القرار الاقتصادي كان مخترقاً.. ولكن كيف تم ذلك؟! الرأسمالية التي امتهنت السمسرة تعمل الآن لدفع مواقعها إلى الأمام على حساب الوطن
هل في سورية اختراق للقرار الاقتصادي من قبل قوى متنفذة في الدولة؟! الجواب نعرفه جميعاً، نعم نعرفه عندما نعلم أن الرأسمالية التي نشأت في سورية خلال سنوات التوجه نحو اللارأسمالية ليست زراعية وليست صناعية بل هي رأسمالية تجارية توسعت أفقياً في ميدان الخدمات، وطغت كشكل منحرف وعقيم من أشكال الاستثمار، ولم تأت هذه الظاهرة عفوياً، وإنما كانت نتيجة أخطاء في البناء الاقتصادي، والتي لا تزال أثارها قائمه، وتنعكس بشكل خطير على الميدان الزراعي والصناعي.
الإصلاح مغلوط
الإصلاح الزراعي أعلن على أساس مغلوط حيث تم تعميم الملكيات الفردية، وأنشئت مزارع الدولة وبعض التعاونيات، ولكن تم إفشال مزارع الدولة وضربت التعاونيات، فتفتت الأرض مع عدم القدرة على التمويل أو توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي، وكانت النتيجة انخفاض الإنتاج، وإلحاق الضرر الكبير بالسياسة الزراعية، وهجر الفلاحون للأرض وهاجموا المدن، ومن لم يهاجر تم تهجيره في الأعوام الأخيرة.
أما على المستوى الصناعي، فقد تم أنشاء القطاع العام من الشركات المؤممة، بالإضافة إلى تلك التي أحدثت بالخطط التنموية اللاحقة، واستطاع أن يتقدم خطوات ولكنه توقف، نعم توقف!. لأننا لم نعمل على خلق بيئة تشريعية وعملية لجذب رؤوس الأموال الفرية، وتثبيتها في صناعات حتى لو كانت مشتركة بين القطاعين العام والخاص، وفي هذه المعمعة برزت فئة من إداريين في القطاع العام ومن سماسرة في السوق عملت كوسيط بين شركات القطاع العام من جهة والبيوتات الأجنبية كوسيط وسمسار من جهة أخرى، وأقامت تحالفاً مكشوفاً ومستتراً مارس تخريباً للقطاع العام، وأدى إلى استنزافه بالكامل، وفرض هذا التحالف علاقات اجتماعية وإنتاجية متخلفة، وقاد عمليات البناء والتخريب والسرقة على امتداد سنوات طويلة.
«حرامي» الاقتصاد الوطني
الرأسمالية الزراعية والصناعية لا تشكل خطراً اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً لأنها رأسمالية وطنية، ومعالجتها ترتبط بالوطن، والتنمية، وإقامة المشاريع التنموية، ولكن الأمر مختلف تماماً مع الرأسمالية التي امتهنت السمسرة والوساطة وأشكالها، وقد نمت هذه الرأسمالية وقوت، وهي تعمل الآن لدفع مواقعها إلى الأمام على حساب القطاع العام والقطاع الخاص المنتج، وعلى حساب الوطن والدولة، وهي التي سرقت الدخل القومي، وأضعفت الاستثمارات في القطاعين الصناعي والزراعي.
لاشك ساهم القطاع العام مساهمة كبيرة في توفير فرص العمل لمئات الألوف من العمال والمهندسين مما قلل من حجم ظاهرة البطالة الظاهرة، وأن كان دوره في هذا المجال قد تحقق في الغالب على حساب فعالية القطاع العام وربحية المشروع الحكومي، وذلك بسبب سياسته في التشغيل الاجتماعي، وهو القطاع الذي استجاب لكل الإجراءات والضوابط التي وضعتها الدولة لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للمجتمع، وكونه القطاع الاقتصادي الأقدر على الاستجابة للاحتياجات الأساسية للمواطنين، وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فإنه المدخل الأساسي لمعالجة الصعوبات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني، وهو في الوقت نفسه المدخل الأساسي لمعالجة الصعوبات التي يعاني منها القطاع العام. ولكن لم يتخذ قرار معالجة صعوبات القطاع العام رغم ما طرح من مشاريع إصلاحية لم تنفذ ولم تقر، وبالتالي اتخذت قرارات لمعالجة واقع الاقتصاد الوطني.
