دمج المؤسسات الإعلامية يقسم الصف..؟ صفقات تحت الطاولة ودفاعات مخترقة بالخصخصة

بين الفائض والملفات الفائضة، كانت «العملية الإصلاحية» في الإعلام الرسمي، التي بدأت في عهد وزير الإعلام الحالي مهدي دخل الله «المصنف من بين الإصلاحيين الجدد» والذي عرف عنه قبل استلامه الوزارة جرأته في طرح ومقاربة قضايا وموضوعات كانت للتو مسلمات لم يجرؤ أحد على طرحها ومقاربتها، كدعوته الصريحة في أحدى افتتاحيات جريدة البعث إلى «تغيير جوهري في مبادئ الحزب وتركيبته ومنطلقاته النظرية وتحويله إلى حزب قطري...» ودعوته الأخيرة لوسائل الإعلام السورية «من أجل الانتقال إلى نقل نبض الشارع وليس النبض الرسمي الذي له اعتباراته..».

الخطوة الإصلاحية التي قادها الوزير بدأت بسلسلة إجراءات وانتهت بدمج مؤسسة تشرين ومؤسسة توزيع المطبوعات بمؤسسة الوحدة، اُعتبرت خطوة جريئة ونوعية في إطارها النظري «من حيث أن تقديم خطاب إعلامي مؤثر وفعال ومقنع يحتاج إلى مؤسسات كبيرة تمتلك من الإمكانات المادية والتحريرية والفنية مايساعدها على البقاء والمنافسة أمام الفضاء المفتوح لوسائل الإعلام الأخرى التي تستند إلى قاعدة مالية ضخمة وقاعدة تحريرية وفنية تجعلها غير قادرة على نقل الخبر فحسب بل وفي صنعه أيضاً» . ولكن لم يخف على أحد أن المحسوبيات والمصالح الشخصية اللتين شكلتا الدافع الأساسي للخطوة، كانتا المحرك القوي في عملية الدمج، ولم تكن مسألة تطوير الخطاب الإعلامي وأنظمته كما طالب بذلك الإعلاميون في مؤتمرهم الأخير، محل اهتمام لدى المعنيين بالإصلاح و «المصلحين» وانقلب الإصلاح إلى «تصليح» أوضاع المقربين والمدعومين والمسنودين، كل حسب قوته في قربه من مركز القرار، وتطلب الإصلاح إصلاحاً، وشعر الإعلاميون والمتفائلون بالوعود الإصلاحية بسخافة الشعار وهزالة القضية في دولة القانون والمؤسسات.

جريدة تشرين، مؤسسة توزيع المطبوعات، مؤسسة الوحدة، ثالوث إعلامي في «مغارة علي بابا» للإعلام الرسمي، تتغير هويتها الإعلامية مع العهود والزعامات والرئاسات...

الهدف غير المعلن

تصفية مؤسسة المطبوعات

بدأت فكرة دمج المؤسسات الإعلامية الثلاث (تشرين ـ الوحدة ـ توزيع المطبوعات) في عهد وزير الإعلام الأسبق محمد عمران، وكان الهدف من الخطوة تفريغ مؤسسة الوحدة وجعلها مقراً لوزارة الإعلام، لكن الوزير السابق أحمد الحسن أوقف المشروع فور تسلمه الوزارة، ليعود المشروع من جديد في الأسبوع الأول من تولي الوزير الحالي مهدي دخل الله حقيبة الإعلام، ولكن بخلفيات وأهداف مختلفة عن السابق، كان المعلن منها إصلاح المؤسسة الإعلامية وتخفيف الأعباء المالية والحد من الخسائر واستيعاب الفائض من العمال، على الرغم من أن القائمين على المؤسسات الإعلامية والعاملين فيها أبدوا اعتراضهم على مشروع الدمج، لأن المشكلة أساساً تكمن في السياسة الإعلامية وليس في شكل مؤسسات  الإعلام بحد ذاته.

