الحوار الأخير لعصام الزعيم: التعددية الاقتصادية مهددة في سورية
التقت «قاسيون» الدكتور عصام الزعيم يوم الثلاثاء 11/12/2007 أي قبيل رحيله بثلاثة أيام، وحاورته في قضايا اقتصادية كثيرة، وكان من المفترض أن ينشر الحوار مع الراحل الكبير في العدد الماضي (335)، لكن حرص د. الزعيم على تدقيق الحوار في اليوم التالي بعد تفريغه وتحريره، لكي يقدم للقراء واضحاً وشفافاً، والذي طال لساعة متأخرة من ليل الأربعاء، بينما كنا نقوم بإغلاق العدد، أدى إلى تأجيل النشر، ثم فوجئنا فجر الجمعة بالنبأ الصاعق.. لقد توفى عصام الزعيم!!
عدنا بعدها لإعادة الاستماع إلى الكاسيت الذي سجلناه في حوارنا معه، حرصاً على مزيد من الدقة، كما دققنا التصليحات التي أضافها بخط يده على مسودة الحوار خوفاً من أن نكون سهونا عن أية إضافة أو تعديل، ولم لا؟ فهذا آخر حوار أجراه الزعيم مع الصحافة..
■ المنحى العام للتطور الاقتصادي يغلب عليه الجوانب السلبية. الحكومة تتحدث عن نمو قدره 6% يتحقق هذا العام، وهذه الأرقام تنعكس بارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة وبزيادة المشاكل الحياتية بكل المجالات، لذلك توجد مفارقة: من جهة يوجد نمو، ومن جهة ثانية يدعون أنه لا موارد لديهم. كيف يمكن فهم ذلك؟
هذه قضية هامة ومعقدة، يقاس النمو بمعدل سنوي، وهذا المؤشر له دلالته، غير أنه يحمل كثيراً من القصور. أولاً: ما هي أشكال النمو المتحققة؟ وفي أية قطاعات بالدرجة الأولى؟ وثانياً: كيف يوزع هذا النمو بين الاستهلاك والاستثمار؟ وثالثاً: كيف يوزع بين أفراد فئات المجتمع؟ لدينا نوع من التحفظ على الأرقام،، لأنه حصلت عدة وقائع ظهر فيها أن الأرقام لم تكن دقيقة. فالتخفيض الكبير المفاجئ لعدد العاطلين عن العمل بعيد عن الواقع والواقعية، والحديث عن تراجع الفقر، لا يتفق مع التطورات المادية القائمة بالاقتصاد السوري. إذ كيف يمكن الجمع بين زيادات كبيرة في الأسعار واتساع الفجوة بين الأجور والأسعار والحديث في الوقت نفسه عن تحسن القدرة الشرائية ؟
• رفع الدعم.. هدف ليبيرالي.
• حررنا التجارة.. ولم نقوّ الصناعة.
• لا رادع للاستثمارات العقارية التضخمية.
■ تكلمت عن مشاكل قياس النمو. برأيك النمو نفسه كيف يقاس؟ أليست طريقة قياسه فيها مشكلة بالنسبة للأرقام بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد غير الحقيقي؟.
هذه بالضبط هي القضية. عندما يحصل لدينا تضخم كبير في القطاعات العقارية والمالية والخدمية، فإن هذا يدفع بمعدّل النمو الاقتصادي إلى الارتفاع ،لكن النمو لا يكون فعلياً ونوعياً ،وعندما نقيّم النمو خلال عام واحد أو عامين فإن الفرق بين الأسعار الجارية والأسعار الثابتة أي الفعلية لا يكون كبيراً مما يسهل تضخيم النمو من الأرقام ،من ناحية الإنتاج السلعي ، للزراعة في سورية، حقاً إن الإنتاج ما يزال يفيض عن الاستهلاك في قطاع الزراعة من القمح خصوصاً وبالإجمال غير إن هناك عجزاً في إنتاج الشعير والذرة والشوندر السكري وقصوراً في الزراعة الراسية وتربية الحيوان باستثناء الدجاج ،ولكن هذا العام لم تكن الأمور مطمئنة في قطاع القمح مع لجوء الدولة إلى الاحتياطي، توقعت وزارة الزراعة أن يكون الإنتاج 4.800.000 طن في العام القادم، وهذا رقم يمكن تحقيقه، لكنه مرتبط بالعامل المناخي، الذي يلزم أن يكون ولهذا فقد بدأنا ندخل مرحلة الظل حتى يتحقق هذا الرقم الإنتاجي، ولكن الفرق بين الإنتاج والاستهلاك لم يعد كبيراً، ونحن في مرحلة تستدعي منا أن نعطي زخماً كبيراً للزراعة، من خلال الاستثمار الكثيف الرأسي، العمودي.
