عصام الزعيم الحاضر دائماً

تكريماً للدكتور عصام الزعيم الذي رحل جسداً وبقي علماً من أعلام الوطن، ووفاء لما قدمه من أبحاث ودراسات لم يلغ المعهد الفرنسي للشرق الأدنى المحاضرة التي كان من المفترض أن يلقيها الزعيم في 7/1/2008، فارتأت إدارة المعهد وبحضور السفير الفرنسي في دمشق إقامة الندوة على شكل حلقة بحث على شرف ذكرى الراحل الكبير، وبالزمان والمكان المحددين تحت عنوان: عصام الزعيم باحثاً اقتصادياً، ومفكراً تقدمياً، وذلك باستضافة د.نبيل مرزوق الأستاذ في معهد التخطيط، وماهر الشريف الباحث في المعهد الفرنسي، وبحضور جمع من المهتمين الاقتصاديين، وزوجة وابن الفقيد.

بدأ الحديث د.نبيل مرزوق فقال:

تعرفت على الزعيم أول مرة في باريس عندما كنت طالباًَ، وكان في زيارة إلى باريس، وقد اغتنم الأصدقاء فرصة وجوده هناك، لعقد جلسة معه، يحدثنا فيها عن المستجدات والأحداث الاقتصادية الهامة، على صعيد سورية والعالم العربي والعالم، ونحاور في ما قدم لنا وما لم يقدمه. ومنذ ذلك الوقت أصبح برنامجاً شبه ملزم بأن نعد نحن بعض الطلبة السوريين والعرب للقاء معه كلما كان عابراً في باريس، ولم يكن ليعتذر عن تلك اللقاءات، التي كانت محرضة لنا على التفكير والبحث، وعندما عدت إلى دمشق كان في كل زيارة له لدمشق موعد مع جمعية العلوم الاقتصادية وجمهورها. لقد كان ذلك لافتاً بالنسبة لي، ولكنه تكرس في ذهني منذ ذلك الحين، أن صاحب القضية يجب ألا يعدم وسيلة لنشر قضيته، ولقد كان عصام الزعيم صاحب قضية وهمّ، فهو كاقتصادي كان يرى في التنمية وتحسين أحوال الناس المعيشية قضيته الخاصة.

وأعتقد أن هذه السمة الأبرز التي ميزت عصام الزعيم وأحاطته بحب الناس وثقتهم منذ أن عاد بشكل نهائي إلى أرض الوطن، لم يكن قد مضى أيام معدودات على تسلمه مهمة وزير الدولة لشؤون التخطيط، حتى امتلأ بريده اليومي بعشرات الرسائل من أشخاص لم يسبق له التعرف إليهم، يحدثونه عن مشكلاتهم ويطلبون منه العون ولم يكن ليتردد في تقديم ما يستطيع.

خلال أربعين عاماً من حياة الاغتراب لم يكن بعيداً عن هموم الوطن ومشكلاته الاقتصادية، وقدّم خلالها العديد من الدراسات والاقتراحات لمعالجة المشكلات الناشئة، وركز على عدد من المسائل الجوهرية والتي رأى فيها مفاتيح أساسية لاستئناف عملية التنمية في سورية، والاستعداد لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تتعرض لها، من أهم تلك المسائل كان وضع رؤية استراتيجية وخطة وطنية استراتيجية، وكان يرى في التطوير التكنولوجي شرطاً لاستدامة النمو وزيادة الإنتاجية، لذلك عمل على نشر مفهوم «الاستشراف» و«التخطيط الاستشرافي» والذي لم يلق قبولاً من الحكومة ذلك الوقت، ومع التغييرات التي تمت عام 2000 تم الطلب إليه المشاركة في الحكومة فقبل بذلك على أمل أن يستطيع تنفيذ مشروعه الإصلاحي والتنموي، وكان ذلك تحدياً ورهاناً خطيراً بالنسبة له في أن يتحول الباحث الأكاديمي إلى مسؤول تنفيذي، وهو الذي استنكف عن هذه المهمة أوائل الثمانينات، ولكن الرهان كان يستحق ذلك بالنسبة له، وهو المتفائل والواثق بالمستقبل.

وكلف بالمتابعة والإشراف على مشروع الاستشراف لسورية لعام 2000 الذي وضع خطته البحثية وبرنامجه الزمني، وكان يرى ضرورة وجود برنامج للإصلاح الاقتصادي تعمل الحكومة على هديه، فبادر بالاشتراك مع محمود سلامة ومعي (نبيل مرزوق)، إلى إعداد برنامج للإصلاح الاقتصادي كان من أهم محاوره:

1 ـ الإصلاح المالي والضريبي.

2 ـ إعادة توزيع الأدوار في إطار التعددية الاقتصادية والمقصود بها دور كل من القطاع العام والخاص والمشترك والتعاوني، ضمن رؤية تنموية شاملة لحشد الطاقات الوطنية وتعزيز التشاركية في اتخاذ القرار الاقتصادي، وفي التمتع بثمار التنمية.

3 ـ إصلاح القطاع العام الاقتصادي وتفعيل دوره.

4 ـ التحديث والتطوير التكنولوجي.

لقد جاء البرنامج في إطار رؤية تنموية استراتيجية، متناقضة مع البرنامج الذي أخذت به الحكومة منذ عام 1986، لم يؤخذ بالبرنامج، ولكن ذلك لم يحبط من عزيمته، ليشارك بعدها بمشاريع إصلاح حكومية، مازالت في الأدراج حتى تاريخه.

