الدولار...الأسعار... والقرار كنا نقف على حافة الهاوية...والآن تقدمنا خطوة للأمام

ذات يوم عندما كنت أجري حوارا صحافيا مع مدير أحد البنوك الخاصة العاملة في المناطق الحرة السورية حول دخول المصارف الخاصة الجديدة إلى الاقتصاد، قال لي ذاك المدير وإثر ارتفاع وتيرة الحديث بيننا: هل تعرف ما هو الفرق بين قذيفة مدفع وقرار اقتصادي؟ قلت له كلا. فقال: قذيفة المدفع إن أخطأت هدفها فإنها قد تدمر منزلا أو منزلين فقط، أما القرار الاقتصادي فإن أخطأ هدفه فإنه يدمر بلدا كاملا، نعم بلدا كاملا باقتصاده وثرواته ومواطنيه.

تستعيد ذاكرتي اليوم هذه الكلمات وأنا أقرأ وأسمع قرارات وتصريحات اقتصادية سيكون أثرها أقوى من وقع قذائف المدافع على اقتصادنا، والمشكلة أن مصدري تلك القرارات ومطلقي تلك التصريحات  مصنفون من الناحية الاقتصادية كـ «اقتصاديين»، وصناع قرار اقتصادي، وواضعي خطط وبرامج وسياسات، ومصنفون من الناحية السياسية كـ"إصلاحيين" جدد سيقودون البلاد نحو الأفضل، لكن ما حصل في الأسبوعين الماضيين من صعود صاروخي للدولار والأسعار وتخبط واضطراب في اتخاذ القرار الاقتصادي بالطريقة الصحيحة وبالوقت المناسب يثبت  أن الاقتصاد السوري بات يحتاج إلى شخصية من نمط الروائي دان براون ليحل شيفرة رموزه السرية وليخبرنا بما قد حصل فعلا ويثبت أننا كنا أمام إعلاميين مبتدئين لا أكثر من ذلك أبدا.

من يحكم من؟ هذا هو السؤال الذي برز خلال الأسابيع الماضية أو خلال ما سمي بأزمة الدولار وببساطة يمكن صياغة هذا السؤال بطريقة أخرى، هل السوق هي التي تحكم الدولة أم العكس؟ ومن هي السوق؟ ومن هي الدولة؟ ومن يتبع لمن في هذه المرحلة الاقتصادية من تاريخ سورية؟.

المركزي مركزي على من؟

النقلة النقدية الأولى التي لعبها المصرف المركزي إزاء ارتفاع سعر الدولار كانت في إصداره ما يسمى بـ «شهادات الإيداع» بتاريخ 14/11/2005 والتي لم يعرف حتى الآن ما هو الدور المالي أو الاقتصادي الحقيقي الذي أصدرت من أجله أو الأثر الناجم عن تطبيقها، ويقول بعض المطلعين على إصدار هذه الشهادات أنه تم ترتيب إصدارها وإطلاقها  لغرض خلق تمويل طويل الأجل للمصارف العاملة لتساعدها على توسيع الإقراض الطويل الأجل لديها وكان هذا هو الهدف المعلن لإصدارها، أما دورها الأساسي كما يقول أولئك المطلعون فقد كان محاولة من البنك المركزي لامتصاص كتلة نقدية بالليرة السورية من السوق لتقليل عمليات المضاربة على سعر الدولار وتخفيض سعر صرفه، لكن النتيجة أن سعر الصرف لم ينخفض أبدا بل ازداد ارتفاعا الأمر الذي يدل على عدم نجاعة هذا العلاج أبدا لا من الناحية الاقتصادية النقدية ولا من الناحية الإعلامية كما ظنت السلطة النقدية، هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فإن المشاكل الاقتصادية التي بدأت تظهر لدى المصارف العامة عند البدء باستخدام هذه الشهادات دلت تماما على ارتجالية القرار وسرعة اتخاذه دون دراسته دراسة كافية أبدا، فها هو مصرف التسليف الشعبي وبعد أقل من شهر واحد على إطلاق هذه الشهادات يعترض رسمياً على قرار البنك المركزي حول معدلات الفائدة المطبقة على تلك الشهادات ويشرح ما سوف يسببه العمل بنظام شهادات الإيداع من خسائر وعجوزات مستقبلية فادحة للمصارف العامة، فوسطي معدلات الفائدة التي ستدفعها المصارف العامة على شهادات الإيداع هي 9.5% سنويا يضاف إليها ما يقارب 1% كأعباء أخرى، عندها يصبح ما سيتحمله المصرف كأعباء لإصدار تلك الشهادة هو 10.5%، في حين أن وسطي معدل الفائدة التي يتقاضاها المصرف على قروضه الممنوحة للمواطنين هي 7.75%، وهذا يعني أن المصرف يدفع 2.75% فائدة أعلى على شهادات الإيداع من الفائدة التي يتقاضاها على قروضه وهو مبدأ يتناقض كليا مع آلية عمل المصارف التي تقول بضرورة زيادة معدلات الفائدة المتقاضاة عن معدلات الفائدة المدفوعة الأمر الذي يدفع بالمصارف العامة للخسارة المحتمة على المدى الطويل، وإذا ما عرفنا أن أقل مبلغ يمكن به شراء شهادة إيداع هو 500 ألف ليرة وأعلى مبلغ هو 50 مليون ليرة فهذا يعني أن هناك فوائد كبيرة جدا سوف تدفع على هذه الشهادات سنويا، فهل يُفترض بمصرف التسليف الشعبي والمصارف العامة الأخرى أن تدفع هذا الفرق من أرباحها السنوية مخفضة إياها بذلك إلى حدود غير معروفة؟ وهل يفترض بتلك المصارف أن تتلقى صدمات ارتفاع سعر صرف الدولار بتقليص معدلات أرباحها؟ وإذا كانت شهادات الإيداع ابتكار نقدي جديد للبنك المركزي فلماذا يكون هذا الابتكار ذا آثار سلبية؟  أم أن تلك الخسارات المالية المتوقعة سوف تتحملها موازنة الدولة مرة ثانية كون المصارف العامة غير خاضعة لنظام الإفلاس، حيث أي خسارة فيها تتحملها الدولة من موازنتها، الأمر الذي يرشح زيادة عجز الموازنة في العام المقبل أكثر مما هي عليه الآن. فأي قرار اقتصادي عبقري وحكيم اتخذه البنك المركزي؟ وأية دراسة اقتصادية تمت له؟