■ أتعني أنه إذا قسنا النمو على أساس قطاعات الإنتاج المادية التي تنتج إنتاجاً سلعياً، سيظهر أن الأرقام ليست بهذا الحجم من التفاؤل؟
أجل تحدثنا عن هذا بالنسبة للزراعة أما في الصناعة التحويلية، فالأمر يبدو أكثر وضوحاً. حيث يخفي أسلوب الخطة الإنتاجية في القطاع العام قصوراً كبيرا في استخدام الطاقات الإنتاجية المتوفرة في شركاته كما موقف التوسع من استثماراته كما إن القطاع الخاص يجد مشقة كبرى إن لم يكن عجزاً في تطوير منشآته الصغيرة بأغلبيتها الساحقة بسبب ارتفاع سعر الفائدة المصرفية وسياسات الإقراض المحافظة أو المنحازة للاقتراض الاستهلاكي والاستهلاكي... لاشك أن هناك عوامل تتدخل لا علاقة للأداء الاقتصادي المحلي بها، كارتفاع أسعار القطن أو القمح وانخفاضها، لكننا نحن نتحدث عن العوامل الداخلية. في الصناعة التحويلية مازلنا في القطاع العام نتبنى منهجاً خاطئاً ومضللاً، وهو منهج الخطة الإنتاجية، الذي لا يكشف عن حقيقة الأداء الاقتصادي لأن قياسه يكون بالقدرة التصميمية، أو القدرة الإنتاجية الفعلية، وليس بالخطة الإنتاجية التي هي خطة كيفية، فقد تضع هدفاً لتنتج 50% أو80% أو حتى 30% من الطاقة الإنتاجية الحقيقية، وبالتالي فإن كل الأرقام الإحصائية المعطاة عن أداء الصناعة التحويلية في القطاع العام، تدخل في منهج «تخطيط كيفي»، أي خطة الإنتاج كيفية، وهي منفصلة عن قطاع الإنتاج المعلنة في الخطة الخمسية. ناهيك عن حالة القطاع العام، من حيث التغلغل في السياسة الصناعية: (نريد ولا نريد خصخصة، ولا نريد أن نقوم بتخفيض الاستثمارات رغم ضرورتها القصوى للصناعة التحويلية) ليست كافية ولا تعبر عن حاجات البلاد.
نحن بحاجة إلى زخم استثماري كبير، ولا يكفي شعار تحسين الأداء كفعل استثمار، بل المطلوب مضاعفة حجم الاستثمار وتوجهه القطاعي في الزراعة والصناعة التحويلية والعلم والتكنولوجيا.تقوم الدولة الآن بوضع خطة عامة للصناعة، ولكن أين هي الرؤية الصناعية؟ ما هي سماتها؟ وما هي أولويات التنمية الصناعية السورية في المدى الاستراتيجي والمتوسط؟! هناك مشكلة عدم الاهتداء بأولويات واضحة،وهي تسبق مشاكل التمويل المصرفي الميسور،ولكن «لا تحجبها»، إن القطاع الخاص يعاني من مشكلة التمويل، مما يجعل النشاط فيه يميل إلى الربح السريع. وطالما أن الاستثمار مكلف، ومعدل الفائدة مرتفع، والمنافسة متزايدة في السوق الوطنية ناهيك عن الأسواق الخارجية، يكون مفهوماً، وليس صحيحاً، أن يتم الاستثمار في صناعات التحويل النهائي واللمسة الأخيرة، وفي صناعات ذات طابع استهلاكي سريع، لدينا هنا مشكلة، وهي أن الصناعات المحركة للنمو الصناعي والاقتصادي، لا يمكن تثميرها بشكل فعال. ولذلك يلجأ القطاع الخاص الصناعي، لآلية الجمع العشوائي لرأس المال، هنا نشير إلى التناقض في السياسات: مثلاً نحن نريد قيام شركات الأسهم، ولكنا نبدد المدخرات بتشجيع الناس على شراء السيارات المستوردة. ويتم التركيز الآن على تأمين السيارات الذي يضاف إلى تسديد الأقساط وإلى هذا وذاك تضاف زيادة سعر البنزين، فلا نترك هوامش لمدخرات تذهب إلى الصناعة.
