الحكومة السورية تقامر بأرقام النمو

تظهر التصريحات الاقتصادية في سورية حالة واضحة من التخبط، والتشتت، تعكس الصورة المضطربة التي يعيشها الاقتصاد، وتكشف عن تناقضات السياسة الاقتصادية، وعدم التنسيق فيما بين صناع القرار الاقتصادي، وتعكس تباين المستويات المعرفية والفكرية لديهم، بل وسطحيتها أحياناً كثيرة،  فعندما تكون الليرة السورية مرتبطة بالدولار في تصريحات حاكم مصرف سورية المركزي، ثم بعد أيام تكون غير مرتبطة أبداً بالدولار في تصريحات نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية فهذا معناه أن الشارع مثل الكرة يتقاذفونها فيما بينهم، وأنهم يخفون الحقائق ويتقاسمونها فيما بينهم فقط.
وهذه العقلية بدت واضحة تماماً في الأسابيع القليلة الماضية بشأن معدلات النمو الاقتصادي العام، فعلى ما يبدو أن رقم النمو قد تمت فبركته، وتلفيقه من أجل تمريره على الشارع والمختصين، وبما يتناسب مع أهواء السادة المسؤولين، ولابما يتناسب مع الحقائق والوقائع الاقتصادية الموضوعية، وأن هذا الرقم قد تمت صناعته خصيصاً لبث الطمأنينة في النفوس، لكنها طمأنينة مزيفة تشوه الحقائق، وهذا الرقم ذو الحساسية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الكبيرة يتحول إلى مقامرة اقتصادية بين أعضاء الحكومة، وهاهي قاسيون مثل عادتها ترفع النقاب عن الحقائق وتقدم لقرائها بعض من الأرقام الموثقة حول هذا الموضوع ليكتشفوا بأنفسهم ما تقدمه لهم الحكومة من أرقام اقتصادية مفبركة.

بداية التضارب بالأرقام
كان مدير المكتب المركزي للإحصاء إبراهيم العلي، أعلن في الأسبوع الماضي أن معدل النمو في الدخل الوطني للعام 2005 قد بلغ 4.5% وأنه من المتوقع أن يصل هذا المعدل في هذا العام إلى  5%، أما في العام القادم 2007 فإن التوقعات تشير إلى تحقيق معدل نمو يقدر بنحو 5.2% وهو تطور مهم ويعكس حالة الانتعاش التي يعيشها الاقتصاد الوطني. وبالطبع لم يذكر لنا مدير المكتب المركزي للإحصاء أن هذا الرقم بالأسعار الجارية أم بالأسعار الثابتة؟ وما هو دور أسعار النفط في صناعة هذا الرقم؟ وما هي مكوناته؟ وما هي مساهمة الصناعة التحويلية فيه؟ وما هي مساهمة الزراعة؟.
 يضاف إلى ذلك يحق لنا أن نسأل عن ماهية الانتعاش الذي عاشه الاقتصاد؟ هل انفلات أسعار العقارات هو انتعاش؟ وهل تحليق أسعار المواد الغذائية هو انتعاش أيضاً؟ هل زيادة أسعار المازوت هو انتعاش؟ وهل فرض ضرائب ورسوم جديدة هي انتعاش؟ وما هي تلك الاستثمارات التي نفذت في الاقتصاد خلال السنوات الماضية كي تحقق الانتعاش؟ نحن بحاجة حقيقية لمعرفة أين حصل الانتعاش الاقتصادي الذي أدى إلى معدل النمو ذلك؟
ومن جانب آخر فقد كانت مؤسسة كوفاس الفرنسية التي تقوم بإعداد تقارير ودراسات تسترشد بها المؤسسات والشركات الدولية، قد أشارت في تقاريرها الخاصة أن معدل النمو الاقتصادي في سورية لم يتجاوزالـ  2.2% خلال العام الماضي، وبالوقت نفسه فقد قامت بعثة (خاصة) من الصندوق الدولي جاءت إلى سورية بطلب من حكومتها في الشهر الخامس من هذا العام بحساب معدلات النمو الاقتصادي، واستنتجت هذه البعثة الخاصة بأن معدل النمو في سورية هو 5.5%، في حين أن تقرير الصندوق الدولي العام الذي صدر بعد شهرين من تقرير اللجنة الخاصة أشار أن معدل النمو في سورية في عام 2005 هو 3.5% فقط.
والسؤال الآن أين الحقيقة؟ وأي رقم من الأرقام علينا اعتماده؟ وأين هو الرقم الدقيق؟ ومن يقدم لنا التفسير الاقتصادي الحقيقي لتضارب تلك الأرقام؟
 