مسؤول في وزارة الإعلام قال: «إن الهدف الحقيقي من وراء دمج المؤسسات الإعلامية هو القضاء على مؤسسة توزيع المطبوعات التي تقدر صافي أرباحها السنوية بـ 25 مليون ل.س، خاصة بعد أن وصفها رئيس الحكومة بأنها «مؤسسة تافهة ويجب إلغاؤها» وذلك منذ توليه لرئاسة الحكومة وأثناء اجتماعه بالكوادر الإعلامية في الوزارة». ويضيف المسؤول: «بأن مشروع الدمج تم وضعه بسرية تامة في كواليس وزارة الإعلام دون إجراء أية دراسة للجدوى الاقتصادية والسياسية والإعلامية، ولم يعلم به العاملون في المؤسسات المعنية إلا بعد رفعه للجنة الاقتصادية، وهذه السرية في التعامل مع هذا الملف يعود برأي ـ المسؤول ـ إلى وجود نية لتصفية مؤسسة المطبوعات وبأن هناك مؤسسات خاصة للتوزيع، (إحداها تعود إلى أبناء أحد المسؤولين الكبار) تعمل لدى بعض دوائر القرار من أجل رفع يد الدولة عن توزيع المطبوعات كي تدخل هي في هذا القطاع الذي يحقق أرباحاً عالية ولايتطلب توظيف رساميل كبيرة، خاصة وأن المؤسسة العامة للتوزيع ومنذ سنوات تتعرض للتغييب ويتم تجاهل متطلباتها، حيث تقدمت المؤسسة العامة بعدة طلبات إلى الحكومة من أجل شراء سيارات لنقل وشحن المطبوعات ولكن هذه الطلبات كانت تقابل دائماً  بالرفض مع العلم أن لدى المؤسسة 60 مليون ليرة في حساب مؤسسة السيارات، في حين تم شراء أكثر من 20 سيارة سياحية للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وعشر سيارات سياحية لجريدة الثورة رغم حاجة المؤسسة لها».

وأضاف المسؤول: «بأن قانون دمج المؤسسات الإعلامية دخل حيز التطبيق دون وجود آلية تسير عملها فلا نظام داخلياً ولاتعليمات تنفيذية ولاهيكل إدارياً واضحاً ولم يتم توحيد العمليات المصرفية وجرد المستودعات وتوحيدها، مما أدى إلى خلط الصلاحيات والواجبات والمهام وخلق إرباكات وأخطار مالية، لأن الدمج قام على أساس لصق هذه المؤسسات دون توفير البيئة التشريعية والتنظيمية والسياسية لخلق مناخ مستقر، مما أدى إلى إشاعة الفوضى داخل هذه المؤسسات في الوقت الذي يتعرض له البلد لحملات إعلامية تهدف إلى النيل من سيادته». وتساءل المسؤول في وزارة الإعلام عن جدوى دمج هذه المؤسسات إذا كان ذلك لايساهم في تحسين الخطاب الإعلامي، لأن السياسة الإعلامية ستبقى هي نفسها، حتى ولو قامت المؤسسة الجديدة بإصدار عشرات الصحف، لأن أزمة الإعلام السوري، ليست أزمة إعلامية صرفة بل أزمة لها علاقة بالمناخ السياسي والتشريعي وقوانين الملكية أكثر مما له علاقة بجانب الإدارة والكادر...؟».

اتحاد الصحفيين

يعترض على مشروع الدمج

اتحاد الصحفيين منذ البداية وقف ضد مشروع الدمج، حيث قام الاتحاد بتشكيل لجنة من بعض الإعلاميين ومدراء المؤسسات الإعلامية، قامت برفع مذكرة إلى مجلس الشعب باسم المؤتمر العام لاتحاد الصحفيين طالبت فيه مجلس الشعب بوقف مشروع الدمج معللة ذلك:

بأن البلاد تتعرض إلى حملة إعلامية ودبلوماسية تتصاعد وتيرتها يوماً بعد يوم من خلال تجييش الولايات المتحدة لشبكة إعلامية كبيرة تستهدف سورية ونظامها السياسي، لأنها العقبة أمام المخططات الأمريكية لتطويع المنطقة بكاملها وتحقيق مايسمى بالشرق الأوسط الجديد وفق الرؤية الإسرائيلية.. ووسط هذه الحملة يأتي مشروع دمج المؤسسات الإعلامية دون إتاحة الفرصة للعاملين في تلك المؤسسات أو التنظيم النقابي من أجل التعبير عن رأيهم، ولم يجر أي نقاش إزاء قضية هامة تدخل في صلب العمل الإعلامي، ولم يؤخذ بنتيجة الاستفتاء الذي أجرته المؤسسات المعنية والذي جاء بنتيجة: أن الدمج لن يكون في صالح النهوض بالعمل الصحفي والارتقاء بالمهنة ورفع مستوى الأداء، كما أن الضبابية التي رافقت عملية الدمج هذه لايمكن أن تفهم إلا أنها تعبير عن أسلوب في اتخاذ القرار لايتناسب مع الشفافية التي يكرسها السيد الرئيس في عمل مؤسسات الدولة».

