د. قدري جميل في محاضرة «الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور- الآفاق- الانعكاسات».. 1-2

الأزمة اقتصادية اجتماعية سياسية.. وهي سائرة إلى مزيد من التفاقم 

«التاريخ لا يعيد نفسه.. قد يحمل في مسيرته بعض العناصر التي جرت في الماضي، ولكنه دائماً يقدم لنا إضافات جديدة ووقائع جديدة، ولذلك لا نستطيع القول إن هناك سابقة فيما يخص الأزمة العالمية، ولا نستطيع القول في الوقت نفسه إنه يجب عدم القياس على الأزمات السابقة. حتماً هناك عناصر في الأزمات السابقة موجودة في الأزمة الحالية، ولكن ليست كل مجريات الأزمة السابقة ستتكرر في الأزمة الحالية».. بهذه الكلمات استهل د. قدري جميل محاضرته عن «الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور- الآفاق- الانعكاسات» في المنتدى الاجتماعي بدمشق يوم الاثنين 26/1/2009.

انتهاء زمن المكابرة: الأزمة حقيقة

د. جميل استعرض بعض تصريحات مسؤولي ومنظري الرأسمالية، قبل الشروع في شرح الأزمة.. فأورد ما قاله بوش عن «أن الاقتصاد الأمريكي كله في خطر».. لاغياً كلاماً سابقاً: «أنا لا أفهم بالاقتصاد لكن الاقتصاد الأمريكي بخير»، وساركوزي: الذي أكد على «سقوط نظرية الرأسمال الحر، -الليبرالية الجديدة» وهو الذي وصل إلى السلطة على أساس ليبرالي حر، ووزير المالية الألماني الحالي: «على أمريكا أن تقتنع أنها لم تعد القوة الاقتصادية العظمى، وهذا الكلام أكده أوباما بخطاب التنصيب حينما قال: يجب الاعتراف بتراجع الدور الأمريكي»، و ميركل: التي أكدت على «سقوط شعار: دعه يعمل.. دعه يمر»..

يقول د. جميل: «هؤلاء ليسوا تشومسكي ولا لينين.. هؤلاء آباء وأمهات الليبرالية الجديدة.. ومادام هؤلاء يتحدثون هكذا فمن الضروري أن نفهم عمق المشكلة.

وأود أن ألفت نظركم إلى أن الإعلام الغربي لا يعترف أبداً بحجم الأزمة، وهو دائماً متأخر في هذا، فعند بدء الأزمة كان هناك عدم اعتراف كلي بها، كان ينكر ويكابر.. وحين اضطر أن يعترف بالأزمة ولكنه رآها عابرة بسيطة وعندما كبرت قال: أزمة مالية كبيرة.. ولكن الأزمة صارت اقتصادية.. هم دائماً يكذبون، ويقولون اليوم أن 2009 هو أسوأ مراحل الأزمة وأنها ستنتهي بانتهائه، برأيي لا 2008 ولا 2010 سيحلان الموضوع. 

الأسباب العميقة.. والأسباب الثانوية

يجب أن نعرف الأسباب الحقيقية للأزمة ونفصل بين الأسباب العميقة الأساسية والثانوية المباشرة.. يلعب الإعلام لعبته فيقدم لنا الأسباب المباشرة على أساس أنها الأسباب الوحيدة، ولكنها في الحقيقة هي الظاهرية التي تظهر على السطح، ويجري إخفاء الأسباب العميقة، فأين هي الأسباب العميقة للأزمة؟ علينا الذهاب إلى أزمة عام 1929، حيث كانت تسمى بالأدب العلمي أزمة دورية، «فيض الإنتاج» بالمعنى الكلاسيكي. من حيث الفترة الزمنية استمرت هذه الأزمة من 29 ـ 39، وبدأت تحل مع بداية الحرب العالمية الثانية، وبنهاية الحرب انتعشت أمريكا وصارت قوة عظمى بكل المعاني الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية. هي أزمة خطيرة لأن العامل الجديد الذي حدثت فيه هو أنها كانت أول أزمة تحدث بوجود نظام نقيض اسمه النظام الاشتراكي، وهو النظام الذي ظهر على أثر ثورة أكتوبر عام 1917 ولأول مرة في التاريخ قدّم مكاسب اجتماعية كبيرة لم يكن الغرب يعرفها.. كالإجازة السنوية مدفوعة الأجر، وعدد ساعات العمل، والتأمينات الاجتماعية.. في الثلاثينيات، الرئيس «الديمقراطي» رزفلت اتهم بالشيوعية من غلاة المتطرفين الرجعيين في أمريكا لأنه أدخل هذه الإصلاحات التجميلية إلى النظام الرأسمالي، في حين أنه كان يحاول إنقاذ الرأسمالية. لذلك كان الاستنتاج الرئيسي بالنسبة لأولي الأمر في النظام الرأسمالي أنه (يجب ألا تتكرر أزمة بهذا الشكل) لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى انهيار شامل لوجود بديل على النطاق العالمي، وكان المخرج الذي وجدوه لذلك هو ابتداع المجمع الصناعي العسكري. 