■ ألا يخلق هذا مشكلة مركزية في التناسب بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية، مع ما ينتج عن ذلك من أخطار مرحلية ومستقبلية جدية.
هذا أكيد، إن التوسع في الكتلة النقدية يوسّع ظاهرة التضخم في القطاعات غير الإنتاجية. تستطيع الدولة برفع الفوائد أن تحد من توسع الكتلة النقدية، وتنوي في المستقبل القريب جداً أن تصدر سندات تساعد على تمويل الموازنة،والحد من السيولة الفائضة، تبقى المشكلة الأساسية مشكلة النمو التضخمي في القطاعات الخدمية، غير المرتبطة بالإنتاج، وهي ذات تأثير متناقض، وغير ملبية لحاجات الاستهلاك الاجتماعي لدى أغلبية السكان، علماً بان الفوائد عالية ومانعة عملياً للاستثمار طويل الأجل في العملية الاقتصادية الوطنية أساساً،دون أن تلبي الطلب العام إلا هامشياً ولشريحة ضيقة من الشعب.
■ كنا سابقاً نرى ارتفاعات الأسعار موسمية متقطعة متباعدة نسبياً، بينما صارت الآن مستمرة؟ أليس لذلك علاقة بهذا الخلل البنيوي الذي نشأ نتيجة السياسات الكلية؟ أي صار لدينا ارتفاع أسعار من نوع جديد؟!
أتفق معك حول جوهر الملاحظة، فالتركيز على القطاعات غير الإنتاجية، يؤدي إلى تجديد التضخم، فقد شهدنا تضخماً، ارتفاعات فائقة بالأسعار، وهذه الارتفاعات لا يمكن أن تستمر وإنما تتوقف ثم تتجدد ولكن فعلها عميق، بدأت المعطيات تتغير بالاستثمار الوافد من الدول العربية الخليجية، فمثلاً حصل مؤخراً هبوط نسبي في الإيجارات، وهذا سينعكس على أسعارها دون أن يعني زوال الظاهرة، فالارتفاعات في الأسعار التي حصلت عام 2007 عالية للغاية بحيث كان من المتوقع أن تنخفض قليلاً، لكن هذا لا يعني أن الأسعار بمجملها تنخفض، فهناك أسعار مازالت ترتفع، وأسعار أخرى لم تعد ترتفع حالياً، لكننا نبقى في وضعٍ تضخمي مقلق اقتصادياً واجتماعياً، إذا ارتفع مستوى الأسعار بشدة، وزادت الفجوة بين الأجور والأسعار اتساعاً، إن ضعف الاهتمام بالقطاع الإنتاجي والعجز عن توسيعه،وعن توفير العرض الكافي للسوق الوطنية، لا بد أن تؤدي إلى رفع الأسعار. فعندما بدأنا نصدر معظم إنتاجنا خارج سورية من الحاصلات الزراعية (كالثمار والخضار والفواكه) خارج البلاد وتحديداً إلى العراق لاستغلال الطلب على المنتجات في سوق سوداء غالباً لم يعد العرض في سوقنا المحلية كافياً، وهذا سهل على الوسطاء والمحتكرين أن يرفعوا الأسعار على حساب المنتجين الزراعيين والمستهلكين على السواء، نحن نتحدث عن سياسات وممارسات، ولم تكن ظاهرة عفوية.