لا تنمية بلا نمو
يمثل النمو الاقتصادي الزيادة السنوية في الدخل الوطني، ويدل هذا المعدل على قدرة الاقتصاد الوطني على زيادة الإنتاج فيه عاماً بعد آخر، ويمثل النمو الاقتصادي والذي هو مؤشر كمي فقط العمود الفقري لأية تنمية اجتماعية اقتصادية قد تقوم في الاقتصاد، وبالتالي لا يمكننا الحديث عن التنمية الاقتصادية بمعزل عن النمو الاقتصادي، في الاقتصاد السوري تطفو على السطح أزمة تنمية اجتماعية واضحة جداً بكل معالمها وفي أغلب القطاعات مثل قطاع الصحة وقطاع التعليم والعديد من القطاعات الأخرى التي لم تحقق الإنجازات المطلوبة منها لمواجهة هذا العصر، وإذا سألنا أنفسنا لماذا لم يستطع أحد إيجاد حلول لمثل هذه الأزمة؟ فإننا نجد جزءاً كبيراً من الجواب يعود إلى مسألة النمو الاقتصادي المتدني الذي بصماته في كل مكان وإلى سوء توزيع نتائج ذلك النمو على المجتمع، وبالتالي فإن إخفاقات التنمية الاجتماعية في سورية تعود في جزء منها إلى تراجع وضعف معدلات هذا النمو الذي له أسبابه الاقتصادية البحتة أحياناً وأحياناً أخرى أسبابه الاجتماعية، يترافق ذلك مع اتباع الحكومة أحياناً بعض السياسات بشكل غير مباشر والتي عرقلت مسيرة ذلك النمو وانعكس ذلك سلباً على المجتمع والاقتصاد السوري معاً، والنتيجة دائماً أن النمو الاقتصادي رغم كونه رقماً لا يتجاوز خانة واحدة فإنه يحمل في طياته ثلاثية الاقتصاد والمجتمع والسياسة دائماً.
 
