التكامل الزراعي – الصناعي .. شعار قديم لكن يستحق الحياة

أتت الأزمة الاقتصادية الحالية لتثبت أن الزراعة والصناعة ودور الدولة هي المقومات الأساسية التي تقتضي الضرورة تكاملها في لحظة الأزمة، لأنها ومع بعضها تشكل الضامن الوحيد لاستمرار قدرة الاقتصاد السوري على تجديد إنتاجه وتوليد النمو، للتعويض عن الفجوة الكبيرة في عملية النشاط الاقتصادي في سورية في ظل الأزمة.

المقومات الثلاثة:

تعرضت الصناعة السورية لخسائر كبرى خلال الأزمة، وتحديداً الصناعة في القطاع الخاص، لتقترب في بعض المدن من التوقف الكامل، لم توثق الحكومة حتى اليوم رقماً لهذه الخسائر، ولكن يشير إليها العديد من المظاهر، توقف مدينتين صناعيتين بشكل كامل في دير الزور وحلب، وسرقة وتدمير جزء كبير من محتوياتها، وهروب رؤوس أموال صناعية كبرى، والتخفيض الكبير للعمالة في هذا القطاع.

أما صناعة القطاع العام فلم تهرب رؤوس أموالها إلا أنها حرمت منها بالإنفاق المخفض، ولم تنعدم مدخلاتها إلا أنها تعاني من صعوبات في تأمينها وتحديداً المستوردة منها، ولم يطرد عمالها، ولكن لم يسد النقص في العمالة الذي يعتبر مشكلة مشتركة لدى العديد من معامل القطاع العام الرابحة أو العاملة حتى اليوم.

بينما الزراعة بقيت أقل القطاعات تضرراً على الرغم من أنها شهدت تراجعاً في الثروة الحيوانية، وفي أغلب المحاصيل الاستراتيجية، وشهدت تراجعاً في عائدية المزارعين في ظل التكاليف المرتفعة لمستلزمات الإنتاج، وتراجعت أيضاً قدرتهم على تسويق منتجاتهم نظراً لانخفاض الطلب المحلي، ولصعوبات النقل.

أما المقوم الثالث الضروري وهو دور الدولة، فيبدو أنه حتى الآن أكثر المقومات هشاشة، فالأزمة عظمت وكشفت كل مشكلات ترهله السابقة، فحتى الآن لم يستطع جهاز الدولة متمثلاً بسياستها الاقتصادية أن ينتقل إلى سياسة الأزمة.

 

التكامل الزراعي الصناعي

تضيّق العقوبات الاقتصادية الموارد الخارجية، وتضيق إمكانيات إقامة صناعات متطورة لأسباب تتعدد ليبقى أهمها صعوبة وصول التكنولوجيا وكلفتها العالية في الظروف الحالية، بالتالي تدفع الأزمة نحو استراتيجبة مشاريع التصنيع البسيطة، والتي تلتقي مع انخفاض الايرادات المالية وصعوبة الاستثمار برؤوس أموال كبيرة في مشاريع كبرى.

كما أن ظروف الازمة الاقتصادية تدفع نحو تقليل الاعتماد على الاستثمار الخاص، نظراً لظروف المخاطرة الاقتصادية وعدم الاستقرار التي لا يندفع الاستثمار الخاص فيها نحو التوسع بمشاريعه.

 كل هذا يؤكد على أن ولادة النمو واستمرار النشاط الاقتصادي في الوقت الراهن، يقتضي مشاريع بمواصفات تحددها الضرورة وهي أولاً مشاريع مواردها محلية زراعية، ثانياً مصنعة بخطوات تصنيع بسيطة، وثالثاً موجهة بدفع وتمويل من الاستثمار العام. وهو ما تمثله مشاريع التكامل الزراعي – الصناعي التي تقوم الدولة بتمويلها بشكل أساسي.

 

عوائد هذه المشاريع:

بداية تولد هذه المشاريع قيمة مضافة ونمواً حقيقياً للاقتصاد السوري، وزيادة في التشغيل.

تؤمن هذه المشاريع استجرار للمنتجات الزراعية السورية وتخفف من سيطرة تجار الجملة والتصدير على السوق المحلية، مما يساعد على زيادة أسعار الشراء للمزارعين.

تضمن استمرار الإنتاج الزراعي والتحفيز على توسعه، مع انعكاس ذلك على الأمن الغذائي.

نجاح هذه المشاريع وتخفيض تكاليفها يؤمن كسر احتكار المنتجات المستوردة ويخفف لاحقاً من جدوى الاستيراد.

 

تجارب التكامل الزراعي الصناعي السابقة

خلال العقود الأربعة الماضية أفرغ شعار التكامل الزراعي- الصناعي، نتيجة هشاشة المقوم الثالث وهو دور الدولة، فعلى الرغم من أن الدولة أنشأت ومولت معامل ومؤسسات عامة قائمة على أساس التكامل إلا أنها لم تستطع حمايتها والمحافظة على دورها. فالمؤسسة العامة للصناعات الغذائية التي ضمت 24 معملاً ومؤسسة تابعة سابقاً، تقلصت اليوم إلى أربع شركات رابحة فقط بما فيها شركات هامة مثل كونسروة جبلة، معامل تقشير الفستق الحلبي، ألبان حمص وغيرها.

