الجامعيون في صدارة العاطلين عن العمل.. البطالة إلى 30%.. وسوق العمل مفتوحة لغير المؤهلين!
يخفي أحمد شهادته الجامعية في خزانة أمه العتيقة، ومن بين مجموع الشهادات التي حازها يعتز بأولها، فالابتدائية بقناعته التي يقول بأنها جاءت عن وقائع وتجارب أثبتت أنها (الابتدائية) خير شهادة، وفيها رزق كثير، وجميع أصدقاء دراسته الذين توقفوا عندها، ولم يكملوا تعليمهم استطاعوا أن يؤسسوا أسراً ويبنوا بيوتاً، وأما هو فيعيش على أمل أن تحدث إجازة اللغة العربية نقلة نوعية في حياته.
أما أميرة فتتقدم إلى مسابقة تثبتها كمدرسة أصيلة بعد عشر سنوات من التعليم بالساعات، وبراتب كل ثلاثة أشهر.. تقول: أتمنى لو أنني بلا شهادة جامعية، فأنا أعامل كمن تحمل ثانوية، ولو أنني سعيت لأي وظيفة أخرى لكنت أفضل حالاً.. صديقتي السكرتيرة التي لا تمتلك إلا شهادة (مكياجها) أستدين منها ما يبقيني على قيد الحياة ريثما أقبض راتبي.
قصتان من وحي بطالة الجامعيين السوريين في فورة التكنولوجيا، والحديث الحكومي عن تطوير وتحديث هيكليات العمل الحكومي، والاستعانة بالخبرات السورية التي ترقد بسلام في بحر البطالة الذي تجاوز الـ 30% بعد الأحداث التي تشهدها البلاد منذ ما يقرب العام.
اعتراف فاضح
تقرير حالة السكان في سورية للعام 2010 يفضح ما وصلت إليه أوضاع شرائح كان من الممكن لو استخدمت ودخلت سوق العمل دون حسابات شخصية وأنانية أن ترفد الاقتصاد السوري، وتحدث تطوراً خلاقاً في بدائية العمل الحكومي الذي ما زال يعتمد (التوريق)، ومراسلات الخمسينيات في وقت يقف فيه الشباب هنا على أبواب مقاهي الانترنت بالدور ليبحثوا عن وظائف في عالم افتراضي تمكنوا من التهامه، أما العمل الحكومي فما زال يدور في بريد الموظفين والمدراء والوزراء لشهر وأسابيع لانجاز معاملة بسيطة لمواطن.
يقول التقرير: (زيادة بطالة الحاصلين على التعليم الجامعي من 2.6% عام 2004 إلى 6.7% في عام 2009)... أي حوالي ضعفي الجامعيين انضموا إلى سوق البطالة مما يعني أننا وضعنا أجيالاً في خانة العاجزين الذين يشكلون عبئاً على الدولة والمجتمع، أو في أحسن الحالات عقولاً مهاجرة خارج الوطن.
يتابع التقرير قراءة وقائع مفزعة عن زيادة البطالة في فئات التعليم المتوسط والعالي، وأما في الأسباب فتعود إلى اقتصاد يتسم بالضعف التكنولوجي والتنظيمي نتيجة لهيكليته التي تعتمد على قوة عمل غير مؤهلة تأهيلاً عالياً.
قائمة جديدة
لا تتوقف القائمة عند الجامعيين بل تتعداهم إلى شرائح جديدة ومن مختلف الفئات انضمت بسبب الأحداث الأخيرة، وقبلها ساهم قانون العمل الذي سمح بالتعامل بين صاحب العمل والعامل على مبدأ غير متوازن يضع العقد حاسماً في خلافهما، فكيف يمكن الركون إلى عقد بين المال واليد العاملة المحتاجة للعمل، وكيف يكون العقد متوازياً بين رب عمل، وعامل لا نقابة تحميه ولا قوة.
أضف إلى ذلك ما انتقده وزير العمل من ثغرات في قانون العمل تجيز ظلم العامل بدل أن تحميه، حيث يمكن لصاحب العمل أن يطرد العامل ولو أعاده القانون،إذ يستطيع أن لا يعيده بسبب العجز في تشكيل محكمة عمالية قادرة على إنصاف العامل.
الأحداث الأخيرة كما تفيد بيانات مؤسسة التأمينات الاجتماعية أفقدت 70 ألف عامل وظائفهم، وهذا بسبب إغلاق عدد كبير من المعامل والشركات، وتدهور أوضاع الكثير من العاملين في القطاع الخاص بسبب العقوبات الاقتصادية، وعدم تمكن بعضها من دفع رواتب هؤلاء الموظفين والعاملين.
بعض الشركات التي عملت لسنوات قليلة قلصت ساعات العمل، وأنقصت أجور عامليها إلى النصف مما اضطر الكثير منهم إلى ترك العمل، والبحث عن فرص جديدة، أو القبول بعروض أعلى بقليل، والبعض ارتضى الهجرة حلاً ولو كان أكثر قسوة.