ويضيف اتحاد الصحفيين «بأن القانون بشكل عام يجب أن يمثل إرادة المجتمع وشريعته ويجب أن يوضع في خدمة المجتمع وليس فوق المجتمع حيث ظهر من خلال مداخلات جميع أعضاء المؤتمر العام لاتحاد الصحفيين رفضهم مشروع قانون الدمج، الذي خلق أجواء من الاضطراب و الضوضاء الإعلامية والتأثير السلبي لدى العاملين في المؤسسات الإعلامية بشكل يتنافى مع أهداف القانون والأسباب الموجبة له».

وبحسب اتحاد الصحفيين فإنه: «من الضروري في هذه المرحلة أن تتم عملية تطوير وإغناء الإعلام السوري في البنية التشريعية والتنظيم وآليات العمل وحرية  التعبير في كل مؤسسة على حدة لتتمكن من الرد على التحديات الخارجية ومواكبة التطورات المتسارعة في وسائل الإعلام، فالإعلام السوري في هذه المرحلة بحاجة إلى التنوع والتعدد سواء الرسمي أو الخاص، لأن طبيعة الأحداث المتعددة والمركبة والموقف السوري المطلوب لمواجهتها يتطلب حالة من التنوع والتعدد وليس حالة الاختصار أو الدمج القسري للوسائل القائمة حالياً».

ويرى الاتحاد: «بأن دمج المؤسسات الإعلامية في مرحلة تتطلب التوسع والانتشار وتعدد الوسائل، سوف يرتد بالموقف الإعلامي نحو التفكك والضياع، وهذا ماينعكس سلباً على الموقف السياسي وبخاصة في أجواء الفضاءات المفتوحة التي تؤثر في صياغة وصناعة الرأي  العام السوري، كما أن عملية الدمح بالإضافة إلى إشكالاتها السياسية والفكرية على الكادر الصحفي، سوف تخلق مناخاً مضطرباً ومعقداً على الكادر الإداري والفني داخل المؤسسات، لأن الانتقال من حالة مستقرة إلى وضع آخر غير مضمون سوف يشكل حالة إرباك قوية من الصعب السيطرة عليها في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد، وهو الأمر الذي يفسح في المجال أكثر أمام وسائل الإعلام المعادية للسيطرة أو التأثير سلباً على الرأي العام السوري».

خسارة تقدر بـ 25 مليون  ليرة سنوياً

من المؤكد أن مؤسسة تشرين ومؤسسة الوحدة لن تخسر شيئاً على الصعيد الاقتصادي في حالة الدمج لأنها بالأساس مؤسسات خاسرة، في حين أن المؤسسة الثالثة الرابحة (المطبوعات) ستنتقل إلى الخسارة، حسب مايؤكده أحد المسؤولين فيها معتبراً «أن أصحاب مشروع الدمج لم يأخذوا بعين الاعتبار ماستخسره الدولة مالياً واقتصادياً، وماسيخلق مستقبلاً من مشكلات إعلامية وسياسية وثقافية، حيث تعد مؤسسة توزيع المطبوعات من المؤسسات الرابحة التي تحقق ريعية عالية للقطاع العام، ويقدر متوسط أرباحها الصافية مابين 20 ـ 30 مليون ليرة سورية، وفي حال دمج المؤسسة وإلغاء هويتها المالية المستقلة فإنها ستتحول من مؤسسة رابحة إلى جزء من مؤسسة خاسرة، تضطر لتأمين رواتب العاملين فيها ـ البالغ عددهم 250 عاملاً ـ  من خزينة الدولة، وسوف تتحمل الأخطاء المرتكبة مالياً وإدارياً خلال السنوات الماضية في مؤسسات صحفية أخرى» مضيفاً «أن ادعاء أصحاب مشروع الدمج سيخفف من الخسائر ويؤمن المرونة في أعمال توزيع المطبوعات الدورية الخاصة هو ادعاء لاأساس له منطقياً، لأن الهدف الحقيقي للدمج هو إيجاد الحجة لتأسيس شركات خاصة، وهذه الشركات سوف تسعى جاهدة لسحب المطبوعات الرائجة التي توزعها المؤسسة وتترك فقط المطبوعات التي لاعائدية مالية منها (الصحف اليومية السورية) علماً أن المؤسسة تغطي تكاليف ونفقات توزيع هذه المطبوعات من خلال مبيعات المطبوعات الرابحة (المحرر ـ زهرة الخليج ـ سيدتي ...إلخ) وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع النفقات مقابل انخفاض العائدات، وبالتالي سوف لن تكون المؤسسة قادرة على تخفيض خسارة المؤسسات الخاسرة أصلاً (تشرين ـ الثورة) خاصة وأن المؤسسة سوف تخسر مصداقيتها المالية أمام الناشرين العرب والأجانب نتيجة فقدانها لاستقلاليتها المالية وخضوعها عند تسديد التزاماتها لتقييم مختلف ودورة مستندية ومالية لمؤسسة خاسرة بعد أن كانت مؤسسة رابحة لها حسابها الخاص بالقطع الأجنبي، وتسدد التزاماتها من خلاله دون أي تأخير علماً أن مصداقية المؤسسة منحتها سمعة متميزة لدى كل شركات التوزيع الخاصة والعامة».

