د. عصام الزعيم: بالتأكيد (لا لرفع الدعم)!
إن اهتمام الفريق الاقتصادي يتركز بصورة لافتة للنظر على الجانب المالي في العجز الحاصل في سورية في ميزان المشتقات البترولية، وهذا التوجه يستهدف التثبيت المالي الذي يعد المرحلة الأولى للإصلاح الاقتصادي الذي لا ينتهي الاهتمام به بانتهائها وإنما يتواصل باستمرار من خلال المرحلة الثانية وهي مرحلة التكييف الهيكلي والخصخصة في البرنامج الاقتصادي ذائع الصيت الذي يطرحه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
نحن إذ نقدر اهتمام الحكومة بالحيلولة دون اتساع العجز في الموازنة العامة للدولة، نلاحظ في الوقت نفسه أنها تكاد تنظر إليه كهدف في حد ذاته كاف وواف، بينما المشكلة التي تواجهها سورية هي في حقيقة الأمر مشكلة تخلف إنتاجي وتقصير في اتخاذ القرارات الضرورية لتطوير القطاعات الإنتاجية، ومجمل التخصص العام والدولي للاقتصاد السوري سببه التهاون في توسيع طاقة التكرير البترولي الوطنية وتطوير أنماطها في المنتجات وفقا لنمو الطلب المتميز بارتفاع معدلاته وتواصلها والاستجابة لمتطلبات المستهلكين والأسواق.. لتلبية الاستهلاك ومايجدر تصديره إلى الأسواق المجاورة ليس بالتهريب وإنما بالبيع النظامي..
بدلاً من هذا كله، أغفلت الجهات المسؤولة المتلاحقة مواكبة الطلب المتنامي وتطوره، وتجاهلت بالنتيجة دور العجز في ميزان المشتقات البترولية، وتفاقمت خصوصا منذ بداية العقد الجاري إلى الآن وقد يقول قائل إن ضيق السوق السورية (النسبي) وقلة الموارد المالية المتاحة مقارنة بضخامة الاستثمارات المطلوبة للتوسع في صناعة تتصف بالكثافة الرأسمالية الشديدة إضافة إلى الكثافة التكنولوجية، ولكن نجد هنا تجاهلا لتوافر دخل إضافي كبير لم يكن متوقعا في الموازنة العامة كالدخل المقدر بمليار و300 مليون دولار الذي تحقق لسورية في العام 2002 من التعاون البترولي مع العراق..
إن قصور السياسيات الاستثمارية وغياب منهج وسياسيات وآليات اقتصادية لتفعيلها وتوسيع آفاق جغرافية من حيث الشراكات وغياب تعديلها وتحسينها، قد حالا دون الربط المطلوب بين تشجيع الاستثمار الخاص المحلي والمغترب العربي والأجنبي، وبين تحقيق التجديد والتوسع في صناعات وطنية حيوية كالتكرير البترولي والأسمدة الكيميائية والإسمنت وغيرها والتغلب بذلك على عقبة التمويل..
لقد حول القصور في التخطيط الاستراتيجي والمرحلي وفي السياسيات الاستثمارية والإنمائية، الاقتصاد السوري إلى اقتصاد يصدر النفط الخام المتوفر بقدر محدود نسبيا، واستيراد النفط مكررا بصورة مشتقات كالمازوت والبنزين وغيرها.. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية..
المشكلة في سورية إنتاجية قبل أن تكون مالية وهي إستراتيجية وتخطيطية قبل أن تكون إسعافية.. لماذا أحجمت الجهات المسؤولة عن متابعة تطوير قطاع الاسمنت وتوسيع طاقة البلاد الإنتاجية منه في الوقت الذي تقاضت، وما تزال تتقاضى من إنتاجه في القطاع العام الصناعي ريعاً مالياً كبيراً...
ولماذا لم تهتم الجهات المشرفة على هذه الصناعة والمسؤولون الاقتصاديون المعنيون على امتداد السنوات العشر الماضية بإقامة توسعات وطاقات إنتاجية جديدة، بينما يتضاعف العجز سنة تلو أخرى بسبب تجميد الاستثمارات والإنتاج؟
لو أن هذه الطاقة الإضافية أقيمت خلال السنوات الماضية، وصممت بحيث تتجاوز النمو في الطلب المحلي وتتيح فائضاً متزايدا للتصدير، كان من شأنها أن تجنب البلاد ظاهرة السوق السوداء والظلم المرتبط بها والأعباء الاقتصادية والزيادة في التكاليف المترتبة عليها.
عالجوا الجذور ولا ترمموا الأضرار
يعطي بعض المسؤولين الاقتصاديين أهمية كبرى للتحكم في العجز المالي في الموازنة العامة، لكن الموازنة الحالية عكست تخفيضاً في معدل النمو في الموازنة الاستثمارية ومؤشراً على تواصل السياسية الرامية إلى إبعاد الدولة عن الاستثمار المباشر أو المشترك مع القطاع الخاص في قطاع الصناعات التحويلية أي في القطاع الذي يوفر فرصا جديدة للعمل، ويطور البنية الصناعية والإنتاجية، ويحسن البنية السلعية للصادرات، ويدفع بالتالي بالميزان التجاري نحو التوازن على أقل تقدير.