الرقم شاهد لا يكذب أبداً!
تدلنا الإحصاءات الرسمية إلى أنه منذ عام 1990 وحتى نهاية عام 2002 لم يتجاوز وسطي النمو الاقتصادي السنوي في سورية معدل الـ4.5% سنوياً، علماً بأنه قد حقق أعلى معدل له خلال 13 عاماً في عام 1992، إذ بلغ بحدود 13.5% وبعد سبع سنوات مباشرة تحول هذا المعدل إلى معدل نمو سالب تماماً ووصل إلى (-2%)، وهذا هو السؤال المذهل والمحير تماماً، إذ كيف يقفز ذلك المعدل خلال سبع سنوات فقط من القمة إلى الحضيض ثم يعود ذلك المعدل لينتشي ببطء شديد بعد عام 1999 وصولاً إلى 4% مع بداية عام 2003 علماً أن الظروف الاقتصادية العامة لم تشهد تغيراً ملحوظاً بين الأعوام المذكورة سابقاً؟
وبمقارنة وسطي معدل النمو الاقتصادي مع وسطي معدل النمو السكاني في سورية والذي وصل خلال الفترة نفسها إلى حدود 3.5% نجد أن معدل النمو الاقتصادي غير كاف تماماً لتلبية الحاجات الأساسية للزيادة السكانية على أقل تقدير، فكيف سيكون ذلك المعدل قادراً على النهوض بأعباء اقتصاد كامل من زيادة الأجور والرواتب وضخ استثمارات جديدة ومواجهة متطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبناء اقتصاد قادر على مواجهة تحديات العصر الخارجية؟ إن الزيادة السكانية في سورية قادرة على التهام النمو الاقتصادي لوحدها فماذا عن باقي أجزاء الاقتصاد.
ينقسم الدخل الوطني عند استخدامه إلى تراكم (الجزء الذي يعاد استثماره ثانية) واستهلاك، والتراكم ضروري جداً لإعادة عملية الإنتاج تجديد الاقتصاد الوطني باستمرار، وتدل التجارب الاقتصادية على أن معدل تراكم بمقدار 10% من الدخل الوطني يؤمن معدل نمو اقتصادي قدره صفر بالمئة، بمعنى أن هذه الاقتطاعات من الدخل الوطني ستكون قادرة على الاحتفاظ بالوضع القائم كما هو دون أي تحسين له أبداً، وبالتالي فإن كل زيادة في التراكم أكثر من 10% ستؤمن نسبة نمو اقتصادي معين تعود لبنية وتركيبة الاقتصاد الذي تتم فيه، وتدل الحسابات الخاصة بالاقتصاد السوري أن وسطي حجم التراكم خلال السنوات العشر السابقة لم يتجاوز الـ15% وهذا ما يفسر بالدرجة الأولى أحد أسباب انخفاض معدلات النمو الاقتصادي في سورية، يضاف إلى ذلك أن العلاقة بين الأجور والأرباح تلعب دوراً حساساً في مسألة النمو الاقتصادي، فالعلاقة الحالية بين الأجور والأرباح في الاقتصاد السوري تنقسم إلى 25% أجور و75% أرباح بالنسبة للدخل الوطني، تشير تلك العلاقة في الاقتصاد السوري إلى انخفاض كتلة الأجور والرواتب الموزعة على السكان وبالتالي إلى انخفاض في حجم الطلب العام على السلع والمنتجات، وهذا أدى إلى تراجع في حجم الاستهلاك الذي يقود بدوره إلى انخفاض في حجم الإنتاج، وبالتالي جعل معدلات النمو منخفضة أيضاً خلال السنوات السابقة، وهنا نضيف أنه رغم الزيادات الأخيرة في الرواتب الأجور للقطاعين العام والخاص فإن كتلة الرواتب والأجور في سورية لم تتجاوز الـ250 مليار ليرة ومقارنة مع الدخل الوطني الذي يبلغ 1000 مليار ليرة نجد أن الأجور تشكل بحدود 26% من الدخل الوطني، ويرتبط معدل النمو أيضاً بما يسمى بعائدية رأس المال، ففي الاقتصاد السوري تعد تلك العائدية متدنية أيضاً إذ إنها لا تتجاوز الـ20% بالنسبة لمجمل الاقتصاد بمعنى أن استثمار مئة ليرة في الاقتصاد سيدر 20 ليرة فقط على المستثمر بشكل وسطي.
من أولى نتائج انخفاض وعرقلة معدلات النمو الاقتصادي بقاء اختلال العلاقة بين الرواتب والأجور ومستويات المعيشة الفعلية إذ إن الدراسات الاقتصادية مازالت تشير رغم كل الزيادات الحاصلة على الرواتب أن الأجور مازالت أقل من مستواها المطلوب بثلاث مرات تقريباً، وهذا ما أثبتناه بدورنا على صفحات الجريدة في عدد سابق، يضاف إلى ذلك أنه وفقاً لمعدلات النمو المتدنية تلك لن يستطيع سوق العمل امتصاص العدد الداخل عليها سنوياً والذي يقارب الـ200 ألف طالب فرصة عمل، ويضاف إلى ذلك أن عجز النمو الاقتصادي الداخلي ساهم بطريقة أو بأخرى بعجز اقتصادي خارجي بسبب زيادة الاستيراد ونقص التصدير الناتج أصلاً عن ضعف وتراجع إنتاجية الاقتصاد السوري بشكل عام وبطريقة أخرى فإنه زاد من استنزاف العملة الصعبة وضخها باتجاه الخارج، وقس على ذلك باقي المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي سببها انخفاض النمو ذلك.
 
