تراجع الإنفاق الاستثماري في سورية خير شاهد على تراجع دور الدولة التنموي
تتفاخر الدول وتتبارى في زيادة حجم الإنفاق العام لديها عاماً بعد عام، وذلك بهدف تشجيع الإنتاج وزيادته، وتأمين فرص عمل لمئات آلاف من الشباب العاطلين عن العمل، وفي المقابل، فإن انخفاض حجم الإنفاق العام، سيساهم في صنع الركود في الاقتصاد الوطني، ورفع حجم البطالة، والذي سينعكس بدوره على مستوى المعيشة بالضرورة، ولذلك، فالدول قد تضطر للجوء إلى القروض بهدف زيادة حجم الإنفاق العام لديها، فهل الإنفاق العام يتراجع في سورية؟! وما هي مدلولاته؟! وخاصة أن تراجع الإنفاق الاستثماري يعد خير شاهد على تراجع دور الدولة التنموي؟!
تراجع الإنفاق العام
يتناقص حجم الإنفاق العام في سورية مقارنة مع حجم الناتج المحلي الإجمالي، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي لعام 2005 نحو 1479.6 مليار ل.س، في حين بلغت الموازنة العامة للدولة نحو 460 مليار ل.س، وقد بلغ معدل الإنفاق العام بحدود 31%، والأرقام تقول إن ربع الإنفاق العام يخصص للإنفاق الاجتماعي وهذا ما يؤكد الاتجاه على انعدام العدالة في توزيع الدخل وعدم قدرة الدولة على إنصاف ذوي الدخل المحدود في حين يصل هذا المؤشر في الدول المتقدمة إلى 50%، في حين لم تتجاوز نسبة الإنفاق الاجتماعي في سورية خلال أعوام ماضية أكثر من 8% من الناتج المحلي، وفي موازنة عام 2012 خصص 951 مليار ل.س للإنفاق الجاري و377 مليار ل.س للإنفاق الاستثماري.
انعكاسات سلبية
الإنفاق الاستثماري يتمحور بشكل عام في مشاريع البنية التحتية للأزمة لعملية الاستثمار، وإقامة الشركات الهامة التي لا يقدم عليها القطاع الخاص وتمويل شركات القطاع العام، والأرقام تقول إن الإنفاق الاستثماري بدأ بالتراجع منذ 10 سنوات، وتشهد بذلك بيانات الموازنة العامة للدولة، والذي يطالع أرقام الميزانيات منذ العام 2005،ـ يكتشف تغييراً مهماً في التركيب الهيكلي للإنفاق العام يتضمن تراجعاً عن دور الدولة التنموي، وقد كان لهذا التراجع انعكاسات سلبية عدة على المجتمع، وعلى الاقتصاد الوطني، بالإضافة إلى أن الإجراءات الاقتصادية التي اتخذت خلال تطبيق نهج اقتصاد السوق، قد وضعت سورية في خانة الخطر، وشكلت التربة الخصبة لما شهدته سورية منذ أكثر من عام.
النقابات تحذّر
حذرت نقابات العمال من تراجع الإنفاق الاستثماري، وقال تقرير الاتحاد العام في عام 2007، إن التخلي عن القطاع العام أو افتعال العقبات في وجه تطويره يؤدي إلى تفكيك القواعد التي يستند إليها النظام السياسي في سورية، والقطاع العام في المرحلة الراهنة، وفي المستقبل أيضاً، هو من أركان الحياة الاقتصادية الأساسية، وهو الذي يعول عليه في تحقيق النمو الاقتصادي، واللاعب الأساسي في الاقتصاد المخطط، وفق منهج التخطيط الاستشراقي كما أنه الداعم الحقيقي للقطاع الخاص، وكان القطاع العام خياراً تنموياً تمت تحت مظلته إنجازات هامة. في الخطة الخمسية العاشرة، خصص سنوياً 21 مليار ل.س لإصلاح القطاع العام، وتساءلت النقابات هل تكفي 21 ملياراً بقيمتها الحقيقية وليس الاسمية، أي بعد خصم معدلات التضخم منها، هل تكفي للنهوض بالصناعة في القطاع العام وتطويره تكنولوجيا وتحديثه إنتاجياً، ورغم ذلك لم تصرف المبالغ بالكامل.
لم تخصص مبالغ لإصلاح الشركات المتعثرة
في موازنة العام الحالي، قال وزير المالية أن نهج الحكومة لن يكون تقشفياً، ونحن نعلم أنه لن يكون تقشفياً إلا في دعم القطاع العام وإصلاح شركاته لذلك منذ سارعت الجهات الوصائية إلى ما اتخذته الحكومة السابقة بعرض عقارات 37 شركة في القطاع العام إلى البيع وتخصيص المبالغ المتحصلة من بيع هذه العقارات لإصلاح بعض الشركات، وحتى الآن لم يتخذ أي إجراء، ولم يخصص لإصلاح الشركات المتعثرة أية مبالغ باستعراض ما خصص خلال عام واحد لمؤسسات تمثل الأمن الغذائي نصاب بالعجب!..
تم خلال عام 2011 طحن كمية 2011894 طناً من الأقماح في مطاحن القطاع العام، وفي مطاحن القطاع الخاص تم طحن 857160 طناً المطلب الدائم منذ أكثر من 10 سنوات تجهيز أربعة مشروعات مطاحن حكومية وهي مطاحن سنجار والباب ودير حاضر وتلكلخ، وللعمل تم بناء مطحنة سنجار منذ 25 عاماً آنذاك بكلفة 500 مليون ل.س وطلب آنذاك مسؤول كبير بالتوقف عن تجهيز المطحنة لأنه يريد إقامة مطحنة في نفس المنطقة، وتم إيقاف المطحنة وأصبحت مرتعاً للقطط والكلاب منذ ذلك التاريخ.
