الانخفاض المستمر لنسبة الموازنة الاستثمارية دليل على تراجع دور الدولة
استثمار الحكومة في الإنسان يعبر عنه بالموازنة الاستثمارية، حيث يتوقف تأثيرها الإيجابي المتوقع على حجمها المعتمد، ونسبة التنفيذ الحاصلة فيما بعد، لأنه الوحيد القادر على خلق فرص العمل وتوسيع الرعاية الاجتماعية (التعليم، الصحة، إلخ)، لذلك فإن تراجع هذا الاستثمار يعبر بشكل مباشر عن تراجع الدولة في أداء مهامها الاجتماعية والتنموية وتنفيذ دورها المناط بها، ولا يقل تحديد المجالات التي سيوجه إليها هذا الإنفاق أهمية من حجم الإنفاق المعتمد في الموازنة العامة.
التحديات تتطلب زيادة الاستثماري
المتابعة التحليلية لأرقام الموازنة العامة منذ العام 2007، تشير إلى تراجع الموازنة الاستثمارية، والتي تقدر في العام 2010 بـحوالي 327 مليار ليرة سورية أي 43% من إجمالي الموازنة، مقارنة بالإنفاق الجاري المقدر بـ327 مليار ليرة، أي 57% من إجمالي الموازنة العامة، وهنا أكد د. حيان سلمان أن الإنفاق الاستثماري يعبر بشكل مباشر عن تدخل الدولة، لذلك يجب أن يحظى بالحصة الأكبر، بدلاً من التراجع الحالي في نسبته منذ أربع سنوات، ولاسيما بعد فشل الليبرالية الاقتصادية، واقتصاد السوق، ونتائجه الكارثية التي تتجلى بالأزمة المالية والغذائية العالمية، لكنه أشار إلى أن الإنفاق الجاري بالقيمة المطلقة يزداد على الرغم من كونه يتراجع بالقيمة النسبية، موضحاً أن حل هذا الإشكال وخصوصاً أمام التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها سورية، يتطلب زيادة حجم الموازنة العامة إلى 1000 مليار ليرة سورية بدلاً من 754 مليار ليرة سورية، وأن يكون أكثر من 50% موجهاً نحو الإنفاق الاستثماري، فالموازنة العامة لا تزال أقل من 30% من الناتج نسبة المحلي الإجمالي، بينما تبلغ في دول متعددة أكثر من 40% وتصل في هولندا إلى /60%/، وأوضح د. حيان أن زيادة فعالية الإنفاق الاستثماري يعتمد بالدرجة الأولى على إدارته بالشكل الصحيح، فبدلاً من التوجه نحو الاستثمار العقاري والخدمي يمكن عند إذن توجيهها نحو قطاعات الإنتاج، وبشكل أساسي في الزراعة والصناعة، وإعطاء التعليم والبحث العلمي الأهمية المناسبة، وهذا يعني أن الإنفاق الاستثماري موجه لتأمين متطلبات الإنتاج (السلع الترسملية)، أي القدرة على إنتاج وسائل الإنتاج، أي أن يتم توجيه القسم الأكبر من الاستثمارات نحو زيادة الطاقة الإنتاجية لاستغلال الطاقات المتاحة عبر شراء وسائل الإنتاج بدلاً من توجيه هذا الإنفاق الاستثماري لشراء الأراضي والآلات والسيارات.
لكن د. نزار العبد الله اعتبر أن الانخفاض المستمر في الإنفاق الاستثماري مقارنة بالجاري يعبر عن سياسة الفريق الاقتصادي الذي يريد تراجع الاستثمارات الحكومية والقطاع العام تحت ذريعة أن القطاع الخاص سيستفيد، لكن القطاع الخاص في الواقع لا يستثمر بشكل فعلي، ولذلك يجب على الدولة أن تؤمن احتياطياً، أي إذا لم يقم القطاع الخاص بهذه الاستثمارات ينبغي على الدولة أن تقوم بها، فمنذ 40 عاماً تتوقع الدولة في خططها أن يتولى القطاع الخاص قطاع البناء والإسكان، وبالتالي سيتراجع استثمارها في هذا المجال، لكن القطاع الخاص تخلله قصور، ولم يستثمر بالشكل الكافي، لذلك هناك أزمة خانقة بقطاع البناء. أيضاً وفي مجال الصناعة، في الخطة الخمسية العاشرة، توقعوا دخول استثمارات أجنبية كبيرة، لكنها لم تأت، والتي كانت ذريعة للحد من حجم الاستثمارات العامة للدولة لعدم استثمار الدولة أملاً بقدوم الاستثمار الخاص الذي لا يزال صغيراً وغير كاف، وهذا أدى إلى تفاقم مشكلة البطالة وانخفاض معدل النمو.