■ أي أن ارتفاع الأسعار هو نتيجة للسياسات الكلية، ولا يكمن السبب في أن الرقابة ضعيفة على الأسواق بالمعنى الإداري؟
تتأثر بعض الأسعار بالمعطيات الدولية، وهذا يصح على السلع المستوردة كما يصح على السلع التي يتضاعف تصديرها وهناك أسعار تتأثر بعدم التدخل الفعال ،لردع الاحتكار أو رفع الأسعار بالسوق الداخلية. إن العجز عن التحكم في رفع الأسعار المحلية هي شيء من مضار السياسات تعطيل التدخل الاقتصادي للدولة، فلو رسمت الدولة السياسة التدخلية الفعالة منذ البداية وطبقتها لما حصلت هذه الارتفاعات الجنونية (كما حصل) لو توفرت للدولة السياسة التدخلية الفعالة منذ البداية، فكان لا بد من التدخل في السوق المحلية لزيادة العرض وردع المحتكرين، لا أعتقد أن الرقابة التموينية الإدارية هي سياسة فعالة، فالسياسة الفعالة تقوم على استخدام الأدوات الاقتصادية وليست الإدارية. إننا نعاني ضعفاً في الرؤية الإستراتيجية، بل غيابها كلياً. وتتجه السياسات الاقتصادية اتجاهاً ليبرالياً واضحاً،بينما نواجه توجها اختلالا في ما يخص النشاط الاستثماري والأداء الإنمائي بكل ما يعني هذا من ابتعاد أشد عن العدالة الاجتماعية. فماذا يعني تخفيض الضرائب بشدة على الأرباح، وزيادتها على أصحاب الدخل المحدود والطبقات الوسطى، المعركة الكبيرة حول دعم أسعار المحروقات، من يتضرر من زيادة الأسعار وما دلالة أنهم الأكثرية الكبيرة من المستهلكين وإنها قطاعات الإنتاج ومجمل النشاط الاقتصادي، وما هو تأثير زيادات أسعار البنزين على الطبقة الغنية هو (لا يستحق الذكر)، لكنه يرهق الطبقة الوسطى التي هي على الحافة، وإن لم ينهكها فما بالك بالنسبة للطبقة الفقيرة الكادحة، لذلك إنّ رفع الدعم مظهر من مظاهر الاختلال في السياسات الضريبية، حيث مازالت الضرائب المستحقة على أصحاب الدخول والثروات الكبيرة أقل مما تحدده حاجات المجتمع، ولإعادة توزيع الدخل. هناك مشكلة كبيرة في السياسات الاقتصادية الحالية، وهي ضعف وقلة الجباية والقصر الشديد في إعادة توزيع الدخول، إن لم يكن التراجع الكبير فيها.
• ارتفاع الأسعار سببه السياسات الاقتصادية.
• سوق الأسهم تحمل خطر الاستحواذ الدولي على أصولنا الانتاجية.
• السياسات الاقتصادية تنحاز لمصلحة الأغنياء.
■ حول الدعم، كان هناك مشروع لرفع سعر المازوت، ولكنه لم ينجح، فرفعوا سعر البنزين. والملفت للنظر أن حجم الواردات من فرق رفع سعر البنزين، ليس أكثر من 12 مليار ل.س سنوياً، وهو رقم متناه في الصغر بالنسبة لأحجام الدخل الوطني والموازنة. لماذا الإصرار على هكذا قضية مع أنها من الناحية المالية والاقتصادية ليست ذات أهمية كبيرة؟!
أعتقد أن القرار المتخذ هو التدرج في رفع الدعم، أي إلغاؤه، وقد (لا يلغى) بكامله بحيث ترتفع الأسعار الوطنية إلى الأسعار الدولية أو تقترب بشدة منها، ولكن الدعم سيلغى بمعظمه، وهذا الهدف الليبرالي لا يمكن بلوغه فورا واليوم، لكنه أمر مقرر وبقدر كبير مبرمج في الأجل القصير،و في هذا الوقت الذي لا تزيد فيه الأجور أو الإنتاجيات ولا تجبى الضرائب المشروعة والضرورية للتنمية على الأرباح.
■ ينتج من هنا أن الموقع الأساسي لزيادة موارد الخزينة هي جيوب الفقراء، مع أنه توجد موارد كبيرة هي جيوب الأغنياء وأرباحهم.
هذا صحيح، ويمكن القول إن السياسات الحالية تنحاز أكثر فأكثر لمصلحة الأغنياء، والمبررات متعددة وأولها الحاجة لتشجيع الاستثمار، ولكن لابد أن يشترط من كل استثمار أن يوفر وظائف عمل مستدامة وأن يضيف إنتاجاً جديدا مطلوبا لتحقيق التنمية وتلبية الطلب الوطني من السوق المحلية، وأن يعزز قدرات التصدير لابد من ربط التشجيع الاستثماري بما يحقق من تحسين في الإنتاجية، ومربوطا أيضا بما يمكن له أن يحقق من انعكاسات إيجابية على القطاعات الأخرى من خلال تحسين التكنولوجيا وتطويرها،
نجد أن هذه المسائل ضعيفة الحضور وضعيفة التحديد في السياسات الضريبية بعد إصلاحها وهي ضعيفة الحضور والتحديد في مرسوم الاستثمار،هذا المرسوم يتضمن عناصر إيجابية هامة لكنه لا يحقق هذه المتطلبات.
