الثلاثاء الاقتصادي في آخر متابعاته للأزمة العالمية.. د. إبراهيم: اعتمد مصطلح «اقتصاد السوق» لحماية الرأسمالية من ماضيها المشين د. هيلان: التدخل الحكومي لحل الأزمة مخالف لمبادئ الليبرالية الجديدة
أنهت جمعية العلوم الاقتصادية السورية سلسلة متابعاتها الخاصة لتداعيات الأزمة العالمية الراهنة بندوة حملت عنواناً إشكالياً «الأزمة الاقتصادية الراهنة.. بين الاقتصاد المغلق والاقتصاد المفتوح»، وتصدى لهذا العنوان كل من الباحثين د. غسان إبراهيم ود. رزق الله هيلان. وقد ترأس الندوة الدكتور نبيل مرزوق الذي أوضح بداية أن الاقتصاد المغلق هو حالة نظرية تامة لأنه عملياً لا يمكن وجود اقتصاد مغلق يحقق اكتفاءً ذاتياً.
الاقتصاد المغلق
بعد ذلك بدأ د. غسان إبراهيم إلقاء محاضرته مفضلاً قراءة ورقة بحثه، فابتدأ بتسليط الضوء على تاريخ الأزمات الرأسمالية التي كان ينظر إليها على أنها «ظاهرة عابرة ومؤقتة بينما غدت الأزمة اليوم عملياً تعبيراً عن ملامح مستقرة للتطور الدوري في النظام الرأسمالي»، ويرى د. إبراهيم أن الأزمات الاقتصادية تشغل «مكانة متميزة في الاقتصاد السياسي للرأسمالية، ولا يمكن فهم الكثير من ملامح الرأسمالية دون التركيز على الطابع الدوري لتطور الإنتاج الرأسمالي (..). وإذا كان من الصحيح تحديد المسار اللاحق للتطور يقابله ثمن اقتصادي واجتماعي باهظ التكاليف، إلا أن ذلك لا يخرج عن طبيعة الرأسمالية كنظام متناقض وقائم على عمليات وآليات تدميرية، أو كما قال شومبيتر: الرأسمالية عملية تدمير بناء، أي بتعبير معاصر (فوضى بناءة)».
وبخصوص الاقتصاد المغلق تقول ورقة د. إبراهيم: «لم يول هذا الاقتصاد اهتماماً كافياً، وعن قصد، لتحليل الأزمات الاقتصادية الرأسمالية (فيه)، إذ اعتبرها منظروه من قبيل تحصيل الحاصل، بوصف النظام الرأسمالي قائماً على تناقض جوهري وأبدي بين الطبيعة الاجتماعية للعمل والطبيعة الفردية لتملك نتاج العمل، ولم تتطور تلك النظرة إلى طبيعة التناقض نفسه بوصفه توازناً نسبياً مستمراً وديناميكياً ولا إلى المعنى العميق والخصب للحرية التي تشكل الميزة الوحيدة للاقتصاد المفتوح. إن الديالكتيك الأساسي في الاقتصاد الرأسمالي الراهن لم يعد أيديولوجياً يتمثل في التناقض المستعصي بين رأس المال والعمل، وإنما بين السوق الحرة والتدخل الحكومي أو بين الليبرالية الجديدة والدولة».
الأزمة مرض الرأسمالية المزمن
كما رأى د. إبراهيم أن «الرأسمالية تعتبر التشكيلة الاجتماعية الوحيدة في التاريخ التي حققت فائضاً اقتصادياً على هيئة مشكلة اقتصادية في التصريف، وذلك لأن رأس المال يجهد (نفسه) دائماً لإنتاج غير محدود مقابل حصر الأجور- أي الاستهلاك عملياً- في أضيق الحدود»، وهنا يستنتج الباحث أن الأزمة الاقتصادية تعتبر «مرضاً مستوطناً ومزمناً في بنية الرأسمالية، وهي في الوقت نفسه تؤدي دور المنظم والمحرك في عملية التطور الرأسمالي، وهي تتجلى في أشكال متعددة لا تنتهي ما بقي الاقتصاد الرأسمالي اقتصاداً مفتوحاً وماكراً».
.. وهي قادرة على الاستمرار
ويتابع الدكتور في جامعة دمشق «تبدو الأزمة على تعدد أشكالها وأنواعها (معضلةً استراتيجية) في ثنايا الاقتصاد المفتوح، إلا أن ذلك يجب ألاّ يعني أبداً اختزال النظام الرأسمالي في الشكل أو في الصيغة الاقتصادية المأزومة، فالأساس التاريخي للرأسمالية لم يكن أبداً اقتصادياً فقط، بل كان مركباً معقداً من الفكر والثقافة والفلسفة والدين..الخ، ولذلك استطاعت الرأسمالية (حسب د. إبراهيم) ومنذ نشوب أول أزمة اقتصادية ولغاية الأزمة الراهنة أن تتجاوز كل أزماتها مجددة نفسها بأقوى مما كانت عليه»، ويعتقد الباحث أن السبب الجوهري وراء قدرة الرأسمالية على تجاوز أزماتها يكمن في «حرية السوق ذاتها التي لا تعبر عن اتجاه واحد وإنما عن اتجاهين اثنين: الحرية والسوق».