مجرد تسكين ألم

إن شهادات الإيداع لم تحل مشكلة ارتفاع سعر صرف الدولار، وبالوقت نفسه حملت موازنة الدولة خسارة مالية كبيرة، كما أنها لم ولن تنفع المدخرين أبدا كوسيلة استثمارية على المدى الطويل لأن معدلات ارتفاع الأسعار قد تراوحت ما بين 11% إلى 55% وقد جاوزت معدلات الفائدة الممنوحة على شهادات الإيداع بأضعاف مضاعفة وبالتالي لن يستفيد المودعون كثيرا من عوائد أموالهم تلك. من ناحية ثانية فقد وقع المركزي في المطب السابق  نفسه عندما عدل أسعار الفائدة على الودائع لأجل حيث أصبحت تلك المعدلات مع الأعباء المترتبة عليها تصل إلى 9% سنويا، في حين أن ما يتقاضاه المصرف من فوائد على قروضه هو 7.75% سنويا الأمر الذي يرتب على المصرف زيادة قدرها 1.25%  على الأموال المودعة لديه أيضا لنعود إلى الفكرة السابقة نفسها في الخسارة. وإزاء هذا الوضع ما زال مصرف التسليف الشعبي والمصارف العامة الأخرى تنتظر ردا  من البنك على تلك المشكلة المحدقة بهم. ومن ناحية ثالثة وعندما رفع البنك المركزي سعر صرف الدولار رسميا إلى حدود 57.5 ليرة وذلك بفرض عمولة على بيع وشراء الدولار من قبل المصارف العامة والخاصة بنسبة 5.9% ظنا منه أن يقطع الطريق على أسعار السوق السوداء، فقد حدث العكس تماما وارتفع السعر في السوق السوداء إلى حدود 61 ليرة، وبالتالي سجل البنك المركزي خسارة جديدة أمام قوى السوق، وفشل في ضبطها أو التحكم بها. ومن هذه الأحداث قد نستنتج أن القرار النقدي قد صنعته قوى السوق بدافع المصلحة الخاصة ولم تصنعه سياسة البنك المركزي أبدا. وأن إدارة الأزمة كانت بيد السوق وهذا مؤشر قد يدل على ارتهان وتبعية السياسة الاقتصادية الوطنية بالسياسة الشخصية للبعض.