تراجع الإنفاق الاستثماري مقصود
من الملاحظ، أنه وعلى الرغم من انخفاض الجانب الاستثماري مقارنة بالجاري إلا أن الشق الاستثماري لا ينفذ بأكمله، بل إن نسبة التنفيذ في كثير من الأحيان لا تتجاوز 75% وهنا أشار د. نزار أن هذا التراجع مقصود، وموجود على امتداد السنوات الماضية، وذلك من خلال وضع عقبات أمام التنفيذ، فمثلاً، تضع الموازنة العامة في خطتها تأمين 60 ألف فرصة عمل، ولكنها تتناسى أن 250 ألف طالب عمل يدخلون السوق سنوياً، بحجة أن القطاع الخاص بقواه الخلاقة الذاتية سيستوعبهم، ولكن هذا لا يتم، فما هو مصير هؤلاء؟! ولماذا لا تتصرف الدولة في هذه الحالة؟! فالبطالة اليوم، وبسبب هذا التقاعس تقدر بحوالي /50%/ من القادرين على العمل، ومستوى الأجور متدن جداً مما يخفض إنتاجية العمل، وكذلك معدل التنمية الاقتصادية، وهذه سياسة خاطئة، لأن نصائح المؤسسات الدولية لنا بالإبقاء على الرواتب منخفضة كميزة نسبية اقتصادية غير صحيح، فالاستثمارات الأجنبية تتجه إلى البلدان الصناعية بحثاً عن الأرباح، وليس بحثاً عن تكلفة الإنتاج المنخفضة، فقدرة العامل لدينا على العمل متدنية وحافزه أيضاً كذلك لأن راتبه متدن.
وذكر د. نزار العبد الله أن الحكومة تتوجه إلى الاستثمار في القطاعين العقاري والسياحي، وهذا ينجم عنه تجميد التنمية الاقتصادية، فالسياحة لكي تكون رابحة يجب أن يكون هناك إنتاج محلي زراعي وصناعي وخدمات متطورة، لكن خدمات البنية التحتية والفوقية لدينا سيئة، لذلك يجب ألا تسمح الدولة للقطاع الخاص بدخول القطاع العقاري، بل يجب توجيهه للزراعة والصناعة، فالدولة بهذه السياسة تقف ضد القطاع العام والقطاع الخاص، فنحن لا نمتلك قطاعاً خاصاً مبدعاً ومغامراً، والتي تتجسد في دخول القطاع الخاص مجال الصناعة والزراعة واقتصاد المعرفة. فعندما تكون العقارات المتاحة /20%/ مقارنة بالطلب ترتفع أسعار العقارات سواءً المباني أو الأراضي، والمستثمر في هذه الحالة يربح لكن البلد لا يربح شيئاً، وهذا نمو وهمي.
ويضيف عبد الله: يفترض بالدولة أن تطور قطاع النقل، ولكنها عرضت على القطاع الخاص المحلي والأجنبي فتح طرق دولية الذي يتقاضى بدوره رسوم على العبور، وهذه لو تمت لكانت تشكل كارثة بيئية واقتصادية، بينما الحل أن تنشئ الدولة شبكة من الخطوط السريعة، فعندما يطلب صندوق البنك الدولي من الحكومة عدم التدخل سيتراجع دورها وستصبح في هذه الحالة مجرد متفرج، ونكون بذلك عدنا إلى رأسمالية القرن التاسع عشر.
