د. نبيل مرزوق لـ«قاسيون»: الأزمة متجددة.. ولابد من إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية

التقت قاسيون الاقتصادي  د. نبيل مرزوق، وحاورته في الأزمة العظمى للرأسمالية وانعكاساتها العالمية والمحلية..

 ما هو مستقبل الأزمة الاقتصادية الرأسمالية، وما هي تجلياتها القادمة؟

الأزمة الحالية التي يتعرض لها النظام الرأسمالي هي عملياً أزمة بنيوية ناتجة عن التحولات الجارية ضمن هذا النظام الذي انطلق منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينيات باتجاه العولمة التي أخذت طابعاً مالياً عالمياً تجلى بحرية الأسواق وحرية رأس المال، وهذا الطابع الجديد للرأسمال والرأسمالية تعرض لعقبات جدية وأزمات حقيقية منذ الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي سواء في الولايات المتحدة أو في مراكز إمبريالية أخرى كما انتقل إلى آسيا.. هذه الأزمات المتكررة كانت تعكس واقعاً وهو التناقض الحاصل في إطار هذا النظام وصعوبة الانتقال إلى الشكل الذي تريده الليبرالية الجديدة، وهو نمط العولمة المالية، التي اقتصرت على حرية وحيدة الجانب وهي حرية رأس المال، ولم تنعكس هذه الحرية على بقية عناصر الإنتاج، وبالتالي بقيت القيود مفروضة ولكن هذا الجانب اصطدم بالواقع عبر عدم قدرة النظام الرأسمالي على التطور بهذا الاتجاه الوحيد، وانعكس هذا التناقض في سلسلة الأزمات التي شاهدناها، كما انعكس في فشل منظمة التجارة العالمية وعدم قدرتها على إنجاز المهام المطلوب معالجتها مثل ضمان الاستثمار والاتفاق على الزراعة....إلخ..

الآن، وصل هذا النمط بالنظام الرأسمالي إلى مرحلة خطيرة، حيث بدأت عملية الركود، وراحت المشاكل الاجتماعية تتفاقم عالمياً، وبالتالي لم يعد كافياً ما اتخذ من إجراءات وأساليب خلال الفترة السابقة لمواجهة الأزمة، وخاصة اتجاه العسكرة الذي اتخذته الولايات المتحدة، والحروب التي شنتها كمحاولات لبسط النفوذ والسيطرة للخروج من الأزمة، وفي الوقت نفسه إعطاء مزيد من الفرص لرأس المال لتحقيق المزيد من الأرباح. هذا النمط بُدء الآن بمراجعته، وقد لاحظنا أن هناك تبايناً بالمواقف بين بعض دول ومراكز الرأسمالية ولاحظنا موقفاً متعنتاً للإدارة الأمريكية كونها قائدة هذا النظام وترغب باستمرار هذا النمط من الرأسمالية، رغم أنه تبين في الواقع صعوبة إمكانية استمراره. مع ذلك الولايات المتحدة ما تزال قادرة على فرض رأيها نتيجة عدم وجود بديل على المستوى الرأسمالي وعدم وجود نموذج آخر قادر على فرض نفسه.

 

• ولكن الأمور وصلت إلى مستوى لا يمكن فيه أن تستمر عجلة الاقتصاد العالمي بالسير بالطريقة التي اعتمدتها خلال العقدين الأخيرين، فما هي الوسائل التي يمكن أن تلجأ إليها الولايات المتحدة بوصفها في قمة هرم الإمبريالية العالمية للضغط على الحلفاء وبقية المراكز الإمبريالية الأخرى للاستمرار في هذا النمط؟

الحلول هي التي توصل إليها اجتماع العشرين مؤخراً بشكل سطحي، حيث قدم حلولاً لما افترضه أزمة عابرة، وحاول أن يقلّص الأزمة إلى مشكلة مالية بحتة، يمكن حلها تقنياً أو بضخ المزيد من الأموال، ولم ينظر للأزمة بعمقها، أي بكونها أزمة بنيوية يواجهها النظام الرأسمالي العالمي..