إبراهيم عبيدو رئيس الاتحاد المهني للمواد الغذائية يقول في هذا الصدد: «إن هناك مشاكل عديدة بتنا نعانيها مع المطاحن الخاصة، وهذا خير دليل على نجاعة القطاع العام في تأمين الدقيق لعموم المواطنين في الوقت والنوعية العالية»، ويستغرب عبيدو اقتراح الحكومة بدراسة أعطتها المطاحن الأربع للقطاع الخاص، ويقول: «إن هذا يوضح بما لا يدع مجالاً للشك بأن هناك من يسعى من أجل تكبيل القطاع العام وعدم الاستثمار فيه، ويعلق قائلاً: «هكذا تبدو حجة عدم وجود دراسات جدوى اقتصادية حجةً واهيةً أمام هذا التهافت في خصخصة أهم المرافق الاقتصادية العامة المعنية بشكل أساسي بأمننا الغذائي، وأحد أهم أعمدة أمننا الوطني».
مشهد متأزم
دفع هذا المشهد المربك الاقتصاد السوري إلى الأزمات، حيث يصرف على مشاريع هامة مبالغ كبيرة، وتقدم إلى رجال أعمال، ولا يهمهم الأمن الغذائي، والأهم أن تصب هذه الأموال في جيوب البعض، ورغم ذلك، فإن التصريحات الحكومية تتوالى عن النمو، وعن الاستثمار، ولنلق نظرة على الخطط الاستثمارية العجائبية في المطاحن أيضاً خلال عام واحد فقط:
مشروع بناء المستودعات الاعتماد 20 ألف ل.س الإنفاق 3885 ل.س نسبة التنفيذ 20%.
مشروع استبدال وتجديد مطاحن قديمة الاعتماد 268954 ل.س الإنفاق 204257 ل.س نسبة التنفيذ 76%.
مشروع شراء سيور ناقلة الاعتماد 1046 ل.س الإنفاق 1046 ل.س نسبة التنفيذ 100%.
مشروع توسيع الصوامع الاعتماد 8000 ل.س الإنفاق 7216 ل.س نسبة التنفيذ 90%.
مشروع إنشاء مطاحن آلية جديدة الاعتماد 2000 ل.س الإنفاق 900 ل.س نسبة التنفيذ 45%.
المضحك المبكي
ألا تدعو هذه المبالغ المخصصة للاستثمار في المطاحن إلى السخرية؟! وهي مضحكة ومبكية في آن واحد، والأرقام ليست بحاجة إلى تعليق، تخصيص 2000 ل.س (ألفي ليرة سورية فقط لا غير) لإنشاء مطاحن آلية جديدة!! وهل يحق لنا أو لأي وزير أو مسؤول يسأل عن أسباب عدم تنفيذ تلك الخطط الاستثمارية؟!
الخطط الاستثمارية في القطاع العام هي كذبة كبرى، وإذا كانت الخطط الاستثمارية مجال رحب وواسع لصرف الأموال على التجار والسماسرة والمتعهدين ولشراء الولاءات، فقد أصابت المبالغ «الفلكية» التي ذكرت.
وفي الصوامع أيضاً
منذ 10 سنوات حصل انفجار غباري بالصومعه المرفأية باللاذقية، ومنذ ذلك التاريخ لم تفكر أية جهة بإعادة بناءها وتطويرها، والنقابات تطالب منذ 10 سنوات الإسراع بإنجاز مشاريع التخزين للتخلص من أسلوب الشراء والتخزين بالأكياس والعراء وما يكلف ذلك من اتفاق. كما تطالب بإنشاء صومعة مرفئية حديثة وبطاقة عالية لاستقبال بواخر بحمولات كبيرة. علماً أن في سورية 22 صومعة اسمنتية موزعة في إنحاء سورية بطاقة تخزينية نظرية إجمالية 3580 ألف طن.
لم ينفذ شيء طبعاً، وذلك تحت تبريرات عديدة أبرزها، ضعف التمويل من الدين العام لمشاريع الخطط الاستثمارية بسبب انخفاض السيولة لدى الشرك،ة والصعوبة في تنفيذ الخطط الاستثمارية، والتقصير بسداد الالتزامات المالية، وخاصة التسهيلات الممنوحة من المصرف التجاري.
أما الأمن الغذائي!
كان للقطاع العام الدور الأساسي في تحقيق الأمن الغذائي في الثمانينيات من القرن الماضي، وكان يلعب ذلك الدور عبر توفير حلقات التسويق المختلفة وحلقات التصنيع، أما الآن فقد تم انتهاك هذا الأمن من خلال سياسة اقتصادية تعمل على ضرب التنمية في الصميم، حيث تبلغ تكاليف إنشاء المطاحن الأربع أربعة مليارات ل.س، وطرحت للاستثمار بإعلان عالمي، وقدم عرض مع شركة تركية بمبلغ 53 مليون يورو، ورفض العرض، وطرح رأي آخر باعتماد أسلوب BOT استثماراً، علماً أن الدولة تدفع للمطاحن الخاصة ثمن الطن 845 ل.س أي ما يعادل مليار ل.س سنوياً، وهذا المبلغ يكفي لتجهيز المطاحن الأربع.