المحاذير الإعلامية لعملية الدمج

بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي يمكن أن تتعرض لها الدولة، فإن هناك محاذير إعلامية يمكن أن تنتج أثناء عملية الدمج، حيث عملت المؤسسة العامة لتوزيع المطبوعات خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة على اتباع سياسة توزيعية متوازنة كدعم غير مباشر لمبيعات الصحف السورية المتدنية، وذلك من خلال فرض «رفع» أسعار الصحف العربية اليومية المنافسة (اللبنانية) بحيث يصبح سعر النسخة ضعف سعر الصحيفة المحلية كحد أدنى، بالإضافة إلى ترك هامش زمني تحقق من خلاله الصحف المحلية أعلى نسبة مبيعات يومياً، حيث كانت المؤسسة تقوم بتوزيع الصحف المحلية قبل الصحف العربية من أجل الحصول على مبيعات أعلى  وتخفيض حجم خسارتها رغم أن المؤسسة كانت تستطيع أن توزع الصحف العربية بالوقت نفسه الذي توزع فيه الصحف المحلية.

ويقول المسؤول في المؤسسة: «على الرغم مما قدمته مؤسسة التوزيع من خدمات لحماية الصحف المحلية أمام المنافسة على الأقل لأداء المطلوب منها في الإعلام الداخلي، إلا أن الصحف تلقي بالمسؤولية على مؤسسة التوزيع لأنها الجهة الوحيدة القادرة على توضيح حالة الفشل وبيان مستوى الأداء الحقيقي لأي مطبوعة دورية، وإذا كانت إدارات بعض المطبوعات الدورية السورية (الخاصة والعامة) تحمل المؤسسة مسؤولية الفشل، فإن أول سؤال يجب أن يوجه لها: «لماذا يوجد مجلات وصحف تحقق مبيعات عالية كالمحرر أو الاتجاه الآخر أو زهرة الخليج والتي توزع أيضاً عن طريق المؤسسة؟».

قانون دمج المؤسسات الإعلامية سيدخل حيز التطبيق بدءاً من منتصف الشهر الجاري دون أن يرافق ذلك أية مؤشرات تدل بأن هناك تغييراً في نوعية الخطاب الإعلامي وتحسين أداء عمل المؤسسات الإعلامية كما جاء في مبررات دمج المؤسسات؛ ولايوجد حتى الآن أي تصور لآلية الإدارة والمهام وتحديد المسؤوليات، الثورة بقيت الثورة، وتشرين بقيت تشرين، مؤسسة المطبوعات تم اعتقالها ونفيها وإلحاقها بإجزاء المؤسسة المحدثة، ليبقى الباب مفتوحاً أمام الأسئلة التالية:

لماذا أصرت وزارة الإعلام على دمج المؤسسات المذكورة رغم معارضة الإعلاميين وتنظيمهم النقابي؟ وهل أزمة الإعلام السوري هي أزمة إعلامية صرفة؟

ولمصلحة من سيتم تصفية مؤسسة المطبوعات التي تحقق أرباحاً تقدر بـ 30 مليون ليرة سورية؟

ولماذا تم تداول مشروع دمج المؤسسات بشكل سري وفي الكواليس ودون أخذ رأي القائمين على المؤسسات المشمولة بالدمج؟

لماذا في هذا الوقت بالذات يتم العبث بالمؤسسات الإعلامية في حين أن الظروف تقتضي تقديم المزيد من الدعم لها كي تستطيع أن تصد الحملات الإعلامية التي تهدف إلى النيل من استقلالية البلد.

■ كاسترو نسّي

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.