المعلومة وإعادة إنتاجها. وبالسوق المعولم وبما ينتجه ويفرضه من بنى متخلفة مخلعة في الأطراف لايمكن، وضمن التنمية الموصوفة (قطاع خاص)، الوصول إلى مجتمع المعرفة بل سيقتصر استخدام المعرفة والمعلومات على سلع الاستهلاك الثقافية.
إخراج الدولة من العملية الإنتاجية
يتابع د. سكر: لمواجهة تحديات الاقتصاد الجديد على بلد مثل سورية لابد من العمل على خمسة محاور: (الإصلاح الاقتصادي ـ التنمية الاقتصادية والاجتماعية ـ التنمية التكنولوجية ـ التنمية البشرية ـ تحرير العقل). إذاً إن الإصلاح المطلوب حسب د. سكر: هو الذي يخرجنا من التخطيط المركزي والأوامر الإدارية ويدخلنا نظام السوق الذي لاينفي دور الدولة ولكنه يحدد لها دورا ًخارج العملية الإنتاجية.
انتبه كذلك: أن نظام السوق وحده لن يحقق التنمية فلابد من تدخل الدولة فيوضع تصور لمستقبل البلد الاقتصادي بالتشاور مع القطاع الخاص والقطاع المدني ولابد من وضع خطة تنموية للاقتصاد ـ طبعاً من قبل الدولة ـ إذاً يصل د.سكر إلى جوهر ما يريد قوله: أعطوا القطاع الخاص كل العملية الإنتاجية ـ اندمجوا في نظام السوق ـ ولترفع الدولة يدها عن العملية الإنتاجية.
الورد.. بدلاً للقمح!!
يا أخي القطاع الخاص يريد أن ينتج ويزرع وروداً والورد مطلوب في السوق العالمية وبأسعار مجزية فلماذا وجع الرأس وزراعة الحبوب وخاصة القمح. نحن نستطيع ضمن قوانين السوق وحرية التجارة أن نستورد القمح بسعر زهيد ونحقق ربحاً أكبر من تصدير الورود وربحاً أكبر من استيراد القمح. ولكن الدولة عبر خططها الزراعية والتخطيط المركزي والأوامر الإدارية تعرقل ربحنا الممكن التحقيق. وحتى لاتزعل الدولة فنحن بحاجة ليدها قوية مدججة لماذا؟؟!!! (لضمان عمل نظام السوق).
نعم إن الأرباح التي سيزداد تكديسها لدى القلة من عرق ودم المنتجين بحاجة إلى حماية. لأن الطرف الأخر سيزداد فقراً ولابد من قوة السلطة وأدوات السلطة لتردع هؤلاء الفقراء كي لا يهدموا نظام السوق. وهناك مهمات إضافية للدولة يطلبها قانون السوق: أن الاستثمار في القطاعات الخاسرة والبنى الأساسية لايستثمر فيها القطاع الخاص ولابد للدولة من تمويل هذه القطاعات. «وعلى الدولة وضع خطط تنموية للاقتصاد» ما هذا؟؟!! بعد المطالبة بإبعاد الدولة عن العملية الإنتاجية وإلغاء التخطيط المركزي والأوامر الإدارية، نعود لنطالب بخطط تنموية للاقتصاد من قبل الدولة ولكن هذه المرة بالتشاور مع القطاع الخاص (عال)!! حتى يكون مقدار المخاطر في العملية الإنتاجية صفراً. سيعرف القطاع الخاص ماالذي تريده الدولة من الاقتصاد وهو الأصح: ماذا يريد القطاع الخاص من الدولة لتضعه كبرنامج للتنمية الاقتصادية وماهي القطاعات الكبيرة التي تستثمر فيها الدولة وبحاجة لخدمات القطاع الخاص مما ينمي جيوب وكروش أصحاب الأموال وبنوك أسيادهم في المراكز الإمبريالية.
أما ما يحاول د. نبيل سكر أن يخدعنا فيه: من تنمية بشرية تعزز احترام كرامة الفرد وكفالة أمنه ومن تحرير للعقل وعلمانية وضاءة والقضاء على الأساطير والخرافات وتأمين الحرية والعدالة والأخوة والمساواة.
فنقول له: إن مطلع القرن التاسع عشر هو غير مطلع القرن الواحد والعشرين، فالرأسمالية المعولمة المتوحشة في القرن الواحد والعشرين هي غير رأسمالية البرجوازية الليبرالية في مطلع القرن التاسع عشر.
«ثقافة» التجهيل والخرافة
لقد أصبحت برجوازية اليوم المعولمة ضد كل قيم العقل والحرية والمساواة. وما الثقافة الاستهلاكية التي تستعبد الإنسان وتطلق العنان لغرائزه وعبر سلع معرفتها تنشر كل ثقافة التجهيل والخرافة والغريزة ومحاولة د. نبيل سكر أن ينقل تجربة دولة الرفاه الرأسمالية هي خداع وأضغاث أحلام. فالدولة الرأسمالية في المركز تنزع المكاسب العمالية التي أعطتها دولة الرفاه ويخوض عمال هذه الدول معارك كبيرة ضد العولمة واقتصادها الجديد المتوحش. الذي يدمر البشرية وبوحشية لم يسبق لها مثيل. وسنشاركهم نضالهم ضد مشروع د. سكر في اقتصاده الجديد.
منطق السوق المعولم
إن ما جرى ويجري حولنا لكل من أخذ بمنطق السوق المعولم يقدم لنا درساً جيداً للقراءة. إن بقاء قرارنا السياسي وطنياً ومستقلاً: رهن بالتنمية المستقلة غير المنعزلة. ورهن ببقاء قطاع الدولة قطاعاً رائداً في الاقتصاد ولابد من إصلاحه. ورهن باستمرار التخطيط الاقتصادي وخاصة في شقه الزراعي.
أما قوى السوق والاستهلاك فلنا معها جولات ولايوجد قدر لايمكن التغلب عليه.