مئات القوانين تصدر لمصلحة القطاع الخاص.. أما العام فالقرارات تصب بخانة إنهائه الطاقم الحكومي يسعى للتّخلي كلياً عن القطاع العام
على الرغم من الحديث اليومي عن محاربة الفساد، والإصلاح الإداري، وخفض الهدر والإنفاق الحكومي خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة، إلا أن الوقائع اليوم تشير مؤكدة إلى أن الجهاز الحكومي والمراكز العليا في الجهاز الإداري حظيت بالامتيازات الكبيرة مادياً واجتماعياً، وصبت في جيوبها قنوات التنفيع، والمحسوبية، وعمولة الواسطة، مما أعاق أي إجراء لتحسين الاستثمار أو الإنتاجية، أو الأخذ في الاعتبار معايير الكفاءة والإنتاجية.
إضعاف روح المنافسة
الانقضاض على شركات القطاع العام واحدة تلو الأخرى كان دائما يتم بالتزامن مع الحديث الحكومي عن طرح المشاريع التي تستهدف إصلاح هذا القطاع، إلا أنه لم ينفذ أي مشروع على أرض الواقع، وكانت حبوبا مسكنة للتباري على القطاع العام حتى وصل إلى حالته الآن، والتي أنتجت إضعاف العلاقة بين العامل وعمله، وبين نوعية التأهيل وطبيعة العمل، والعلاقة بين الجهد والعائد أيضاً، كما أنها أدت إلى إضعاف روح المنافسة، وكذلك تم إضعاف الحافز على العمل والإنتاج.
الاستثمارات خلقت مجتمعاً طفيلياً!.
الاستثمارات التي أقيمت في سورية خلال السنوات الماضية ساهمت في خلق مجتمع استهلاكي طفيلي، بدلاً من أن تبني مع شركات القطاع العام مجتمعاً منتجاً، أو أن تستثمر أموالها في تطور قوة العمل، فقوة العمل تطورت خلال عقود ماضية، ولكن التطور الذي شهدته في السنوات الأخيرة لم يكن في الاتجاه الصحيح، فقد تم تدجين قوة العمل، وإفقارها من حيث المحتوى والإنتاجية، بل إن الخطورة الأساسية لهذا التوجه، تكمن في أن المستوى المعيشي أصبح أكثر ارتباطاً بالأعمال الخدمية والهامشية (مصارف، سياحة، سمسرة، عقار، تجارة)، مما جعل مستقبل العاملين محفوفا بالمخاطر، المتزامن مع تناقص أعداد عمال القطاع العام سنة بعد أخرى، والواقع يقول إن أقل الفئات مساهمة في الجهد والعمل تحصل على أكبر جزء من الدخل القومي، في حين تدفع غالبية الشعب ثمن هذه السياسة، أدى ذلك أيضاً إلى تفاوت طبقي واسع وخلق فئات معادية لأية تنمية اقتصادية والاجتماعية، لذلك جرى ضرب أكثر شركات القطاع العام، وإيصالها إلى الخسارة، ولم ينفذ أي مشروع طرح لإصلاح شركات القطاع العام أو تجديد آلاته، ولو في حدود دنيا، ولكن التصريحات تتوالى من الحكومة والفريق الاقتصادي تحديداً حول أهمية القطاع العام ودوره في الحياة الاقتصادية، وهذه التصريحات لم يواكبها إصلاح للقطاع العام على الرغم من تأكيدات الحكومة المستمرة بأن القطاع العام مازال رابحاً حتى الآن.
لبقاء القطاع العام أهمية اقتصادية ووطنية، حيث يشير التقرير الاقتصادي لاتحاد العمال إلى أن التخلي عن القطاع العام، وافتعال العقبات في وجه تطوره، يؤدي إلى تفكيك القواعد التي يستند عليها النظام السياسي في سورية..
تخلٍّ حكومي عن العام
هل يسير الفريق الاقتصادي في الحكومة ومؤيدوه باتجاه التخلي عن القطاع العام؟! سؤال تجب عليه تصريحات النائب الاقتصادي، من خلال تأكيده مرات عديدة على أنه «لو لم نتجه بالبلد باقتصاد السوق كنا اتجهنا نحو المجهول»، إذاً، فكيف يمكن أن ننتظر إصلاحاً أو دعماً للقطاع العام من هذا الطاقم الحكومي الساعي للتخلي كلياً عن هذا القطاع؟!!.