لقد كان هاجسه خلال السنوات الماضية، وضع استراتيجية وطنية استشرافية، ووضع استراتيجية تكنولوجية وصناعية، وفي آخر محاضرة له في جمعية العلوم الاقتصادية والتي أعاد صياغتها في الأسبوع السابق لوفاته، ركز على الخسائر التي تحملها الاقتصاد الوطني نتيجة غياب الاستراتيجية والخطة الاستراتيجية، في مجال الطاقة والصناعة التحويلية والسكن، ونبه إلى مخاطر الاستمرار في تجاهل التغيرات الحاصلة، على قطاع الزراعة والأمن الغذائي الوطني.

لست في معرض التذكير بإسهاماته، على صعيد انتقاد وتصويب السياسات الاقتصادية، والتي كان آخرها موقفه من مسألة رفع الدعم أو إعادة توجيهه إلى مستحقيه كما يقال، ولكن أود التذكير في هذا المجال بإسهاماته النظرية الهامة والتي لا تندرج في إطار النظرية الاقتصادية البحتة، وإنما تندرج في إطار الاقتصاد السياسي للتنمية، من هذه الإسهامات:

أ ـ وقدّم إيضاحاً للعلاقة الملتبسة بالنسبة للبعض بين العولمة والتكنولوجيا، والتي رأى في البعد التنافسي، والصراع بين المراكز العولمية، دوراً استثنائياً للتكنولوجيا التي تحدد في المحصلة، الأقطاب القائدة في عملية العولمة والأدوار التي تقوم بها تلك المراكز من خلال سبقها التكنولوجي، أي توظيف العولمة للتكنولوجيا عبر المنافسة، وذلك دون أن تكون التكنولوجيا بمعنى ما هي العولمة الجارية.

ب ـ نقده لمفهوم التنمية المستدامة السطحي الذي روجت له بعض المؤسسات الدولية، من خلال التمحور حول البيئة والبيئة والسوق، وقدم إطاراً بديلاً اقتصادياً اجتماعياً بيئياً، كأضلاع ثلاثة لمثلث التنمية المستدامة في إطار العولمة الجارية.

ت ـ التغيرات الدولية الاقتصادية والاجتماعية خلال العقدين الأخيرين، جعلت من الشرط الخارجي العامل الأهم في مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية، دون أن يعني ذلك نفي دور العناصر الحاكمة على المستوى الداخلي، ولكن حرية هذه العناصر أصبحت أكثر تقييداً وتأثراً بالتطور الجاري عالمياً.

ث ـ مكونات الخصوصية السورية، والتي على الاستراتيجية والسياسات إيلاءها الأهمية المطلوبة وهذه المكونات أربعة وهي:

1 ـ أولها استراتيجي متعلق بالأمن القومي الاستراتيجي والاقتصادي.

2 ـ وثانيها تاريخي (وهو ديناميكي وجذوره في الماضي، تاريخية الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، والتي أصبحت عبر الزمان أحد مكونات الثقافة العامة المجتمعية).

3 ـ وثالثها بنيوي (وهو مترابط المقومات مقاوم للتغير، البنية السكانية وقوة العمل، التوزع القطاعي، مستوى التطور التقني والإنتاجي الخ...).

4 ـ ورابعاً محدد بالثوابت الوطنية الاقتصادية والسياسات والنظم الاقتصادية المطبقة.

لقد قدم عصام الكثير من فكره وجهده، بحب كبير لوطن كان يعتز دائماً بالانتماء له، لقد خدم قضيته (التنمية الاقتصادية والاجتماعية والشعب) بتفان وإخلاص، ولكنه أتى في الزمن الخطأ، الذي لا يعترف بقيم الشجاعة، والنبالة والتضحية.

أما الباحث ماهر الشريف فقد تحدث عن ظاهرة العولمة في فكر عصام الزعيم والتي احتلت حيزا كبيراً في انشغالاته الفكرية، وأوضح أن الزعيم قد انطلق في تحليله لكل الظواهر الاجتماعية، من منطلقات ماركسية، معتمدا على المنهج التاريخي، وإن العولمة الجارية التي وصفها الزعيم بالجديدة هي مرحلة من مراحل التاريخ تمضي، وسرعان ما تتلوها مراحل أخرى، وإنها ظاهرة متناقضة تحمل في أحشائها عوامل زوالها، لأنها تقوم على عدد من الأركان أولها تعميم السوق، وثانيها التحرير الاقتصادي بتحرير حركة رؤوس الأموال وتسهيل انسياب الاستثمارات، وثالثها تعاظم دور الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وتوسع السلطة القانونية والاقتصادية للمؤسسات المالية والنقدية فوق القومية، مما يؤدي إلى الاختلال في النمو الاقتصادي بفعل الاختلال في توزع الاستثمارات على الصعيد العالمي.

وأضاف الباحث ماهر الشريف إن عصام الزعيم في رده عن سؤال حول (ماذا) عن موقع العرب من نظام العولمة الجديدة، أكد على تبني استراتيجيه التدرج في الانفتاح الاقتصادي، إلى جانب التكتل الإنمائي الذي يعتبر أفضل سبيل أمام اندماج الدول النامية في النظام العولمي، محذراً من مخاطر انضمام دول عربية عديدة، وبصورة منفردة إلى اتفاقات الشراكة الأوربية المتوسطية، أو من توجهها إلى إقامة المناطق الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي ختام الندوة قدمت عدة مداخلات معظمها ركزت على شخصية د.عصام الزعيم الهامة في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وبعض من مناقبه، وإن أفضل وفاء للزعيم هو نشر كل ما كتبه في كتاب بالإضافة إلى متابعة الدراسات والأبحاث التي قام بها وقدمها خدمة للتطوير الصناعي والتكنولوجي والاقتصادي السوري، والتي لم تعجب الكثيرين من المسؤولين في الحكومة والفريق الاقتصادي.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 14:50