الاقتصاد الوطني بين الأمراض الوظيفية.. والعضوية
ما الأمراض الوظيفية والعضوية التي يعاني منها الاقتصاد السوري؟! وما الفرق بينهما؟!! وهل يمكن أن تتحول الأمراض الوظيفية المزمنة والمستجدة بسبب عدم الحل وتجاهل الجذور الحقيقية لها إلى أمراض عضوية لن ينفع فيها العلاج فيما بعد؟! هذه الأسئلة طرحتها صحيفة قاسيون على عدد من الاقتصاديين، فكانت الإجابات التالية:
د. عابد فضلية:
خلل السياسات، يؤدي إلى تشوه وعاهات في الاقتصاد
يرى د. عابد فضلية الأستاذ في جامعة دمشق أنه «عندما تكون السياسات المالية خاطئة تؤدي بالضرورة إلى مرض عضوي، فالخلل بالسياسات الوظيفية يسمى أمراضاً وظيفية وعندما يزداد يصبح أمراضاً عضوية، أي أنه يصبح جزءاً من الاقتصاد، وبالتالي يصبح هناك تشوه في الاقتصاد.
فالأمراض الوظيفية هي الخلل في السياسات المالية النقدية الاستثمارية الاجتماعية، وعندما يستمر الخلل في إدارة هذه السياسات، يؤدي إلى تشوه وعاهات في الاقتصاد، وتصبح هناك أمراض عضوية.
الإنفاق الحكومي بدأ ينخفض منذ عام 2003 تباعاً مقارنة بالميزانيات السابقة، وهذا أدى مع تتالي السنوات، لقلة التراكم الرأسمالي في القطاع الحكومي، وبالتالي قلة إيرادات القطاع العام الحكومي على المدى المتوسط، وهذا ما نعاني منه حالياً، أي أصبح هناك مرض عضوي في الاقتصاد السوري، وهو الخلل الهيكلي في استثمارات وإيرادات القطاع العام، وضعف مستدام بالقدرة الاستثمارية والإنتاجية للقطاع العام، بينما كان الجزء الأكبر من ميزانيات السنوات السابقة استثمارياً، وبدأ التخفيض سنة 2005 بنسبة 25%، وتبعها في نهاية 2005 لتصبح 100%.
الاقتصاد السوري يمر بمرحلة انتقالية بكل ما للحالة الانتقالية من سلبيات وإيجابيات، فاقتصادنا انتقالي بمعنى أن ليست له هوية واضحة في التطور، ولو أن العنوان هو الإصلاح واقتصاد السوق الاجتماعي، وهذا الغموض ناتج عن أننا اليوم أمام اقتصاد سوق اجتماعي يفترض أن نشاهد فيه ملامح ترسخ اقتصاد السوق بشكل أكبر، وبالوقت ذاته نجد ملامح «الاجتماعي» لهذا السوق، ولكننا اليوم نرى الكثير من ملامح اقتصاد السوق، والقليل من الجوانب الاجتماعية، فهذه المرحلة تمثل التشوه واللا وضوح.
نحن الآن في نهاية الخطة الخمسية العاشرة، والأزمة المالية العالمية والاقتصادية هزت اقتصاديات العالم في الدول المجاورة، وأثرت على الاقتصاد السوري، ورغم ذلك لم نلاحظ أن هناك متغيرات أو سيناريوهات احتياطية بديلة قد وضعت من أجل تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة، ونحن ندعي الآن أننا في إطار الخطة الخمسية العاشرة، رغم التبدلات السلبية التي حدثت في ظل الاقتصاد السوري واقتصاديات الدول المجاورة والعالمية. ونتمنى أن يأخذ الواقع المتغير بالاعتبار عند التخطيط، فالواقع الذي وضعت فيه الخطة في العام 2006 لا يشابه الواقع الحالي الآن، ويجب وضع أهداف للخطة، وكأنها بدأت في العام 2008 ـ 2009 تنسجم أكثر مع الواقع، بالإضافة لوضع تصورات وأهداف العام 2010.
