الهند تجربة جديدة في اقتصاد السوق الاجتماعي
عندما وصل اليمين الهندي الى السلطة ربط الكثير من المحللين الاقتصاديين، وخصوصاً من أنصار الليبرالية المتطرفة النجاحات الاقتصادية ومعدلات النمو المرتفعة نسبياً 7% بوجود اليمين في السلطة والإصلاحات الاقتصادية التي اعتمدها.
ولكن من المعروف أن مهندس الإصلاحات الاقتصادية هو رئيس الحكومة الهندية الحالي عندما كان وزيراً للمالية في الحكومة الأخيرة للمؤتمر الوطني الهندي التي حكمت قبل مجيء تحالف الأحزاب اليمينية الى السلطة.
وعندما فاز حزب المؤتمر بزعامة سونيا غاندي في الانتخابات التي جرت العام الماضي توقع الكثير من المحللين الاقتصاديين أن تؤدي عودة المؤتمر الوطني الى الحكم بديلاً عن الأحزاب اليمينية الى تدهور أداء الاقتصاد، خاصة أنه يتحالف مع عدد من الأحزاب اليسارية وبينها أحزاب شيوعية، وفعلاً هبطت أسعار البورصة في الأيام والأسابيع الأولى التي أعقبت إعلان نتائج الانتخابات.
اليوم وبعد مرور حوالي سنتين على عودة حزب المؤتمر الوطني الى الحكم صارت هناك حصيلة كافية توضح ماإذا كانت تحليلات بعض الاقتصاديين عن أسباب النمو في الهند صحيحة ومدى ارتباطها بهذا الحزب أو ذاك.
في هذا السياق تشير المعطيات الإحصائية الى أن الهند تواصل مسيرة الازدهار الاقتصادي من دون توقف بصورة مخالفة تماماً لتوقعات بعض هؤلاء المحللين، إذ إن البورصة التي انخفضت أسهمها بعد إعلان فوز حزب المؤتمر الوطني وتحالف الأحزاب اليسارية ارتفعت هذا العام بنسبة 20% وفي الربع الثاني من هذا العام نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8.1% بالمقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، في حين لم يتجاوز معدل النمو في فترة حكم تحالف الأحزاب اليمينية الـ 6% ، وحققت شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية تقدماً كبيراً، إذ سجل الميزان التجاري بين الهند والولايات المتحدة فائضاً بلغ 9 مليارات دولار لصالح الهند في العام الماضي.
تحققت هذه الإنجازات رغم أن التشريعات التي وضعتها الحكومة الهندية الحالية هي تشريعات يسارية بالمقارنة مع تشريعات الحكومة السابقة، فقد أقرت الحكومة قانوناً يضمن التوظيف مدة مئة يوم لكل عائلة في أكثر مناطق الهند فقراً والبالغ عددها 200 منطقة، وهذا يعني أن الحكومة معنية بتوفير فرص عمل بصورة دائمة لشرائح واسعة من المجتمع وليس ترك يد السوق الخفية تلعب لعبتها وهي التي كانت وراء تذمر الناخبين الهنود ودفعتهم لانتخاب حزب المؤتمر على حساب الأحزاب اليمينية، كما سنت الحكومة قانوناً آخر يمنع أي شركة يزيد عدد موظفيها عن 100 موظف من تصنيع مايزيد عن الحاجة دون الحصول على موافقة مجالس العمل المحلية، وفي هذا التشريع حماية للعاملين من تعسف بعض أرباب العمل الذين قد يعميهم تعطشهم الى تحقيق الأرباح ومراكمتها عن رؤية المضاعفات الاجتماعية السلبية التي يمكن أن تنجم عن ذلك.
ساهمت هذه الإجراءات إضافة الى دخول العالم منذ بداية عام 2005 بفترة التحرير الكامل لتجارة المنسوجات في تحقيق النمو الكبير الذي يشهده الاقتصاد الهندي، إذ شهدت صادرات الهند من النسيج ازدياداً ملحوظاً وقاد ذلك الى إيجاد فرص عمل إضافية حيث سجلت الصناعة النسيجية نمواً تجاوز 7% ومعروف أن هذه الصناعات تستخدم عمالة كثيفة.
ويبدو أن الدرس الذي يمكن استخلاصه من تجربة النمو هذه في أن الاستثمار الخارجي المباشر لم يكن له الدور الذي لعبه هذا العامل في الازدهار الاقتصادي الذي حققته الصين، فالهند لاتزال تفرض قيوداً على الاستثمار الأجنبي المباشر في مجموعة من القطاعات الاقتصادية المهمة والحساسة، مثل شركات التأمين، والطيران والتنقيب عن الفحم والإعلام وحتى قطاعات البيع بالتجزئة، وقد سمحت بالحصول على الوكالات لشركات أجنبية ولكنها منعت ملكية الأجانب المباشرة.
بعبارة أخرى أن تجربة النمو الهندية تعبر عن نموذج آخر من نماذج اقتصاد السوق الاجتماعي يختلف في قسماته الأساسية عن النماذج الأخرى في الصين واليابان والدول الاسكندنافية، ولأن الهند بلد ينتمي الى العالم النامي فإن اخضاع تجربته للدراسة أمر مهم للغاية، خاصة وأن الهند تشق طريقها نحو الازدهار في مناخ دولي يختلف عن المناخ الذي واكب التجربة الصينية، إذ تشتد المنافسة الاقتصادية على الصعيد العالمي، ولم يعد هناك دول تقدم ماعرف بسوق الملاذ
■ حميدي العبد الله