مزيد من السلاح

ما جوهر الأزمة الدورية؟ هو ما يسمى فيض الإنتاج. الرأسمالية غير قادرة على ضبط الإنتاج بين العرض والطلب. هذه العملية تتم بشكل فوضوي.. كانت أزمة الـ29 تعني إلقاء البن في البحر، وحرق البرتقال وإتلاف المنتوجات حتى لا تهبط الأسعار..

ما الحل حتى لا يؤدي هذا المرض الوظيفي في الرأسمالية إلى هزة؟ الحل هو مزيد من إنتاج السلاح.

يتحول فيض الإنتاج إلى إنتاج السلاح، وهذا كان بداية انطلاق المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الذي حذر منه أيزنهاور في خطبة الوداع.. لكن خلال 20 السنة السابقة كل حكام أمريكا ندبتهم الشركات المرتبطة بالمجمع الصناعي العسكري إلى البيت الأبيض.. وما إن ينهوا مهماتهم يعودوا إلى وظائفهم. لقد تحولت صناعة السلاح بالنسبة للولايات المتحدة وللنظام الرأسمالي إلى صناعة رابحة جداً، وإلى أداة سياسية هامة لفرض السيطرة خارج الحدود.

بريتن وودز 1944

حتى أربعينات القرن الماضي كانت كل عملة تغطي نفسها بالذهب، وحين بدأت نتائج الحرب العالمية الثانية تتوضح للعيان، اجتمعت البلدان الرأسمالية الأساسية عام 1944 واتفقت أن تغطي كل واحدة منها عملتها بالدولار والذهب، أي منح الدولار وضع الذهب دون إعفائه من تغطية نفسه بالذهب، ولكن الدولار بدأ يلعب دورين؛ دور العملة المحلية لأمريكا، ودور عملة عالمية.

وهكذا ولدت بريتن وودز وكانت نقلة خطيرة جداً، إذ بدأت منذ ذلك الحين «الزوغلة» الأمريكية، والاحتيال الأمريكي على العالم كله بإصدار نقد لا قيمة فعلية له، نقد غير مغطى بالذهب.. هذا معناه يصدرون 100 دولار ورقية كلفتها 4 سنت وبها يأتون بـ30 برميل نفط (على أساس سعر البرميل آنذاك) بتكلفة 4 سنتات فقط.

هكذا تمت أكبر عملية نهب في التاريخ لم يشهد لها أحد مثيلاً. ماركس كان يقول في كتاب رأس المال إنه إذا وصل الرأسمال إلى الربح 300% فليس هناك جريمة لن يتوانى عن ارتكابها، لكن ماركس لم يكن يحلم بأن 4 سنتات ستأتي بـ100 دولار أي 250 ألف بالمئة.

شعر ديغول عام 1967 بهذه الإجراءات فكلفه ذلك غالياً، حيث جمّع كل الدولارات الأمريكية الموجودة في المصارف الفرنسية وحملها إلى الأمريكيين، وقال لهم: أعطوني ذهباً مقابل هذه الدولارات. اضطروا أن يعطوه 200 طن من الذهب، لكن مقابل ذلك اتخذوا إجراءين بسيطين؛ أول إجراء أزاحوا ديغول، والثاني ألغوا ارتباط الذهب بالدولار 1971. ومنذ ذلك الحين وآلة الطباعة الأمريكية مرتاحة، لأن هذا الدولار أصبح محمياً بفضل عاملين؛ القوة السابقة الأمريكية التي فرضت تسعير جميع المواد الخام في العالم بالدولار وصار عملة عالمية، وبفضل وجود قوة عسكرية تحميه وقت اللزوم.

وصلنا إلى وضع فريد من نوعه، في السابق كان الفائض بالإنتاج الرأسمالي هو بضائع، أما الفائض الجديد فهو سلاح ومال، وفي ذلك تجل لعلاقة ديالكتيكية حيث يحمي فائض السلاح وضع الدولار عالمياً، ويقوم فائض المال بالصرف على السلاح..