د. حيان سلمان:
هناك أمراض وظيفية ستصبح بنيوية بعد زمن قصير
د. حيان سليمان الاقتصادي المعروف يؤكد أن «الاقتصاد السوري متنوع بهيكله ويضم قطاعات إنتاج مادية (الزراعة والصناعة) وخدمية (المال، التأمين العقارات)، و كلما سارت النسبة والتناسب بين هذه القطاعات لمصلحة قطاع الإنتاج المادي كان الوضع الاقتصادي أفضل، لأن قطاع الاقتصاد الإنتاجي يجب أن يخدم قطاع الخدمات، وأن تكون مصادر النمو الحقيقية للناتج المحلي الإجمالي من قطاع الإنتاج.
لو حاولنا تحليل الاقتصاد السوري نجد أنه في السنوات الأخيرة مع الخطة الخمسية العاشرة بدأ قطاع الخدمات ينمو على حساب قطاع الإنتاج المادي، وتحققت معدلات نمو وسطي بين 5 ـ 7%، ولكن مصدرها كان قطاع الإنتاج الخدمي، بدليل تراجع معدل نمو الزراعة وتراجع مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي في القيمة المطلقة وفي القيمة النسبية. مساهمة الزراعة في عام 2006 كانت بحدود 24%، وتراجعت في عام 2008 إلى 14%. أما قطاع الصناعة الاستخراجية فقد تراجعت من حيث المساهمة، ولكن بالقيمة المطلقة في عام 2008 ارتفعت بسبب زيادة أسعار النفط.
تراجع الزراعة والصناعة التحويلية التي لا تزال بحدود 8 ـ 10% تعد من الأخطاء الوظيفية، ولكن إذا لم تعالج بسرعة، فإنها ستتحول إلى أمراض بنيوية مرتبطة بطبيعة الاقتصاد السوري.
من جهة أخرى، نلاحظ أن نمو قطاع العقارات والخدمات المالية والتجارة، وترك هذه القطاعات لآلية السوق أو للعرض والطلب سيؤدي إلى تحول الأخطاء الوظيفية الموجودة في الاقتصاد السوري إلى أخطاء بنيوية، لأن قطاع التجارة بطبيعته تابع للقطاع أو للاقتصاد الإنتاجي، فالتجارة يجب أن تخدم الإنتاج لا أن يكون العكس. فهناك بعض ملامح الخلل في الاقتصاد السوري، وعلى الخطة الخمسية الحادية عشرة أن تضع حداً لها، وأن تسعى لتحويل هذا الاقتصاد إلى اقتصاد إنتاجي خالق للقيم المضافة، خاصة في مجال الزراعة والصناعة.
البيانات الحكومية تقول إن معدل البطالة ارتفع في عام 2009، وهذا مرض وظيفي، لكن إذا لم نعمل على معالجته، فإنه سيتحول إلى مرض أو خطأ بنيوي، ويتحول إلى آفة اجتماعية حقيقية. واقتصادياً ترتبط البطالة بالعطالة، وعطالة الموارد تتناسب عكساً مع التقدم الصناعي والاقتصادي، علماً أن المشاكل الاقتصادية لا تحل بذاتها، بل تتطلب خطة وتخطيطاً أمثل وتوصيفها بشكل دقيق.
بالتحليل الواقعي، تعاني المؤسسات الصناعية السورية من تراجع الطاقة الإنتاجية لها، تراجع المبيعات، زيادة المخازن، هذه المشاكل الثلاث مؤقتة، ولكن يخشى أن تتحول إلى مشكلة بنيوية يصعب معالجتها، وبالتالي يصبح رأسمالاً إضافياً يجمد عند الموقع الإنتاجي ويزداد الاستهلاك المادي والمعنوي، ويصبح معيقاً، وقد يؤدي إلى انتهاء هذه الشركات.