سؤال واحد فقط

إثر إخفاق البنك المركزي في تسجيل ولو هدف وحيد في مرمى السوق وبعد ثالث ضربة ترجيحية / نقدية له نسأل ببساطة: أين هي السياسة النقدية؟ ومن يديرها فعلا؟ فإذا كانت شهادات الإيداع  ومعدلات الفائدة ورفع سعر الصرف غير ذات جدوى في ضبط سعر صرف الدولار فهذا يعني أن أدوات السياسة النقدية في سورية اليوم هي أدوات مجهضة فعلا. وأن البنك المركزي مجرد لاعب احتياط ضمن مجموعة اللاعبين الآخرين الأقوى منه في البنية الاقتصادية، وبعبارة فظة قليلا اسمحوا لي بالسؤال هل أصبح البنك المركزي «عقيماً نقديا»؟ 

جراد الورقة الخضراء

أثناء موجة ارتفاع سعر صرف الدولار خلال الأسبوعين الماضيين كان بعض الصناعيين والتجار يقومون بإرسال موظفيهم والعاملين عندهم إلى المصارف العامة والخاصة لاستبدال حفنة كبيرة من الليرات السورية بحفنة أقل من الدولارات بعدما تم امتصاص كل ما في السوق من الأوراق الخضراء من قبلهم، وبدأ كبار السوق يحصدون «الأخضر» و«البلدي» كما يسمّونه أينما وجدوه وبأي ثمن كان، فالمهم هو تكديسه وتقديسه ثم التوجه مباشرة لخيمات الوطن في ساحات الروضة والأمويين للتنديد بالحصار الاقتصادي الذي يهدد به سورية، وللتأكيد على وقوفهم مع الشعب والوطن في محنته السياسية والاقتصادية، وقد أثمر هذا التهافت على الدولار مأزقاً مركبا، من جهة أولى كُشفت عورة القرار الاقتصادي بشكل نهائي وتبين أن الحكومة قادرة على صياغة بلاغات صحافية لا قرارات اقتصادية، فالأسعار التي حلقت إلى مستويات قياسية وتجاوزت لبعض أنواع السلع الـ40% والـ50% وقفت الحكومة إزاء فلتانها عاجزة تماما عن التصرف، فمن لم يستورد مادة ما منذ شهر أو شهرين ( أي عندما كان الدولار بـ55 ليرة ) فما هو مبرر رفع أسعارها عند ارتفاع سعر صرف الدولار؟ ألا يوجد بيانات جمركية واعتمادات مستندية مصرفية توضح من استورد ومن صدَر ومن دفع دولارات خلال كل شهر؟ ومن ينتج كامل السلعة محليا دون استيراد لأي مكوّن فيها لماذا يرفع أسعارها؟ ومن الذي راقب هؤلاء ومنعهم من ذلك؟ أم أن هذا هو اقتصاد السوق الذين ينادون به، وهذه هي الحرية الاقتصادية التي يريدون تطبيقها؟ وهل تعوض 20% زيادة في أجور الموظفين بأحسن الأحوال تلك الزيادات في الأسعار؟  والأهم كيف وقفت الحكومة صامتة أمام ما حصل من ضرر عام على المواطنين في حين أن وزارة الاقتصاد مثلا تعتبر مخالفة محل تجاري صغير بسبب عدم وضعه التسعيرة ضبطا للسوق، وقمعا للتلاعب بالأسعار، وحماية لمصلحة المستهلك؟ فهل تقوم فلسفة الحكومة على قمع السوق الصغيرة والرضوخ للسوق الكبيرة؟ وهل مخالفة سعرية بسيطة  تقاس بمقياس الفساد في حين أن تهريب مئات الملايين من الدولارات والمضاربة بها لا مقياس لها؟

سؤال للمستقبل

بدا القرار الاقتصادي الرسمي وكأنه قرار تابع لحكومة ظل، وإذا كنا سوف نغض النظر قليلا عما حدث، فإننا لن نتوانى أبدا عن سؤال المستقبل، ماذا سيحدث؟ ماذا سيحدث إذا تعرض الوطن لخطر أكثر جدية مما تعرض له الآن؟ هل ستتخذ الإجراءات الاقتصادية بمثل الطريقة التي اتخذت بها حاليا؟ وما هي سيناريوهات وبدائل الحكومة تحسبا لأي طارئ محتمل؟ والأهم من هذا كله، ما هو مصير ملايين المواطنين اجتماعيا واقتصاديا؟ أسئلة نضعها بين يدي من يُعرفون ويعرّفون بـ «الإصلاحيين». 

■ أيهم أسد

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.