من أين يصرف الأمريكيون على 1000 قاعدة عسكرية في العالم؟ من هذه الدولارات التي يطبعونها ويرمونها في البلدان الأخرى. يتبين اليوم أن الاقتصاد الأمريكي، البالغ حجمه 13 تريليون دولار والذي يعادل تقريباً 20% من الاقتصاد العالمي، مغطى بإنتاج سلعي حقيقي بحدود 18% زراعة وصناعة. أما الباقي فهو ريع القوة العسكرية وريع الدولار الاحتيالي. 

بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية

سأطرح قضية اختصاصية، ما هي العلاقة بين كتلة النقد في التداول وبين السلع الموجودة في التداول؟! كلكم تعرفون، حتى الذي ليس له علاقة بالاقتصاد أنه إذا زادت كتلة النقد عن كتلة السلع يسمى الأمر تضخماً، أي أن قيمة العملة تنخفض بينما ترتفع الأسعار، ما يعني تأثر أصحاب الدخل المحدود في حين يربح أصحاب الأسعار أضعافاً. هذا يحسب على نطاق كل بلد على حدة.. ولكن كيف يحسب على النطاق العالمي؟

رغم اختلاف الآراء، يقولون إن حجم الإنتاج العالمي بالحد الأدنى هو 40 تريليون دولار، وبالحد الأعلى 60 تريليون.

ما حجم كتلة النقد التي يجب أن تخدمه؟ يجب ألا تكون أكثر من حجمه، هذا إذا اعتبرنا أن العملة تخدّم البضاعة مرةً واحدةً في السنة، ولكن الأمر أكثر من هذا، هذا يعني أنه يجب أن يكون هناك 60 تريليون دولار من كتلة النقد، وسأعتبر أن نصف العالم يتبادل إنتاجه بالدولار.. لكن الحد الأدنى المتداول من كتلة الدولار الذي يتحدث به أكبر المتفائلين هو 600 تريليون دولار، وهناك من يقول أنه وصل إلى 1000 تريليون. وهذا يعني أنه إذا كانت الكتلة السلعية 60 والكتلة الدولارية 1000 كيف يحلون الموضوع؟ ببساطة لقد ساعدتهم الظروف مع سقوط الاتحاد السوفييتي، إذ توفر لهم مساحات واسعة من النهب، حيث نهبوا تريليونات من الدولارات من الثروات المادية، واستطاعوا تسليع جزء من الكتلة النقدية، لكن نهب الاتحاد السوفييتي لم يكفهم سوى إلى عام 1995 حيث قاموا بقلب نظام البورصة جذرياً، فقد كان 90% من مبادلات نظام البورصة حتى 1995 هي مبادلات حقيقية و10% فقط مضاربات، فحولوه منذ 1995 إلى 10% مبادلات حقيقية مقابل 90% مضاربات. أي لعبت البورصة دور نظام تدوير للعملة يمكنها من إخفاء الحجم الحقيقي لتداول الدولار الوهمي في النظام المالي العالمي والذي يقدر بـ450 تريليون دولار يدور في البورصة العالمية سنوياً.

أحس الأمريكيون عام 2000 بأن المسألة باتت أكبر مما يمكن التحكم به، وبما أنه لا يمكن إيقاف آلات الطباعة عن طباعة الدولار وبما أن نهب الاتحاد السوفييتي وتسخير البورصة كوسيلة للتضليل المالي لم يكفيا لكبح الأزمة، وجدوا أن الحل يتجسد بالحرب والسيطرة على موارد الطاقة. وكانت الخطة الاستراتيجية الأمريكية حتى 2008 السيطرة على موارد الطاقة في منطقتنا، وهذه السيطرة بمعنى الامتلاك وليس بمعنى الشراكة. 

المخاوف الكبرى

وقبل الانتقال إلى الأسباب المباشرة للأزمة لابد من طرح السؤال التالي: ماذا يعني انتهاء الدولار كعملة عالمية بالنسبة للأمريكيين؟! إذا كان حجم الناتج الإجمالي المحلي 13 تريليون دولار و18 % منه حقيقي، والسبب فيه هو أن الدولار عملة عالمية ويحصل على ريع جراء ذلك، فإن ذلك يعني بالملموس أن انتهاء الدولار كعملة عالمية سيؤدي إلى خفض الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي إلى 3 تريليون دولار أو أقل من ذلك. وإذا أصبح حجم الناتج المحلي الأمريكي 3 تريليون ما الذي سيحدث في الوضع الداخلي الأمريكي؟! وما الذي سيصيب الدور الأمريكي على الصعيد العالمي؟! كيف سيقوم الأمريكيون بتلبية احتياجات القواعد العسكرية المنتشرة حول العالم؟! ما الذي سيصيب الدور الاقتصادي السياسي الأمريكي؟! كلها أسئلة غاية في الجدية، فهل سيقبل الأمريكيون طواعيةً كما يطلب ساركوزي وميركل ومن لف لفهم، بالتخلي عن دورهم العالمي وعن الدولار كعملة تبادل عالمية وحيدة؟! هذا يعني أن الحديث يجري حول خسارة 10 آلاف تريليون دولار سنوياً أو عدم خسارتها. 