لكن ما هي هذه القرارات؟
أقر المؤتمر القطري العاشر التحول إلى نهج اقتصاد السوق الاجتماعي، وقد جاء هذا التحول ليس بسبب المتغيرات الدولية والعولمة، وإنما بسبب واقع القطاع العام، وإخفاقه في التنمية والخسائر التي يحققها القطاع العام، وعدم توفر إيرادات كافية للدولة، وبرزت فئة أو فئات تطالب بتصفية القطاع العام لأنه بات عبئاً عليها بعد أن سرقته، ونهبته، وتراكمت أموالها من القطاع العام، لذلك عليها أن تتابع نهب المجتمع من خلال الانفتاح والاستثمارات بعد تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي، وكان من الممكن أن يواجه هذا الطرح برفض قاطع من قواعد الحزب الحاكم، والأحزاب اليسارية الأخرى في الجبهة الوطنية لذلك فقد احتاط الطاقم الحكومي لاقتصادي وأجرى حواراً بين بعض التيارات والفعاليات ووضع بعض البنود الوعود:
- الانتقال التدريجي وفق خطة زمنية محددة بعيداً عن الصدمات.
- استمرار دور الدولة في الحياة الاقتصادية بأسلوب أكثر حداثة وتطوراً والانتقال التدريجي إلى لعب أدوار غير مباشرة في الحياة الاقتصادية.
- إعادة تأهيل القطاع العام الاقتصادي في القطاعات الاستراتيجية. وذلك وفق خطة زمنية محددة وتوفير كافة الإمكانيات لذلك.
- تخلي الدولة والقطاع العام تدريجياً عن بعض الأنشطة بعد إرجاء دراسة اقتصادية لكل مشروع أو استنفاذ البدائل المتاحة للاستثمار أو المشاركة في الإدارة مع المحافظة على حقوق العاملين.
- إلغاء جميع أشكال التقييد والحصر والحماية توفيقاً مع الاتفاقيات الثنائية التي وقعتها سورية مع بعض الدول واتفاقية منظمة التجارة الحرة العربية والشراكة مع أوروبا والتي لم توقع حتى الآن.
- تعزيز نهج التعددية الاقتصادية وتقديم الدعم والتشجيع لجميع القطاعات.
بالمحصلة «فافوش»
فهمت النقابات العمالية وأحزاب اليسار ومنها حزب البعث أن اقتصاد السوق الاجتماعي نظام ذو بعدين اقتصادي مجتمعي يقوم على الموازنة بين نظام السوق ونظام الرفاه الاجتماعي، ولكن وفي المحصلة، وبعد خمس سنوات، تراجع الإنفاق الاستثماري عاماً بعد عام، والذي يعني تراجع الدور التنموي للدولة، وقد أدى ذلك إلى عدم إمكانية توليد فرص عمل في القطاع العام، في حين بقي القطاع الخاص عاجزاً عن ردم الفجوة الاستثمارية، وقد أدى ذلك إلى ملايين العاطلين عن العمل، وبالانتقال إلى تحرير التجارة الذي خلق تحديات وصعوبات للقطاع العام وللخاص المنتج أيضاً بسبب المناقشة، وأدى ذلك إلى إغلاق مؤسسات إنتاجية عديدة الأمر الذي فاقم من البطالة، وهذا ما تريده البعثات الطفيلية التي اغتنت خلال /40/ عاماً من القطاع العام، لذلك فقد تضاعفت ثرواتها مئات المرات من خلال السمسرة ومكاتب الاستيراد والتصدير والوساطة والدعارة والاستثمار العقاري، كما تراجع الانفاق على التعليم والصحة وتم تحرير أسعار السلع الأساسية كالمشتقات النفطية وحوامل الطاقة الأخرى، كما شجع التهرب الضريبي من قبل السماسرة وتجارة العقارات هذه الفئات على نهب المجتمع، وقد انعكس سلباً على مجمل الاقتصاد الوطني، وقلص من إمكانية الدولة من الحصول على الموارد الكافية واللازمة لتمويل إنفاقها الاجتماعي، وهذا ما يؤكد الاتجاه نحو عدم العدالة في توزيع الدخل، وعدم قدرة الدولة على إنصاف ذوي الدخول المحدودة يصل الانفاق العام في الدول المتقدمة إلى /50%/، وفي سورية لم تتجاوز في سنوات سابقة /8%/ من الناتج المحلي الإجمالي، كما تم ضرب القطاع الزراعي، حيث هاجر أكثر من /700/ ألف مواطن من المناطق الشرقية إلى دمشق، وعد كل هذا من حقنا أن نسأل: هل هناك اختراق للقرار الاقتصادي من قوى متنفذة في الدولة؟! نعم، هناك اختراق من الذي يقود التنمية، ويمنح أقل التنمية لمن نهب القطاع العام والاقتصاد الوطني عبر سنوات طويلة!