 

• هل هذا موقف مراكز الإمبريالية جميعها، هل يريد الجميع الهرب من مواجهة الأزمة والتعاطي معها كمشكلة عابرة لا كأزمة بنيوية حقيقية؟

نعم. لا أحد يريد أن يعترف أنها أزمة بنيوية. جورج بوش خرج من اجتماع العشرين يؤكد أنه يجب الحفاظ على حرية السوق والتوجهات الحالية وعدم المساس بها، وأكد أنه تدخل الدولة ليس مطلقاً، إنما هو تدخل مؤقت فقط لتنظيف السوق المالية من السموم الموجودة فيها، وأن هذه الأموال ستعاد إلى المصارف بعد مرور العاصفة، وهو يحاول أن يفرض هذه الرؤية على كافة حلفائه، وجر المعكسر الرأسمالي العالمي في هذا الاتجاه، والحقيقة أن المعالجة تتم في إطار الصيغة الحالية، فأوروبا ضخت مليارات اليوروات لسد العجوزات المصرفية، وكذلك فعلت دول أخرى آسيوية وعربية، ولكن هذه الصيغة الحالية غير قادرة على مواجهة الأزمة وحلها.

 

• إذاً، إلى أين تسير الأزمة؟!

الأزمة تسير إلى مزيد من التفاقم خلال الفترة القادمة.. رأسمال يدخل في تناقض مع ذاته، ولكنه لا يريد العودة إلى القمقم، هو يريد الاستمرار بالربح. وهذا سوف يتسبب بتجدد الأزمة وسيدفعها إلى المزيد من التفاقم خلال الفترات القادمة لأن عواملها ومسبباتها ماتزال قائمة.. الأزمة أساساً هي هذا التناقض القائم بين مصالح رأس المال ومصالح المجتمع، الدولة تخلت عن العبء الاجتماعي، نتيجة تخليها عن مستوى معين من الحماية والخدمات.. وبالمقابل أعفت رأس المال من الضرائب والرسوم على حساب الأفراد أنفسهم.. هذا النمط الذي تريد الليبرالية فرضه يتناقض مع مصالح المجتمع، فأحد أسباب الأزمة الحالية هو انخفاض القدرة الشرائية للأجور الذي دفع الأفراد إلى المزيد من الاستدانة من السوق المالية للاستهلاك وللعقار، ووصلت السوق المالية إلى الأزمة نتيجة عجز المستدينين عن السداد.. فقسم منهم خسروا وظائفهم، وبعضهم أصبح دخله ضعيفاً.. المديونية الفردية الأسرية التي ترتبت على تخلي الدول عن دورها الاجتماعي.. أدت إلى عجز المجتمع عن تحمل التكاليف، وكان هذا أحد أسباب الأزمة. العولمة قادت إلى المزيد من التهميش للدول، وزادت من التهميش للفئات الاجتماعية، وهذا التناقض الموجود في مسار العولمة الليبرالية سوف يتجدد باستمرار.

 

• تجلياته القادمة أين ستظهر؟! هل ستنتقل إلى قطاعات الإنتاج الحقيقية؟

هي عملياً بدأت، ونحن منذ سنوات نشهد المزيد من الإفلاسات في القطاع الحقيقي، يتجلى بتسريح آلاف العمال، وارتفاع معدلات البطالة. البطالة بالولايات المتحدة في أعلى معدلاتها.. هذه الأزمة انعكست على الصعيد الاقتصاد الحقيقي وبدأت فعلاً... فثمة انخفاض في أسعار الأسهم وهو انعكاس لتراجع في القيم الحقيقية للسوق، وهذا ما عجّل بظهور الأزمة للعيان وتسريعها.

 

• ما هو تأثير هذه الأزمة على البلدان النامية عموماً، وعلى سورية بشكل خاص؟!