الاقتصاد الحقيقي مصدر أمن المجتمع
وحول العلاقة بين النظام الرأسمالي والأزمة، أوضح د. إبراهيم أن «الأزمة وحدها غير كافية لإحداث تغيير جذري في النظام الرأسمالي ولاسيما إذا كان هذا النظام مسيطراً تماماً على المجتمع، ولا تشكل الأزمة الاقتصادية المعاصرة خطراً على النظام السياسي الرأسمالي، بسبب قوة ورسوخ وشرعية الأساليب والإجراءات المؤسسية لحلها»، ودعا الباحث إلى التعمق في مسألة التدخل الحكومي ودور السوق موضحاً أن «خطورة الأزمات الاقتصادية لا تكمن في أثرها السلبي على عدم كفاية الدخل، بل على أمن فرصة العمل الذي يعتبر أشد أهميةً اجتماعية وسياسيةً، لذلك ما يزال الاقتصاد الحقيقي يكتسب أهميةً حاسمةً لا بسبب السلع التي ينتجها، إنما بسبب ما يوفره من فرص للعمل وبالتالي للدخل (...). أما بخصوص دور السوق، فالمسألة أصبحت أكثر تعقيداً، فمصطلح اقتصاد السوق يعد تعبيراً خالياً من المعنى والدلالة، وإذا كانت السوق تملك من معنى- بوحي الضرورة- فهو سلطة المستهلك وبالتالي إخفاء سلطة المنتج الرأسمالي الذي يوجه الطلب ويهيمن على المستهلك، أو إن السوق في أحسن الأحوال هي غياب أية قوة اجتماعية ذات سلطة اقتصادية، ولقد اعتمد مصطلح اقتصاد السوق بقصد حماية الاقتصاد الرأسمالي من ماضيه المشين وتبرئة الرأسماليين مما ارتكبوه من نهب وظلم واستغلال بحق شعوبهم والشعوب الأخرى».
ليس هناك اقتصاد مغلق
أما د. رزق الله هيلان فاستغرب الطرح القائل بتمييز الاقتصادات إلى مفتوحة ومغلقة، فبعد أن قدم نماذج تاريخية توصل د. هيلان إلى استنتاج نظري «إن اعتماد اقتصاد مغلق ولو بنسبة 50 أو ربما 20% هو أمر غير مقبول وغير ممكن، ويبقى أمامنا منهج واحد لا غير هو اقتصاد مفتوح محمي استراتيجياً، بمعنى إقامة وحماية الصناعات الأساسية التكوينية، صناعات الاستطاعة العلمية التقانية الوطنية التي تسمح لنا بالمساهمة الفاعلة في بناء الحضارة العالمية جزء منها».
وتطرق د. هيلان في ملاحظاته إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية باعتبارها القضية الأهم، وبرأيه فإن الأزمة الحالية التي تجتاح العالم «تتداخل فيها أنواع مختلفة من الأزمات، مالية، نقدية، اقتصادية دورية قصيرة (حوالي 5 أعوام) ودورية طويلة (نحو 50 إلى 60 عاماً)». وتساءل الباحث عن أسباب هذه الأزمة ومدى ضلوع الليبرالية الجديدة في حدوثها، مستهجناً دعوة الليبراليين إلى التقليل من التدخل الحكومي في سيرورة الأزمة الطبيعية كونه «ضاراً ومخالفاً لمبادئ النظرية الليبرالية لأن اليد الخفية كفيلة وحدها بتصحيح أسباب الخلل وإعادة المياه إلى مجاريها».
الشعوب تدفع الثمن مرتين
ويرى د. هيلان أن «المفارقة المضحكة/ المبكية والأكثر مأساوية هي أن شعوبنا تدفع ثمن الأزمة مرتين، المرة الأولى عندما يشفط الأثرياء الفوائض الاقتصادية ويهربونها إلى المصارف الغربية، والمرة الثانية عندما تحدث الأزمة وتتبخر تلك الأموال، وفي الحالتين يفقد المنتجون، أي عامة الشغيلة الذين ينتجون هذه الأموال ويصادرها المستغلون، ويخسرون (الشغيلة) من دخولهم المحدودة بسبب الغلاء والفساد وبالتالي يدفعون ثمن الأزمة».
الاشتراكية قد تكون المآل
ويشير الباحث الاقتصادي في نهاية ورقته إلى ما خلفته الأزمة الحالية من أسئلة محيرة اختصرها بأنه «إما أن تكون المؤسسات الأمريكية والأوروبية عاجزةً عن فهم النظام الرأسمالي وإدارته بعقلانية وبالتالي تفادي هذه الأزمات، وهذا يصعب تصديقه نظراً للإمكانات الهائلة العلمية والتقانية والمالية التي تمتلكها وتتصرف بها بكل حرية، أو أن تكون الأزمات والحروب وما ينجم عنها من كوارث ومآس قدر مكتوب في قلب النظام الرأسمالي، وهو ما سيقود حتماً إلى الانهيار النهائي للنظام وحلول الاشتراكية محله، وهذا ما يتفق مع التحليل الماركسي لهذا النظام، أو أخيراً أن تكون ثمة مؤامرة خبيثة يحيك خيوطها بسرية تامة أسياد النظام المالي لشفط الفوائض المالية العالمية وبالتالي ضمان سيادتهم المطلقة على النظام العالمي الاقتصادي والسياسي، ونتيجة ذلك الواضحة هي تزايد الثروة عند الأثرياء واتساع الهوة بينهم وبين الفقراء داخل كل بلد من ناحية، وبين بلدان الشمال والجنوب من ناحية ثانية».
يذكر أن ندوات جمعية العلوم الاقتصادية السورية ستتوقف الثلاثاء القادم فقط بسبب سفر الباحث المقررة محاضرته، على أن تعاود نشاطها الثلاثاء الذي بعده.