الإنتاج الزراعي مدعوم في كل دول العالم، فالولايات المتحدة كانت ترسل شيكات مفتوحة إلى مزارعيها مقابل عدم زرع أراضيهم والالتزام بالخطة الزراعية، أو دعم الإنتاج الزراعي بأموال كبيرة، لكن أصحاب الليبرالية الاقتصادية عندنا يتمسكون بما طرحته الاقتصادية الغربية، ولكن بعد أن تراجعت هذه الليبرالية عن طروحاتها. وهذا تؤكده كتابات عمالقة الاقتصاد الغربي الذين لاحظوا أن السوق لا يمكن أن ينظم نفسه، لذلك دعموا تدخل الدولة. فإذا استمر تجاهل رغبات الفلاحين واستمروا في هجر أراضيهم، تتحول هذه الأراضي الزراعية في سورية إلى حالة «البور» وبعدها إلى التصحر، ونكون عندها انتقلنا من الخلل الوظيفي الذي نعيشه الآن وهو تراجع الإنتاج الزراعي، إلى خلل بنيوي يتمثل بعدم قابلية هذه الأرض للاستصلاح. في علم الاقتصاد يجب أن لا تعمل الدولة بعقلية التاجر، وإنما بعقلية الدولة والمخطط. سورية تحتل المرتبة الخامسة عالمياً بإنتاج الزيتون، لكن تضاؤل اهتمام المزارعين في الساحل السوري بزراعة الزيتون سنة بعد أخرى بسبب تجاهل طلباتهم، وعدم تسويق إنتاجهم، سيوصلنا في يوم ما أن نطلب الزيت فلا نجده، وبالتالي تتحول المشكلة الوظيفية إلى مشكلة بنيوية.
العجز التجاري منذ عام 2004 كان بحدود 26 مليار ليرة سورية، ولكن مع إهمال هذا الموضوع ارتفع إلى 76 مليار ليرة سورية، ثم إلى 105 مليارات، والدراسات الأولية تشير إلى أنه تجاوز 130 مليار ليرة سورية في عام 2008، أي أننا أصبحنا هنا أمام مشكلة عضوية يجب معالجتها.
الاقتصاد كالإنسان، والمدرسة الفيزوقراطية شبهت الدورة الاقتصادية بالدورة الدموية، وأي خلل بالدورة الدموية يبدأ صغيراً ثم يكبر، وفي الاقتصاد، إذا تركت الأخطاء الصغيرة للزمن ولم تعالج فستتراكم وتكبر ويصعب حلها، وهناك مثل يوناني يقول: «المشكلة الاقتصادية في بدايتها صعبة التوصيف سهلة الحل وبعد توسعها تصبح سهلة التوصيف صعبة الحل»، لذلك إذا لم نعالج هذه الأخطاء الوظيفية ستتحول إلى أخطاء عضوية خلال الدورة الاقتصادية القادمة، وقد يختلف الزمن في كل الموضوع، فالبطالة تعطي نتائج كارثية مباشرة، لكن موضوع الزيتون مثلاً يحتاج إلى ثلاث سنوات ليبدأ بالتأثير الواضح».
د. غسان إبراهيم:
اقتصادنا مصاب بأمراض بنيوية تصعب معالجتها في المدى المنظور
يعاني الاقتصاد السوري حسب د. غسان إبراهيم «من مجموعة من الأمراض البنيوية (العضوية) التي يصعب التخلص منها على المدى المنظور، والتي يمكن أن تتحول إلى وظيفية وتصبح على شكل سياسات، وتتحول في النهاية إلى حالة مؤسساتية وتستمر على شكل حلقة مفرغة وأهمها:
- ضعف القدرات التنافسية بشكل عام، ويمكن التعبير عنها بمجموعة من المؤشرات أهمها التسعير غير الاقتصادي أو (الإداري)، بمعنى آخر: تضخيم التكاليف.
- الضعف المؤسساتي وكل ما يتعلق بالابتكار والإبداع، وحتى القانون الناتج عن الثقافة السائدة، ولا نقصد بالمؤسسات هنا الوزارات أو المؤسسات العامة، بل أبعد من ذلك بكثير.