سورية حتى وقت قريب لم تكن مندمجة تماماً بالاقتصاد العالمي وهي ليست معولمة مالياً، بسبب الحصار المفروض عليها، ولكن السياسات الاقتصادية المتبعة حالياً تسير باتجاه العولمة المالية، فهناك المزيد من التحرير في السوق المالي، ومزيد من التحرير لحركة الرساميل.. التشريعات التي صدرت مؤخراً سمحت للرأسمال باستعادة رؤوس أمواله وزيادة أرباحه بسرعة، وأعطت إشارة فتح السوق المحلية للاستثمارات السورية والأجنبية، والأمر الذي حد من هذه التأثيرات هو موقف الولايات المتحدة وفرضها الحصار الاقتصادي على سورية، ووضعها المصرف التجاري في القائمة السوداء، وبالتالي صارت حركة الرساميل في سورية محدودة جداً، ولولا ذلك لكانت خسائرنا كبيرة جداً.. هناك بعض الخسائر التي منيت بها بعض المؤسسات المالية العاملة في سورية بالقطاع الخاص، بالإضافة إلى خسائر مستثمرين سوريين في الخارج، كما تأثرت ودائع الحكومة السورية.. الأهم بالنسبة لسورية أنه لما انتقلت الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي في الدول الرأسمالية،وخاصة في الاتحاد الأوروبي وبدأ الركود، فإن سورية بحكم أن جزءاً كبيراً من تجارتها الخارجية مرتبط بالاتحاد الأوروبي وكذلك جزء من إدارتها، فإن تداعيات الأزمة ستنعكس عليها، ولكن ثمة جوانب قد تكون مفيدة للدول النامية ومنها سورية، إن هذه الأزمة أدت إلى تراجع عمليات المضاربة على النفط والمواد الغذائية وبدأنا نشهد تراجعاً في أسعارها، وهذا يمكن أن يؤثر إيجابياً على المستوردات السورية، ولكنه سيؤثر أيضاً على الصادرات.

 

• تجنباً للمزيد من الانعكاسات السلبية لهذه الأزمة، هل ينبغي الاستمرار بالسياسات الليبرالية التي يتبعها الفريق الاقتصادي الحالي؟!

المشكلة في سورية في إدارتها الاقتصادية، لأنها لا تتعظ من تجارب الآخرين... يصرون على أن يجربوا بأنفسهم ما وقع في مغبته الآخرون.. وهم لا يدركون أن انخفاض مديونية الأفراد ينجم عن ارتفاع الخدمات التي تحظى بها المجتمعات، ولذلك فإن أهمية دور الدولة يكمن في الحفاظ على مستوى الرعاية الاجتماعية التي تضمن الاستقرار المالي والاقتصادي.

أحد مشاكل الأزمة العالمية هي عجز الأفراد عن سداد الديون بفعل عاملين: تراجع الخدمات، وتراجع سوية الأجور التي لم تتناسب مع مستوى الأسعار، لذلك الأفراد اتجهوا نحو النظام المصرفي ليمولهم، وكان النظام المصرفي يدفعهم بهذا الاتجاه أيضاً، مستوى المديونية للأسر في الولايات المتحدة 120 % من دخلها. وفي انكلترا 140 % من مستوى دخلها، بينما في فرنسا 68 % من الدخل، وهذا ماجعلها الأقل تأثراً .

نحن في سورية، علينا الآن لكي نتجنب الصدمات اللاحقة، والهزات القادمة للرأسمالية العالمية أن نتعلم من تجاربنا، المطلوب أن تحافظ الدولة على دورها الرعائي، وأن تحدث التوازن في العملية الاقتصادية، وتضع ضوابط وحدود لنشاط رأس المال الخارجي أو المحلي، وتلعب دوراً أكبر في عملية توجيه الاستثمارات وعملية الإنتاج، حتى تستطيع أن تستثمر أو تستفيد من الاستثمارات الحقيقية، فلا ترحب بمن يأتي ليستثمر في الأراضي والمضاربات، هي بحاجة إلى تطوير وحماية القطاعات الرئيسية، ولا يجوز أن تفتح الحدود بشكل غير مدروس لمنافسة هي غير قادرة على القيام بها، وبالتالي عليها معرفة قدرتها التنافسية بالسوق المحلية والسوق العالمية.

إذاً على الحكومة إعادة النظر بتوجيه الاستثمارات وإعادة النظر بالسياسات التي تتبعها، وإعادة النظر بعملية توزيع الدخل الوطني.. فكل يوم يزداد التفاوت الاجتماعي اتساعاً في سورية، وتزداد الفئات الفقيرة وتأخذ بالاتساع.

في الأمس القريب كان لدينا بحدود 11.4 % دون الخط الأدنى للفقر. الآن لدينا 15 %، هذا الفقر المتزايد مقابل الاغتناء المتزايد هو من العوامل الأساسية لنشوء الأزمة وتراكمها.