إنه ليس مكتملاً، إذ أنهم لا يصوغون موقفاً تدخليا من الدولة لردع الاستثمارات العقارية التضخمية، وتشجيع الاستثمار في القطاعات المحركة للنمو والموظفة للعمالة وإعطاء الأولوية لقطاعات والأنشطة المحركة للنمو، المحققة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعدالة.
■ في ظل هذه اللوحة ماذا يعني، وكيف سيكون تأثير إطلاق السوق المالية، سوق الأسهم أو البورصة السورية؟ هل ستكون أداة محفزة للنمو الاقتصادي؟ أم سيكون لها تأثير سلبي وستقوم بتجميع المدخرات باتجاه آخر؟!
يمكن النظر إلى هذه المسألة من زاويتين، أولاهما دور سوق الأسهم بصفة عامة، وثانيهما كيف تترجم هذه الفكرة في الحالة السورية؟ تظهر سوق الأسهم تاريخيا عندما تحتاج الشركات لأن تحصل على مصادر تمويل من خارج البنوك، من الأفراد والجماعات مباشرة،فضلا عن أنّ فئات كثيرة تريد السوق وتسارع لاستغلالها للمضاربة على الأسهم المدرجة فيها وجني الأرباح المضاعفة غير المستندة إلى واقع اقتصادي وغير المبررة للمضاربين الذين يتهافتون للحصول على أرباح دون أن يقوموا بجهود اقتصادية مثمرة، فالسوق المالية تستقطب أموالاً، وترتفع أسعار الأسهم فيها أكثر مما تستحق اقتصادياً. من هنا تأتي قضايا الفقاعات والانهيارات. والعناصر المطلوبة للسوق، أن يسود نشاط اقتصادي كبير وشركات كثيرة ومتنوعة الأنشطة. في سورية ليست لدينا إلا 380 شركة مساهمة حسب الإحصاءات الرسمية، وهذا عدد صغير، والدخول في السوق لا يكون قسرياً، فهناك توجه واضح لفرض الدخول في السوق على الشركات المساهمة. الهدف استقطاب الأموال، فهل نستطيع أن نستقطب الأموال في السوق؟! ما هي الشركات التي تستطيع أن تجذب رساميل؟! الشركات العقارية ستوصلنا إلى نتيجة معاكسة، أما الشركات المساهمة في الصناعة والزراعة فهي تساعد على استقطاب المدخرات واستخدامها كوقود محرك للتنمية.
■ إن السمة العامة للأسواق المالية وأسواق الأسهم بالعالم أن 90% من المبادلات التي تجري فيها هي مبادلات مضاربة مالية، وليست مضاربات لها علاقة بالإنتاج. هل يمكن أن نكون خارج قوس من هذا الطابع العام من الأسواق المالية في العالم؟!
لا يمكن طبعاً أن نبقى خارج (الفوضى المنظمة) بل السائبة لحركة رأس المال المضارب العالمية، لأن أول مبدأ من مبادئ السوق المالية أن تكون مفتوحة. ستغزونا صناديق الاستثمار على اختلاف منشئها، وهي صناديق تقوم بالاستثمار بالمضاربة، ولن تكون السوق فعالة في السنوات القادمة، ونحن لا نفعل شيئاً لمعالجة مشكلة التمويل المصرفي العقاري. والخطر الكبير هو خطر المضاربة وخطر الاستحواذ الخارجي والدولي تحديدا. تسهل السوق المالية وستحمل السوق المالية السورية مخاطر الاستحواذ الدولي لأموال إنتاجية سورية إذ ستدخلها شركات لن تكون فقط خليجية وإنما قد تكون أجنبية توجد على أصول سورية، وهذا يجب أن يوضع في الحسبان.
