قوى الفساد تتكلم من وراء أرقام الموازنة..

شهدت سورية خلال الأزمة الاقتصادية التي تمر بها أزمات قطاعية طفت على السطح، لتكشف مستوى الوهن وعدم الجاهزية الذي يعتبر سمة جهاز الدولة خلال هذه المرحلة. وإذا ما اعتبرنا أن عدم الجاهزية هو حالة طبيعية نظراً لظروف الأزمة السورية التي حملت تأثيرات كبيرة على الاقتصاد السوري وأدخلته بظروف جديدة ليس من السهل التكيف معها، فإن عاماً من عدم التكيف والوهن قد مر، وكان لا بد أن تظهر الحكومة السورية سلوكاً أو خطة أو توجهاً يوحي بأن هناك من يدير أزمة اقتصادية، وتختفي حتى الآن كل المحاولات الجدية التي تحاول تحريك جهاز الدولة السوري المثقل بالفساد وكل ما ينتج عنه من أمراض إدارية من بيروقراطية وطفيلية وقلة مرونة وبطء وعدم القدرة على الاستجابة لأدنى حد من المهام...

بالطبع لن تعلن الحكومات السورية خطتها لمواجهة الأزمة لأنها لم تعترف بوجودها إلا لفترة قريبة، إلا أننا لا نملك "ترف" الطلب من الحكومات السورية أن تتكلم عن الواقع كما هو.. بل تعودنا قراءة رؤيتها من سلوكها الذي يظهر غياب التنسيق وفصل وعدم انسجام بين القطاعات إلا بالسمة العامة المشتركة، وهي "الإهمال الممنهج" حيث تترك كل التصدعات الصغرى لتتحول إلى ثغرات كبرى غير قابلة للعلاج، لتضاف إلى سلسلة الثغرات التي يعاني منها الاقتصاد السوري والتي تحولت إلى عيوب هيكلية تتطلب تغييرات جذرية..

خطة الموازنة العامة تظهر بأرقامها الرئيسية أي نهج تنوي الحكومة أن تواجه به المخاطر التي تواجه الاقتصاد السوري.

ونستطيع القول إن مقولة الموازنة هي : " معاً لتعقيد الأزمة السورية.." وهي مقولة قوى الفساد الكبرى..

حيث تعلن أرقام الموازنة الرئيسية أن جهاز الدولة في سورية لا ينوي التدخل لتحريك الاقتصاد السوري وحمايته من المزيد من التدهور، وهو ما يعلنه تخفيض الإنفاق الاستثماري 275 مليار والصناعي تحديداً حوالي 2,5 مليار وهي أرقام لم يصلها من قبل. فتأكدت في موازنة 2013 ماكانت ترشح عنه تصاريح المسؤولين الاقتصاديين بأن الاعتمادات ستخفض في قطاعات أساسية ولشركات القطاع العام الكبرى، ومنها ما كرره وزير الصناعة في زياراته للمؤسسات التابعة قائلاً، بأن الشركات الخاسرة هي خارج الاعتمادات السنوية، التي بدورها ستتركز على الشركات الرابحة. ولم يكمل وزير الصناعة ما أكملته أرقام الموازنة واعتمادات هذه الشركات، والتي تقول

" على أمل أن تنضم هذه الشركات الرابحة إلى مثيلاتها الخاسرة والمخسرة، وهذا بجهود تخفيض الإنفاق الاستثماري"..

رقم الموازنة الإجمالي هو الرقم الأضخم أيضاً في تاريخ الموازنات السورية، والجزء الاكبر منه للدعم الحكومي الذي يبلغ 512 مليار، وهو الرقم الذي تعتبره الحكومة رقمها الرابح، وتعكس فيه رؤيتها الإسعافية للأزمة السورية..

512 مليار ليرة تريد الحكومة أن تقول فيها للسوريين إنها تقدم دعماً للمشتقات النفطية، والكهرباء، وللزراعة، وللمواد الاستهلاكية.. ويفيد هنا التذكير بأن رقم الدعم في عام 2012 والذي بلغ جوالي 300 مليار وصلت إلى السوريين أقل من قيمته الحقيقية بكثير مادياً ومعنوياً. حيث رفعت حصة الفساد المسحوبة من الدعم أسعار المشتقات النفطية، ورفعت تكلفتها ساعات الانتظار الطويلة وانقطاع المواد، وهو ما ينطبق على الغاز "المدعوم"، والكهرباء "المدعومة".

فإذا لم تغير الحكومة طريقة توزيع الدعم فإن هذا الرقم سنعتبره بمعظمه موزعاً من الآن إلى أحد أهم فئات الفساد في سورية تاريخياً وهو "فساد المواد المدعومة". ويتضح أن هذه الفئات تسعى جاهدة لإعاقة مشاريع تغيير آلية الدعم، القائمة على البطاقات الالكترونية " الذكية" التي تضمن تحويل الدعم نقداً للمواطن، وهو ما يمنع الأسباب الموضوعية لسرقة هؤلاء للمواد المدعومة وبيعها، ويضمن تحويل هامش ربحهم الحقيقي للمواطن..

أما الرقم الذي يعكس مباشرة شعار " معاً لتعقيد الأزمة السورية.." فهو الرقم المخصص للتعويض وإعادة الإعمار والبناء، والذي اختزلته الموازنة بـ 30 مليار تنوي الحكومة أن تعيل فيها مليوني نازح، وتعوض عن خسائر قدرتها الحكومة نفسها بـ 2000 مليار ل.س...

يبدو أن مشروع الموازنة الحالي يوضح أن الحكومة الحالية لا تستطيع حتى الآن أن تخطو نحو استراتيجية إنقاذ، أو خطة إسعافية، بل تعكس الأرقام أمراً واحداً، أن كبار الفاسدين أشهروا موازنة العام الحالي سلاحاً بعد أن تضيقت مصادر نهبهم لتقتصر على موارد الدولة المتناقصة، والتي يسهل انتزاعها من بنود الموازنة المتضخمة كالدعم الحكومي، والنفقات الإدارية المختلفة..

لذلك فإن هذه الموازنة مرفوضة جملة وتفصيلاً..