الأسباب المباشرة للأزمة

أي الثانوية من حيث الجوهر، قدم لنا الإعلام أن أهمها كان أزمة الرهن العقاري. من حيث الجوهر يقدر حجم كل العقارات في أمريكا منذ نشوئها وحتى اللحظة بـ 50 تريليون دولار، قام غرينسبان (مدير المركز الاحتياطي الفدرالي آنذاك) بفتح الباب أمام البنوك لإعطاء القروض بتسهيلات كبيرة ودون ضمانات، وكانت القروض بحجم 150 تريليون دولار، لكن لماذا؟ هل كان ذلك مصادفة؟ أم أن غريسبان، مدير المصرف الاحتياطي الفدرالي السابق، يعلم كمية النقود المطبوعة، ويعلم أن الكتلة الدولارية الفائضة معرضة للانكشاف ما لم يتم ضخها في السوق الداخلية الأمريكية ريثما تتم تغطيتها لاحقاً من موارد النفط الذي سيتم الاستيلاء عليه عسكرياً؟! لقد اضطر غرينسبان أمام لجنة التحقيق في الكونغرس أن يقول "كان هناك خطأ في المنظومة" لكن الأمر ليس خطأً في المنظومة، بل هو لعبة ملعوبة ومقصودة لكن حساباتها لم تصب كما كان متوقعاً ومطلوباً. 

آلة الطباعة.. والإدمان.. والحرب!!

إذاً، أزمة الرهن العقاري مع عدم قدرة الأمريكيين على حماية الدولار قامت بتحفيز انفجار الأزمة لكنها ليست سبب الانفجار، ويضاف إلى الأسباب المباشرة كلفة حرب العراق، فحسب جوزيف ستيغلس إن كلفة حرب العراق حتى الآن هي 3 تريليون دولار أضيفت إلى الدين العام، وبرأي الخزانة الأمريكية منذ بداية عام 2000 إن الدين العام الأمريكي سيبلغ حجمه في آذار من 2008 8.4 تريليون دولار، وبرأيها أيضاً أن هذا الحجم لا يمكن خدمته، وبالتالي ستنفجر الفقاعة التي خلفها تضخم حجم الكتلة الدولارية إلى 600 تريليون حول العالم، كان رأي الخزينة أن الأزمة ستنفجر في آذار من 2008 لكنها انفجرت في أيلول 2008 وليس على النسبة المتوقعة نفسها بل على نسبة 10 تريليون دولار، وهي اليوم 13 تريليون دولار! لأن هذا الضخ للأموال في المصارف والمؤسسات المالية زاد في الدين العام بشكل هائل جداً، فالحكومة الأمريكية تقوم بطبع أموال وتضخها في شرايين هذه المؤسسات، وهذه الأسباب المباشرة هي أسباب ثانوية ظاهرية وهي تعبير عن الأزمة الأساسية، أي عن وجود كتلة نقدية كبيرة أصبح الأمريكيون غير قادرين على حمايتها بالأصل. والآن السؤال هو لماذا لم يعد الأمريكيون قادرين على حماية هذه الكتلة النقدية اليوم؟ ببساطة كان الأمريكيون يحمون دورهم  سابقاً عبر غزو مناطق جديدة دولارياً، فحين سقط الاتحاد السوفييتي قاموا بغزوه دولارياً وكذلك جنوب شرق آسيا والصين.. الخ، لكن العالم امتلأ بالدولار ولم يعد هناك مناطق قابلة للغزو دولارياً، وفي الوقت نفسه ما تزال آلة الطباعة تعمل بالسرعة السابقة نفسها بسبب الإدمان، بل إن الأمور أصعب من هذا فبعد تغطية العالم دولارياً ظهر اليورو في بداية 2002 ليطرد الدولار من أهم المساحات التي كان يسودها في عمليات التبادل، وتبع ذلك وقوف الروبل الروسي على قدميه ليطرد الدولار من مساحة أخرى هامة، تلاه وقوف اليوان الصيني والأمر نفسه، وبذلك لم يتوقف انتشار الدولار جغرافياً، بل بدأ الدولار عملية انكفاء وانحسار جغرافي على الصعيد العالمي. 

■ نتابع نشر الجزء الثاني من الندوة في العدد القادم

آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين2/نوفمبر 2016 22:36