بالتطور الصناعي في الدول الأوربية احتلت ثلاثة أرباع العالم لكي تؤمن الأسواق والمواد الخام، بينما نحن لا نبذل أي جهد لفتح أسواق لشركاتنا، ونحن أسرعنا بإلغاء الجمارك قبل أن نكون جاهزين للمنافسة، والدليل هو أن الكثير من شركاتنا في القطاع الخاص تحولت من منتج إلى تاجر.
من جانبه اظهر د. حيان سلمان أن جانب الإنفاق الاستثماري في الموازنة لا يتم تنفيذه بشكل كامل على الرغم من تواضعه، وهذا يعود إلى عدة عوامل أهمها: آلية الإعلان عن شراء الآلات وخاصة في القطاع العام، والإجراءات الروتينية الموافقة لذلك، موضحاً أن الجزء الاستثماري غير المنفذ يبقى ضمن الاعتمادات ولا يرحل إلى الإنفاق الجاري، ويتم تدويره للعام القادم ضمن إطار الموازنة، لأن الموازنة تقر سابقاً.
الاستثمار العامل الحقيقي للتنمية المستدامة
ويعتبر الاستثمار العامل الحقيقي للتنمية المستدامة والمستمرة، والتي تستثمر الموارد الطبيعية المتاحة في البلد بشكل عقلاني ولا نهائي، وهنا أشار د.نزار العبد الله إلى أن هذه الاستدامة أهم عامل في التنمية، والعامل الرئيسي لهذه الاستمرارية هو الاستثمار في البحث العلمي والتعليمي، فالتعليم سابقاً كان مجاناً، أما اليوم فهناك كثيرون غير قادرين على متابعة تعليمهم لارتفاع التكلفة، ولا يوجد ربط بين التعليم والسياسة الاقتصادية، يجب دراسة حاجة الاقتصاد وتخريج كوادر وفق هذه الحاجة فتكلفة البحث العلمي في الدول الصناعية /2 ـ 2.5%/ من الدخل القومي بينما نحن ميزانيتنا لا شيء ولا نمتلك هذه الميزة.
وأوضح د. سلمان أن الاستثمار العامل الحقيقي للتنمية، ونتائج الاستثمار تظهر بشكل واضح من خلال استغلال الموارد المتاحة وزيادة الإنتاج وتشغيل اليد العاملة، ولكن شرط أن يتم توجيه هذه الاستثمارات بالوجهة الصحيحة، أي توجيهه إلى قطاعات الإنتاج وإلى الزراعة والصناعة بشكل أساسي، حتى أن الدراسات الاقتصادية أكدت - من خلال تحليل وقائع وتاريخ تطور الدول السبع الصناعية - أن هذه الدول حققت نموها بعد أن توفر لديها فيض إنتاجي زراعي كبير، وهنا تحكمت بالمعادلة التنموية، أي أن مخرجات الزراعة أضحت مدخلات للصناعة ومخرجات الصناعة مدخلات للزراعة.
الأهم هو توسيع استثمارات الدولة... فلماذا التراجع؟!
إن انخفاض حجم الموازنة الاستثمارية الذي يجري اليوم يفرض بشكل منطقي تراجع النمو اللاحق، الذي يعبر عنه الاستثمار الحالي، وقد أكد د. نزار أن هذا التراجع أمر طبيعي لأن النمو الاقتصادي مرتبط بالاستثمار، فالاستثمارات تعد أهم عامل من عوامل النمو، لذلك يجب توجيه القطاع الخاص للاستثمارات الضرورية، لكن الأهم هو توسيع استثمارات الدولة،
فالزراعة خسرت حوالي 100 ألف هكتار من الأراضي الزراعية خلال الخطة الخمسية العاشرة، كما أنها ستخسر 100 ألف هكتار أخرى في الخطة القادمة، وذلك لضعف الاستثمار في المنطقة الشرقية في السنوات الماضية والزراعة تحديداً، لذلك يجب البحث عن موارد للتنمية من فوائض الميزانيات سابقاً، وأموال النقابات المختلفة، والتأمينات الاجتماعية مجمدة، ومن المفترض أيضاً تجيير النظام الضريبي الحالي لأنه غير عقلاني.