وماذا عن تقرير صندوق النقد الدولي
كشف تقرير لخبراء صندوق النقد الدولي يتعلق بحالة الاقتصاد السوري في عام 2005  عن تباطؤ شديد في معدلات النمو الاقتصادي فيه خلال الفترة 1999 و 2003 وذكر التقرير أن متوسط معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي خلال تلك الفترة لم تتجاوز 1.25% متأخرة بذلك عن وتيرة النمو السكاني  ومؤدية إلى انخفاض مستويات المعيشة وارتفاع معدلات البطالة، وعزا التقرير تباطؤ النمو الاقتصادي إلى  انخفاض مستويات الإنتاج النفطي، وانكماش الاستثمار الخاص، وانحسار زخم الإصلاحات الاقتصادية، وتحول البيئة الخارجية إلى أوضاع أقل ايجابية، وتوقع التقرير نضوب الثروة النفطية في أواخر عشرينيات القرن الحالي مع احتمال تحول سورية إلى مستورد صافٍ للنفط في غضون سنوات قلائل علما بأن النفط يسهم حاليا بـ20% من إجمالي الدخل الوطني وثلثي الصادرات السورية ونصف الإيرادات الحكومية كما قال التقرير. وكان المكتب المركزي للإحصاء أعلن في العام الماضي أن معدل النمو الاقتصادي في عام 2004 بالنسبة لعام 2000 لم يتجاوز 1.7% بالأسعار الثابتة، الأمر الذي فسره الاقتصاديون على أنه مؤشر لتدهور اقتصادي عام وإخفاق في الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي تبنتها سورية مطالبين بضرورة الإصلاحات السياسية قبل الاقتصادية.
ووسط تشكيك اقتصادي حول قدرة الحكومة السورية على تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة ذكرت الخطة الخمسية العاشرة التي بات إعلانها الرسمي وشيكا خلال الأيام القادمة أنها تسعى لرفع معدلات النمو الاقتصادي خلال خمس السنوات القادمة لتصل إلى 7%  في نهاية الخطة من خلال ضخ كتلة استثمارية سنوية في الاقتصاد تقدر بـ7 إلى 8 مليارات دولار. وكان وزير الصناعة الأسبق عصام الزعيم خلال ندوة الثلاثاء الاقتصادية المنصرمة قد علق على هذا الرقم بقوله إنه من غير الممكن تحقيقه في ظل إيقاف استثمارات القطاع العام، وأضاف الزعيم بأن أرقام النمو الاقتصادي في سورية هي أرقام غير صحيحة، وغير واقعية، ولا تعكس الواقع الاقتصادي السوري بشفافية، واعترض الزعيم على كيفية حساب تلك المعدلات وقال بأنه لو غيرنا سنة الأساس لتغيرت تلك النسب تماماً، فما هو مبرر استخدام عام 2000 كعام أساس في الحساب؟ وكيف ستصبح أرقام النمو لو صار عام الأساس هو عام 2001 مثلاً؟ كل ذلك ومن وجهة نظر الزعيم يطرح تساؤلات عديدة حول مصداقية معدل النمو الاقتصادي في سورية وحول كيفية حسابه.
 
دراسة خاصة تكشف بعض الحقائق
كانت صحيفة قاسيون قد قدمت لقرائها في عدد سابق جزءا من دراسة اقتصادية أعدها الاقتصادي منذر خدام عن «تراجع شديد في أداء الاقتصاد السوري خلال أعوام 1997-2004»، حيث بينت الدراسة المعدة خصيصاً لمشروع سورية 2025 الاستشرافي والمعنونة بـ«الاستثمار والمناخ الاستثماري في سورية»، عن تراجع شديد في مساهمة الصناعة التحويلية في الدخل الوطني من 20.7% بين عامي 1990-1996 إلى -27% بين عامي 1997- 2004، وعن تراجع مساهمة الزراعة من 8% إلى 4.5% ، وقطاع الماء والكهرباء من 11% إلى -7.5%، وقطاع البناء والتشييد من 9.4% إلى 1.4% خلال الفترة نفسها. وأوضحت الدراسة أن الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها السلطات السورية خلال التسعينات من القرن الماضي قد ساهمت في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية في سورية، ودفعت عجلة الاقتصاد للدوران من جديد، إلا أن ثمن ذلك كان باهظاً لجهة انتعاش الأسواق السوداء، وتفشي ظاهرة الفساد، وتتابع الدراسة إن التركة التي ورثها العهد الجديد بعد عام 2000 كانت ثقيلة جداً على الصعيد الاقتصادي وأصبح من المستحيل استمرار النهج الاقتصادي السابق، لذلك وجدت السلطة السورية نفسها –حسب الدراسة- محكومة بتبني نهج اقتصادي جديد، ومن العوامل التي ساعدت على التخلي عن النهج القديم وتبني النهج الإصلاحي المنفتح على السوق أن الكثيرين من موظفي الجهاز البيروقراطي الاقتصادي والإداري قد حققوا تراكمات رأسمالية خاصة عبر آليات النهب والرشوة ولهم مصلحة في إدارة استثمارها وفق آليات السوق والقوانين الاقتصادية المعروفة، وبالتالي لم تعد مصلحتهم مقتصرة على تنمية القطاع العام الذي شكل لسنوات كثيرة مصدر ثروتهم بل والقطاع الخاص الذي هو شريك فاعل فيه بأشكال مختلفة.

فما الذي تغير في الاقتصاد السوري خلال عام واحد فقط كي تحلق معدلات النمو من 1.7% إلى 5%؟