لقد صدرت خلال أعوام الخطة الخمسية العاشرة تشريعات عديدة لمصلحة القطاع الخاص، وأحيط هذا القطاع بكل المزايا المحفزة، ووضعت له سياسات وتنظيمات مستقرة، كفلت له التزود بالمواد الأولية، والمعدات والتجهيزات الضرورية مع إعفاءات جمركية وضريبية، في حين ترك القطاع العام ليتهاوى شركة تلو الأخرى، وتم طرح المؤسسات الرابحة للاستثمار.
ومن الغرابة أن تصدر تصريحات أقل ما يقال فيها إنها «ديماغوجية»، حيث أكد النائب الاقتصادي في اجتماع أخير في وزارة الصناعة أن «القطاع الصناعي في الخطة الخمسية الحادية عشرة هو القطاع الرائد، وأن الحكومة ملتزمة ما أمكن تقديم جميع التسهيلات والخدمات، وإزالة كل العوائق التي تعيق نمو هذا القطاع».. كما أشار النائب الاقتصادي إلى أنه لم يعد هناك جدل إيديولوجي حول بقاء القطاع العام الصناعي أو إنهائه..
الإصلاح ليس معجزة..
ماذا أنجزت الحكومة من عناوين للحفاظ على القطاع العام أو إصلاحه؟!.. فأي عامل في القطاع العام يعرف أن إصلاح هذا القطاع ليس معجزة، وتتلخص خطواته، بتحديث البنية التشريعية، والانتقال من بنى إدارية متخلفة إلى بنى مؤسسية ذات رؤى مستقبلية واضحة، وإعادة دراسة العلاقة بين وحدات القطاع العام ووزارة المالية، ومنح هذه الوحدات الاستقلالية الكاملة وغير المنقوصة، والإعفاء من الضريبة على الأرباح.
وخير دليل على أهمية وضرورة الإعفاء من الضريبة على الأرباح، هو أن إحدى الشركات العامة كانت رابحة قبل خمس سنوات الآن أصبحت خاسرة، والآن تستجدي هذه الشركة قرضاً بـ 100 مليون لتؤمن المواد الأولية ولكن دون مجيب، وهذه الخسارة ناتجة -بشكل أساسي- عن تحويل هذه الشركة ضريبة دخل على أرباحها بقيمة 80 مليون ل.س خلال 10 سنوات فقط، وهكذا هي حال شركات القطاع العام في سورية كافة.. ولكن السؤال الأهم على الضفة الأخرى، هل يقدم القطاع الخاص هذا المبلغ لوزارة المالية؟!. وهل إعفاء القطاع العام من 505 من الضرائب هو من الأمور العسيرة؟!. وهل من الصعب حل مشكلة التشابكات المالية، وذلك من خلال إصدار قانون جديد يعتبر أن أصل الديون، والفوائد المترتبة على القطاع العام بحكم المسددة، ويقوم صندوق الدين العام بتعويض خسائر الشركات المتضررة؟!.. وهل هناك عقبات أمام إصدار تشريع يعفي الشركات من تخصيص اهتلاكات على الموجودات والأصول التي تجاوز عمرها الإنتاجي أكثر من 30 عاماً؟! وما هي الصعوبات أمام إيجاد آلية اختيار وتعيين للإدارات في القطاع العام الصناعي والخدمي تعتمد بشكل أساسي على معياري الكفاءة والنزاهة؟!. على أن يكون للوزارة الدور الأول في اقتراح هذه الإدارات، وليست جهات أخرى لا علاقة لها بالعمل الإداري والصناعي!..
إصدار تشريعات كهذه ليست معضلة، وليست بحاجة إلى أموال وموازنات، على الرغم من أن الفريق الاقتصادي يكرر دوماً أن الاعتمادات المالية لا تكفي، وليست هناك إمكانية للاستبدال والتجديد والتحديث في القطاع العام.. فهل الإصلاح الإداري بحاجة إلى أموال؟!. لقد بادرت الحكومة إلى استصدار مئات القوانين والتشريعات لصالح القطاع الخاص، وما صدر من قرارات حول القطاع العام كان يهدف في المحصلة إلى إنهائه من الحياة الاقتصادية.