- غياب التكنولوجيا وغياب التجديد التكنولوجي، أو التقادم التكنولوجي المستمر من حوالي نصف قرن إلى الآن، ففي المنشآت السورية آلات قديمة تعود للستينات والسبعينات أو الثمانينات، وهناك بعض خطوط الإنتاج عمرها 2008 ـ 2009، فالعامل الحاسم على تحقيق مستويات متقدمة من التنمية الصناعية هو العامل التكنولوجي (المكننة والأتمتة والبرمجة)، وهذا مرض بنيوي قديم، سببه تقلص الاستثمار الإنتاجي في الميزانيات الحكومية لمصلحة الاستثمار الجاري، وبالتالي أصبح التقادم مشكلة مزمنة في الاقتصاد السوري، ويمكن أن تتحول إلى مرض وظيفي مستمر عبر سياسات لا تساعد على هذا التجديد التكنولوجي.
- انخفاض الإنتاجية الإجمالية أو الكلية، سواءً مساهمة رأس المال أو الأرض أو عوامل الإنتاج، أو مساهمة قوة العمل، أو بالإنتاجية التقنية الفنية الاقتصادية أو ما يعرف الآن بالإنتاجية الكلية أو الإنتاجية المعرفية، التي يساهم فيها المستوى المعرفي للعاملين بالمنشأة (مستوى التأهيل والتدريب والشهادات التي يحملونها).
- ضعف الاستثمار بالإنسان سواء رأس المال البشري (التعليم والتأهيل)، أو ما يعرف برأس المال الاجتماعي، أي عمل الأفراد بالمنشأة بشكل جماعي، أي تنظيم قدراتهم، وخلق الظروف لتوظيف كل ما لديهم لتطوير المنشأة، فالعمل يجري دائماً بشكل فردي.
- غياب البحث العلمي الاقتصادي أو الصناعي، فهناك شبه انعدام لمكاتب أو دوائر في مؤسسات القطاع العام والخاص تخطط لتطوير هذه المنشآت.
وهذه الأمراض العضوية يعاني منها الاقتصاد السوري منذ فترة طويلة، والآن تتكرس أكثر، وفي المدى المنظور لا توجد بارقة أمل لمعالجة هذه الأمراض البنيوية، وإذا استمرت فإنها ستنعكس على شكل أمراض وظيفية يعبر عنها بالإجراءات، وتتمثل بالسياسات المالية أو النقدية أو الاقتصادية أو الاستثمارية، أو السياسات التزينية التي لا تلحظ هذه الأمراض العضوية، فالإجراءات والتشريعات الحديثة لم تلحظ هذه المشكلات ولم تتصدّ لها بشكل فعال، لذلك مازالت الإنتاجية منخفضة، وبالتالي معدل النمو الاقتصادي منخفض، فالنمو المعلن هو بسبب مساهمة القطاع الريعي أو الخدمات أو المصارف أو التأمين، وهو على حساب الاقتصاد الحقيقي.
وكون هذه الأمراض العضوية لم تحل، فقد أفرزت أمراضاً وظيفية ناجمة عنها في جوهرها، فهذه الأمراض المزمنة التي يعاني منها الاقتصاد تحتاج إلى وقت طويل لمعالجتها، بدءاً بالاستثمار وانتهاءً بالاستثمار بالتجديد التكنولوجي، فالمعالجة تحتاج إلى إستراتيجية صناعية أو اقتصادية، وكلتاهما غائبتان في بلادنا، رغم الكم الهائل من الاستراتيجيات الحكومية التي توضح ومنها الخطة الخمسية وغيرها، فالسياسات المتبعة تنقصها الاستراتيجيات التي تحل الأمراض البنيوية، فلو وجدت إستراتيجية لحلت هذه الأمراض في الخطة الخمسية.
الاستثمارات في القطاع العقاري مليون ضعف عما يستثمر في الصناعة!! حصة الصناعة من إجمالي القروض العامة الحكومية لا تعادل /5%/!! فإذا عكست المسألة فإن خطة خمسية وحيدة يمكن أن تنصف الصناعة السورية».