بينما المؤسسة العامة للأعلاف تقلصت حصتها من تأمين الأعلاف إلى حوالي %10، كذلك كل من المؤسسة العامة للدواجن، المؤسسة العامة لإكثار البذار، حلج القطن، معامل السكر كلها تشهد تراجعاً كبيراً في مساهمتها وحصتها من السوق السورية، وبالتالي تفقد قدرتها على التأثير.

تتعدد الأسباب التي أدت إلى تراجع هذه المؤسسات إلا أنها تتلخص بنخر قوى الفساد لفاعلية جهاز الدولة وقدرته على درء التدهور الذي أصاب القطاع العام، فتراجعت الاعتمادات المخصصة لهذه المعامل والمؤسسات، وتكبلت بالكثير من القوانين، وكانت مصلحة القوى الرئيسية الجديدة في الاقتصاد السوري تقتضي تراجعها وعدم قدرتها على المنافسة وتحديداً مستوردي المواد الاستهلاكية والغذائية.

لا تبقي الأزمة الاقتصادية بداً من مواجهة ضعف جهاز الدولة، وعدم قدرته السابقة على المبادرة الفعالة بهذا الاتجاه، لأن الواقع الحالي يجعل هذه المشاريع التكاملية إحدى الاستراتيجيات القليلة، وربما الوحيدة لحماية الاقتصاد السورية من السكتة القلبية الحقيقية.

 

مشاريع ودراسات تنتظر

تحتوي أدراج وزارة الزراعة وهيئة الاستثمار على الكثير من دراسات الجدوى لمشاريع الاستثمار الزراعي- الصناعي بلغ عددها 16مشروعاً في عام 2011. المشترك بين أغلبها أن أراضيها تعود للدولة، وأن دراسات الجدوى الاقتصادية تؤكد عائديتها وقيمها المضافة الكبرى، ويتراكم عدد متقارب من هذه المشاريع في تقارير هيئة الاستثمار منذ عام 2007، لتبقى مقترحات تنتظر جميعها المستثمر الخاص.

 

المشاريع وكلفها الاستثمارية

تربية الأسماك في المياه العذبة( 175 مليون)، زراعة الأشجار سريعة النمو لتصنيع عجينة الورق (440 مليون)، زراعة فول الصويا وتصنيع مشتقاته :أعلاف وزيوت (175 مليون)، مزرعة نخيل وفرز وتوضيب التمور (110مليون)، زراعة الجنسينغ وتصنيع الأدوية والكريمات(400 مليون)، زراعة الرمان وإنتاج دبس الرمان (220 مليون)، مزرعة لزراعة البصل والثوم وتجفيفها(83 مليون)، تربية النحل وتصفية وبسترة وتعبئة العسل (40 مليون)، مشروع تجميع وتصنيع المخلفات الزراعية (205 مليون)،تصنيع الخيوط الحريرية ونسجها (73 مليون)، مزرعة أسماك شاطئية (140 مليون)، زراعة الوردة الشامية وتركيب الزيوت العطرية(70 مليون)،تربية طيور السمّان مع مسلخ آلي (200 مليون)، زراعة المواد العلفية وتصنيع الأعلاف المركزة(210 مليون)، مطحنة قمح وصناعة المعكرونة والشعيرية(100 مليون)..إلخ.

مجموع التكاليف الاستثمارية لكل هذه المشاريع لا تتعدى 2,4 مليار ليرة سورية، بينما بلغت اعتمادات المشاريع الزراعية الاستثمارية في عام 2012: 35 مليار، وهي لا تشمل أياً من هذه المشاريع بل تشمل نفقات صيانة ومعدات ومستلزمات في مديريات الزراعة ودوائرها، وتبذل قوى النهب الصغرى مجهوداً كافياً لصرف هذه الاعتمادات لتنفيذ الخطط الورقية المتعددة، بينما تبقى هذه المشاريع تنتظر المستثمر الخاص المناسب.

يضاف إلى هذه المشاريع حوالي 16مشروعاً صناعياً غذائياً، كلها تتبع لوزارة الصناعة، وتعتمد كذلك على موارد محلية زراعية، مثل مشروع إقامة وحدات تسويق وتجهيز الخضار والفواكه، إنتاج لحوم الدجاج والبيض،معمل تجفيف وفرز الفواكه وتقشير الفستق الحلبي، معمل معالجة الفستق الحلبي، حليب وأغذية الأطفال، طحن القمح لإنتاج السميد وتعبئته، معجون البندورة الطبيعية،العصائر المكثفة للفاكهة المختلفة، تجميع وتسويق وتصنيع الحليب وغيرها من المشاريع الصناعية الغذائية التي تزيد تكاليفها عن 5 مليار ليرة سورية بينما تبلغ اعتمادات المشاريع الاستثمارية لكافة الصناعات التحويلية في عام 2012 5,7 مليار أدنى نسبة لها في الصناعات الغذائية.

إذاً من الواضح أن إعادة توجيه نفقات الدولة في الاستثمار الزراعي نحو مطرحها الصحيح، وترشيد الإنفاق الإداري الخدمي، ومجرد "تقليص" لحصة الفساد من موازنة الزراعة كفيلة بتنفيذ حوالي 18 مشروعاً صناعياً- زراعياً تعود بموارد اقتصادية وعمالة وقيمة مضافة كبيرة، ولا تحتاج سوى إلى تبديل المستثمر الخاص، بالمستثمر العام.