لا شك أن الاستهانة بالعجز المالي خاصة عند تناميه له عواقب مالية ونقدية واقتصادية معروفة وأن ضبط الموازنة فضيلة اقتصادية، ولكن وهنا الخلاف مع أنصار المغالاة في عواقب العجز، أي عجز في الموازنة العامة يتجاوز المعايير التي وضعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للبلدان النامية بوصفها حقيقة مطلقة، بينما تستمتع دول كبرى بتجاهل هذه القواعد المقدسة المطلقة تجاهلا مطلقا وتتأقلم دول عديدة أخرى عاما أو عامين أو عدة أعوام مع زيادة في العجز في الموازنة العامة..
ليس المقصود هنا أن ندعو إلى ترك الحبل على غاربه في المجال المالي وخصوصا في الموازنة العامة للدولة، ولكن المقصود تحديدا، هو وضع مشكلة العجز المتزايد في ميزان المنتجات البترولية في إطاره الاقتصادي الصحيح، ومعالجة جذوره وأسبابه العميقة حتى تزول نتائجها، وليس بترميم أضرارها، وبعبارة أخرى ليس حل المشكلة في تحميل الاقتصاد السوري والمواطنين السوريين أعباء قرار يعالج العواقب، أي النتائج السلبية بقصور السياسات، دون أن يتناول أسسها. الحل الحقيقي لمشكلة العجز في الموازنة يكون بزيادة إيرادات الدولة على أساس العدالة الضريبية في المجتمع، وإعادة توزيع الدخول لصالح التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ورفع الأجور والرواتب لدى العاملين بأجر، ورفع القدرة الشرائية عموما لدى أصحاب الدخول الصغيرة والمتوسطة.
إن الأوضاع الإقليمية لا تخلو من مخاطر، والضغوط الأمريكية والغربية تشدد مؤخرا بحيث يصح القلق من تشديد في العقوبات الاقتصادية على سورية التي أضيفت إلى حظر التكنولوجيا المتقدمة على سورية بحجة مساندة الإرهاب. يبحث الجنرالات العسكريون والغلاة المتطرفون في المؤسسة الإسرائيلية عن مشهد وظرف مواتيين لتوجيه ضربة عسكرية إلى سورية ولبنان.
يحتاج الوطن إلى تضامن بالأفعال لا بالأقوال.. بالأموال لا بالجدال.. وإذا كان صمود سورية الشجاع وتحديها للاستكبار ورفضها الامتثال والإذعان، فإنها كبلد مقاوم يحتاج إلى منهج مقاوم في الاقتصاد مثلما في السياسة..
منتقدونا انفعلوا في الرد
يتهمنا منتقدون بأننا أخذا موقفاً أيديولوجياً، ولم نقدم مادة علمية في البيان الذي شاركنا في توقيعه تحذيراً من عواقب الاندفاع المالي الذي يبدو وكأنه لا يقاوم، وواقع الأمر أن بعض المسؤولين الاقتصاديين أحسنوا بطرح مشروع لاستمزاج الآراء، ولم يحسنوا بانفعالهم ضد معارضة مشروعهم..
أما تهمة الإيديولوجية فهي أسلوب لايخدع العارفين، فكل صاحب رأي متماسك له موقف إيديولوجي، إذ بدون الايدولوجيا يسقط المرء في التجريبية الفجة الهشة.. إن الصراع الفكري قائم بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية بين دعاة الليبرالية الجديدة وأنصار التنمية المتكافلة التي لاتستهين بالسوق، بل تحرص على الاستفادة منه، لكنها ترفض أن يتحول من أداة لخدمة المجتمع إلى معبود يهيمن على المجتمع ويتحكم تحكما أخرقا في مصائر الرجال وعقولهم..
نحن نعلم جيداً أن رفع الدعم من خلال ما يسمى تارة إعادة هيكلة الدعم وتارة أخرى إعادة توزيعه وتارة ثالثة ترشيده..هو في صلب أيديولوجية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وجزء من وصفتهما، لكنها على عكس ما يروج خبراء مؤسستي برتس وودز، وصفة انكماشية تقشفية تميزية ضد أصحاب الدخول المحدودة..
نحن لم نوقع بياناً اقتصادياً، وإنما سجلنا موقفا وضممنا صوتنا إلى الأصوات الكثيرة التي تريد أيضا إمعان العقل لحل القضايا دون التضحية بحاجات المجتمع أو الضغط مزيد الضغط على الغالبية الساحقة من العاطلين على العمل والعمال الموسميين والمؤقتين والفلاحين الفقراء وذوي الدخل المحدود في الدولة وقطاعها العام كما في القطاع الخاص..