■ التجربة الماليزية بالأسواق المالية استطاعت أن تستفيد من الجانب الإيجابي بوضعها عوائق أمام المضاربة، وفرضت الضرائب على بيع وشراء الأسهم التي كانت تتم بشكل سريع. ألا يمكن الاستفادة من هذه التجربة ؟!
بالتأكيد، نحن بحاجة للاستفادة من تجارب الآخرين، ومن المؤكد أن الاستثمار السريع والمفاجئ، يعبر عن نشاط مضارب، ويناقض الواقع الاقتصادي، فهذا الواقع يتصف بالحركة البطيئة وليس السريعة، يتصف بحركة معتدلة وليس انقلابية في الأسعار، ونحن بحاجة لأن نضبط النشاط التداولي في السوق المالية وأن نخضعه بالأدوات التشريعية والقانونية والتنظيمية والرقابية والمتابعة والتدقيق المتواصل حتى نستطيع لا مراقبته فحسب(وهذه ضرورية ومشروعة معا) وإنما لتوجيهه نحو تعبئة المدخرات في التنمية وتعزيز التحديث العلمي والتعليمي والتكنولوجي والصناعي والاقتصادي.
■ الإجراء الأخير حول إعطاء الأجانب غير السوريين حق تملك عقارات وأراض في سورية، هل سيؤثر على الأسعار والعقارات أم أنه سيثبت الأمر الواقع؟
هو إجراء يختص بالمناطق الصناعية وهذا حتماً سيؤثر، سيساعد على نقل الأسعار المرتفعة في الخليج إلى سورية ولذلك سينعكس سلبا على المستثمرين الصناعيين السوريين والصغار والمتوسطين منهم أولاً.
■ كيف؟!
سيشتري الخليجيون الأراضي بأسعار أعلى مما يدفعها المواطن السوري قطعاً، لأن لديهم فائضاً كبيراً من الأموال، ولأنهم يراهنون عند شراء الأراضي على البيع بأسعار مضاربة.
■ اشترطَ الإجراء أن تدخل الأراضي في مشروع نشاط مبرر.
صحيح هذا سمح للمستثمرين الأجانب بالتملك العقاري لتحقيق مشاريع سياحية أو فندقية ومؤخرا في المناطق السياحية ، ولكن غالباً ما يكون هذا النشاط المبرر استثمارات عقارية، فالمشاريع العقارية التي قامت على أساس تمليك المستثمرين العرب الخليجيين وبعض المغتربين الأراضي، تجد أنهم يبحثون عن مناطق بعيدة عن المراكز الحضرية، عن أراض أسعارها منخفضة، لأنها تعني كلفة أقل في الاستثمار، لكنهم سرعان ما يرفعون الأسعار بشكل هائل في المنطقة التي يستثمرون فيها، ثم تنتقل هذه الأسعار المرتفعة إلى مناطق أبعد عن مواقع الاستثمار ويكون الضرر الأكثر على السكان المحليين والتجمعات المحلية ومجالس المدن المحلية.
■ هذا يعني وجود خطر أن الوزمة التضخمية التي سببتها الموجة الأولى من قدوم الأموال الخليجية، لشراء الأراضي والعقارات، يمكن أن تتعمق وتزداد، مع انعكاساتها السلبية بارتفاعات الأسعار؟
إذا واصلنا هذا التوجه الاستثماري، فإن الوزمة التضخمية ستتعمق. صحيح أن لها منافعَ، حيث أنك تعمر أرضاً بوراً أو غير معمورة. ولكن المثالب هي أنك كثيراً ما تحول أراضي زراعية إلى أراضي غير زراعية، وترفع أسعار العقارات، وتبعد مصادر التمويل عن القطاعات الإنتاجية، وهذه الأضرار واسعة تشمل العمالة والتضخم وزيادة الإنتاج، والميزان التجاري في نهاية الأمر من خلال رفع الاستهلاك والاستيراد، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن التجارب في البلدان الأخرى تدل على أن المراهنة على تدفق الاستثمار الخارجي خاسرة، لماذا؟ لأن التدفقات الاستثمارية تبدأ بالصعود (وببطء أولا)ً، ثم تصعد وبعدها تستقر بمستوى معين، ثم تبدأ بالانحدار بحيث تعجز عن تغطية التضخم المستمر في الاستيراد.
إن ميزاننا التجاري خاسر في الستة أشهر الأولى من هذا العام، إذا استبعدنا النفط، وهناك من يراهن على تغطية هذا العجز بتدفق الاستثمارات، لكن هذا التدفق يزيد إنما لا يدوم طويلاً.