أما د. حيان فإنه أشار إلى أن النمو مرتبط ارتباطاً مباشراً بالكفاءة الاقتصادية، وأقصد بها الجمع الأمثل لعناصر العملية الإنتاجية وفي مقدمتها عامل التنظيم والتقنية، وهذان العاملان يتناسبان طرداً مع زيادة الإنفاق الاستثماري فيهما، أي باستخدام تقنية متطورة ومخرجات تعليمية متطورة، وبالتالي لا تنمية دون استثمار، وبالمنطق نفسه لا استثمار دون تنمية، وعبر الاقتصاديون عن هذه المعادلة باسم الحلقة المفرغة، أي أن الاستثماري متدن، وأنا أطلق عليها اسم الحلقة الشيطانية، لأنها تؤكد عوامل قوتها من ذاتها، كذلك لابد من اختراق وكسر هذه الحلقة، وذلك من خلال زيادة (الجرعة الاستثمارية) وتوجيهها في الوجهة الصحيحة، وكل دول العالم حققت معدلات نمو مرتفعة عندما وجهت استماراتها بكمية مناسبة ونوعية ملائمة.
التنمية يجب أن تنعكس على المواطن
و نوه د. حيان سلمان عند سؤاله عن مستقبل فرص العمل، وتوسيع الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، إذا ما استمر التراجع الدراماتيكي للإنفاق الاستثماري على هذا الشكل، إلى أن الاستثمارات يجب أن توزع لتطوير الموارد المادية والمالية، وأن تنعكس على المواطن بشكل مباشر، وهذا ما عبر عنه السيد الرئيس بشار الأسد عندما أشار إلى أن معدلات النمو الاقتصادي لم تنعكس على المواطن، ولكي يحدث الانعكاس يجب أن يكون معدل النمو يعادل على الأقل ثلاثة أمثال معدل النمو السكاني، وإذا اعتبرنا أن معدل النمو السكاني 2.5%، فهذا يعني أن معدل النمو يجب أن لا يقل عن 8 ـ 9%، ومع زيادة معدل النمو الاقتصادي يزداد الناتج المحلي، الذي يجب أن يتوزع على جميع شرائح المجتمع، مما يكفل ويتضمن زيادة الموازنة التعليمية والصحة وغيرها من الموازنات الأخرى.
الفقراء يتحملون تراجع الإيرادات
إيرادات الدولة تراجعت بعد الإعفاءات الجمركية للبضائع، وتخفيض التصاعد الضريبي للأغنياء ولإعفاءات أخرى فمن الذي سيقوم بتغطيتها إذاً؟! بالطبع هو الفقير والمواطن السوري من ذوي الدخل المحدود والمتوسط!! و الدولة في هذه الحالة باتت عاجزة عن القيام بمشاريع استثمارية حتى لو رغبت بذلك، لأنها لم تعد تمتلك الموارد، فالإيرادات الضريبية حتى في الدول الصناعية تصل إلى 8%، وسابقاً مع وجود الاتحاد السوفياتي كانت الضريبة الأهم في هذه الدول هي الضريبة على الأرباح، ولكن بعد الانهيار تم رفع الأهمية بالنسبة لضريبة القيمة المضافة التي تفرضها أمريكا وأوربا لأنها تحمل الفقراء نفس سوية الضريبة المفروضة على الأغنياء بدلاً من ضريبة الأرباح المتبعة في عقد الثمانينيات.
نحن بحاجة لدولة قوية قادرة على تأمين فرص عمل وبنية تحتية متطورة، فالبضائع الهندية والصينية قادرة على غزو أسواقنا لأن تكلفة الإنتاج لدينا أكبر من الإنتاج في هذه الدول، وذلك لأن رأس المال المستثمر في القطاع الخاص صغير مقارنة بالشركات الأجنبية، وهذا يؤدي إلى تدمير الاقتصاد من زراعة وصناعة، فالهجرة من منطقة الجزيرة خلال السنوات القليلة الماضية كان أحد أهم أسبابها ضعف الاستثمارات في هذه المنطقة، فكيف تخلو كل المناطق الحدودية من مشاريع استثمارية للقطاع العام.