التنين ينفث (علماً)!
أنفقت الصين خلال العام الماضي، 200 مليار دولار على البحث العلمي، لترفع نسبة إنفاقها عليه إلى أكثر من 2% من ناتجها الإجمالي السنوي حيث كان بحدود 1.93% من الناتج حتى عام 2012، وبذلك تقف الصين في المرتبة الثانية عالمياً، بعد الولايات المتحدة، من حيث حجم الإنفاق السنوي على البحث العلمي.. وإن كان القياس الكمي للإنفاق على البحث العلمي، ونسبة ذلك الإنفاق من الناتج القومي السنوي لدولة من الدول، يعطي إشارات مهمة عن الدولة المعنية وموقعها العالمي، إلّا أن هذين المؤشرين ليسا كافيين وحدهما لتقديم التعبير الأوفى عن المسألة..
توجد مؤشرات كمية أخرى، لها أهمية حاسمة: عدد الطلاب الصينيين الذين يتخرجون سنوياً من كليات العلوم والهندسة والرياضيات والتقنيات يبلغ حوالي 2.5 مليون خريجاً، أما عدد الذين ينالون درجة الدكتوراه في حقلي الهندسة والرياضيات، فيصل إلى 30 ألف سنوياً..
ركزت الخطة الخمسية الثالثة عشرة على «الابتكار المستند إلى العلم» وتحديداً في مجالات (أبحاث الدماغ، والعلوم الجينية، والروبوتات الطبية، والـ Big Data).
ورغم أهمية المؤشرات السابقة بمجملها، خاصة إذا ما أضيف إليها أن الصين تقود حالياً خمسة من أكبر المشروعات العلمية في العالم، بينها (أكبر مستقبل راديوي في العالم)، إلّا أنّ المسألة الأكثر أهمية هي إصرار الصين على استعادة عقولها المهاجرة نحو الغرب، وقد استطاعت استعادة 4000 منهم عبر برامج تحفيزية خلال السنوات القليلة الماضية، ويبدو أنها ماضية قدماً في هذا المسعى..
إنّ سعي الصين بهذا الاتجاه يأتي ضمن استراتيجيتها العامة في التخلص من عمليات «الاستعمار الحديث» والتبادل اللامتكافئ مع الغرب، والذي تبرز هجرة العقول كواحد من أهم آلياته. يمكن تتبع ذلك في خطط الصين حول «إحلال الواردات» وكذلك في طردها التدريجي ولكن السريع للدولار، وفي عملها المشترك مع دول بريكس ومجموعة شنغهاي على إنشاء منظومة مالية ونقدية عالمية بديلة عن تلك التي يتحكم بها صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومن ورائهم واشنطن والطغم المالية الغربية والعالمية الكبرى.. يضاف إلى ذلك اشتغالها على تخفيض قيمة عملتها لرفع تنافسية بضاعتها التصديرية، وذلك في الوقت الذي تعاني فيه البضائع الأمريكية والبريطانية أزمة ارتفاع قيمة الدولار والجنيه..
الصين التي لا زالت تصنف خارج دول المركز الرأسمالي العالمي، تكسر آليات الاستعمار الحديث المستمرة منذ الستينيات، فهي تخلصت من التبعية التكنولوجية، وتحرر دول الأطراف، والجنوب منها نسبياً، كما أنها تحفّز تجارة جنوب- جنوب، مساهمة في كسر التبادل اللامتكافئ القائم على بيع الدول النامية لأسعار سلعها الأولية بمستويات منخفضة، وشرائها للسلع عالية التكنولوجية من الدول المتقدمة بأسعار احتكارية عالية.
والأهم أنها تقدم نموذجاً، في عملية استعادة العقول المهاجرة إلى الغرب، وهي واحدة من أهم أدوات النهب العالمي، حيث يتم تنشئة الكوارد وتعليمها في الدول النامية، وتنتقل ليتم استغلال معارفها وتشغيلها في الدول المتقدمة بتكاليف منخفضة.