■ صرح وزير الاقتصاد أنه مفوض للاستمرار بتحرير التجارة الخارجية. كيف يمكن أن نقرأ هذا التصريح في ظل التغيرات بموضوع تحرير التجارة الخارجية بالعالم؟، ففي أمريكا اللاتينية، قاموا بفرملة هذا التوجه، أي أننا وصلنا متأخرين، الوضع العالمي اليوم ليس كما كان قبل خمس سنوات، حيث فورة الأفكار لتحرير التجارة الخارجية. كيف نتكيف مع هذا الوضع؟!
لا أعتقد أن هناك تغيراً نوعياً في السياسات التجارية لأمريكا اللاتينية التي قامت بتحرير اقتصادياتها، وإنما تتغير وجهة الاستثمارات قطاعيا وتزيد كما تتركز على التشغيل والتطوير إضافة إلى بروز وعي متزايد بضرورة إعادة توزيع الدخول وهذا كله في مناخ الصراع الجاري بشأن تحرير التجارة بين الشمال والجنوب، ومع هذا فإن التوجه العام نحو التحرير التجاري مستمر.
لقد تحقق تحرير التجارة لدينا بشكل كبير، ولكن هناك مشكلة خرجت عن التحكم، إذ إننا لم نربط وتيرة التحرير التجاري بوتيرة التحسين والتطوير في الإنتاج والاستثمار، ورفع القدرة على المنافسة في السوق الوطنية والخارجية، لقد حررنا التجارة ولم نقوّ الصناعة، إن في القطاع الخاص أو في القطاع العام الصناعي، وتأثير هذا التحرير على الصناعة سلبي. فصناعة الملابس في سورية، وصناعة البرادات والثلاجات وصناعات عديدة أخرى أصابها الخراب نتيجة التحرير الجاري، ولكن ما هو الحل؟! الحل هو التفعيل الاستثماري، التفعيل الإنتاجي، رفع المنافسة، رفع الإنتاجية، فمثلاً لدينا وزارة للتكنولوجيا والاتصالات، والهيئة العليا لإدارة البحث العلمي، ولكن ليست لدينا لا إستراتيجية تكنولوجية ولا إستراتيجية صناعية ناهيك عن إستراتيجية لإعادة التأهيل الصناعي إن في القطاع الخاص أو في القطاع العام.
■ حول موضوع التعددية الاقتصادية، أين هي بعد كل هذه التطورات ؟! كيف يمكن أن تشق طريقها؟ وما مستقبلها؟!
إن التخلف الاقتصادي، وهذه حال سورية، يستلزم التعددية ويشترطها لتحقيق التنمية، إلى جانب تفعيل القطاعات الأخرى، وليس صحيحاً لا الاقتصار على دور الدولة الكلي، ولا إلغاؤه لصالح القطاع الخاص. وما يجري حالياً هو تحويل الاقتصاد بصورة متزايدة إلى الخصخصة، وإلى إدارة القطاع الخاص للعملية الاقتصادية برمتها، وتحجيم القطاع العام الصناعي وتجميده وتأجيره، وبالتالي فإن التعددية مهددة في سورية. نحن نرد على دعاة التنمية عن طريق اقتصاد السوق البحت، بالقول إن التنمية تحتاج إلى تدخل استراتيجي من الدولة على أساس التعددية الاقتصادية فهذه التعددية تعبئ الطاقات الاقتصادية في القطاعات المختلفة، والأمر الآخر هو كيف يمكن أن نعالج البطالة إذا لم تتوفر فرص عمل؟! كيف نوجد فرص العمل إذا لم تقم الدولة بالاستثمار إلى جانب القطاع الخاص ومعه في قطاع مشترك؟! والأمر نفسه ينطبق على توليد الدخول، وبالتالي على الحد من الفقر لا تتوافق إذاً التعددية مع الدعوة الصريحة التي أصبحت تتكرر لإحلال القطاع الخاص مكان الصدارة وسحب الدولة من الاقتصاد والنشاط الاقتصادي فهذه الدعوة نقيضه للتعددية التي تفترض تعدد الأطراف الاقتصادية، تعدد القوى الفاعلة الاقتصادية بما فيها القطاع الخاص.