هذا عدا عن أعداد كبيرة من غير المسجلين في التأمينات الاجتماعية نتيجة الفساد وقصور القانون، وأعداد كبيرة من المشتغلين في مهن متواضعة، واقتصاد الظل الذي رسخته الأحداث كأبرز الملامح الكبرى لاقتصادنا.
اقتصاد يدعم البطالة
هل تساهم بنية اقتصادنا في ارتفاع أرقام العاطلين عن العمل، وهل اقتصاد بهذه المواصفات يحتاج إلى يد عاملة رخيصة وغير مؤهلة.
يقول تقرير حالة السكان في سورية: (تبين نتائج مسح سوق العمل للعام 2009 تراجع معدلات بطالة فئة العمال الحاصلين على تعليم ابتدائي فما دون إلى 45.5% بعد أن كانت 69.5% من إجمالي العاطلين عام 2004، في الوقت الذي ازدادت نسبة الحاصلين على تعليم ثانوي بين العاطلين عن العمل من 11.4% في عام 2004 إلى 19.8% في عام 2009، وازدادت نسبة بطالة الحاصلين على تعليم معهد متوسط من 4.9% في عام 2004 إلى 12.5 في عام 2009).
الأرقام تشير بلا أدنى شك إلى أن سوق العمل السوري الذي يفد إليه 250 ألف شخص سنوياً يستعمل أصحاب الشهادات الدنيا، واليد العاملة غير الخبيرة، بنسبة تفوق أولئك الحاصلين على الشهادات العليا وأصحاب الكفاءات العلمية.
لم يستثن التقرير الضرر اللاحق بأصحاب الشهادات المتوسطة، والذي يمكن استخدامهم في أعمال مهنية، وخصوصاً بعد أن قامت الحكومة بافتتاح معاهد مهنية تعهدت بتوظيف خريجيها، وتدريبهم تدريباً ذا مستوى عال، وهؤلاء كان من الممكن أيضاً أن يرفدوا قطاعات شارفت على الانهيار، ويمكن أن يقدموا خبرات تساهم في صياغة اقتصاد جديد ينقلب إلى الانفتاح.
مهن جامعية جديدة
البطالة أجبرت الجامعيين على العمل في مهن مختلفة من أجل البقاء على قيد الحياة، والمد التكنولوجي الذي دخل إلى البلاد خلق فرص عمل جديدة، فالبعض ممن تخرج من كليات المعلوماتية اختار أن يفتتح صالة لمستخدمي الانترنت، وبعضهم عمل في صيانة الجوالات.
آخرون وجدوا ضالتهم في العمل ضمن قطاعات تحتاج إلى من يتقن اللغة الأجنبية وبعض الدبلوماسية والأناقة، وهذا ما أمنته بعض الشركات العاملة في قطاعات التأمين والبنوك الخاصة.
الجامعيات ممن اتسمن بالجمال وإجادة المحاسبة والتعامل مع الزبائن استخدمتهن شركتا الاتصالات، وأخريات وجدن في السكرتاريا مهنة لا بأس بها حتى يفرجها الله أو تتغير المعايير.
أما (يامن) فقد اضطر للاستعانة بمدخرات والده، وانتقى مكاناً يقول عنه أنه استراتيجي لافتتاح أكبر محلات الفروج المشوي والبروستد على طريقة (كنتاكي).
خالد عاد إلى مهنة والده المرحوم بعدما ظن أن شهادته ستغير انطباعات مجتمعه عن أسرته، ويعيش اليوم في أطراف دمشق مع أسرته الصغيرة أما عمله ففي محل للألبسة في إحدى مدن ريف دمشق.
خريج اللغة العربية (حسين) الذي كان يحلم بأن يكون شاعراً كبيراً.. الأيام الصعبة أثناء الدراسة قادته لأن يعمل متعهداً لعمال النظافة في جامعة دمشق، واليوم يعتبر حسين المتعهد الكبير لهذه الأعمال، وتتوالى عقوده.. والشاعر مات.
خلاصة لا تبشر
يتهم التقرير في خلاصته الحكومات المتعاقبة وسياساتها التعليمية والاقتصادية في ارتفاع النسب المخيفة لأعداد العاطلين عن العمل، ويربط بين خططها التعليمية التي اعتمدت سياسة الاستيعاب غير المدروسة، وبين ضعف مستوى تطور بنى الإنتاج في الاقتصاد الوطني، وهيمنة البنى التقليدية.
يقول التقرير: (إن التحسن في البنية التعليمية للقوة البشرية لم ينعكس بتحسن كاف في بنية المشتغلين التعليمية نتيجة لعاملين أولهما: يتمثل بضعف مستوى تطور بنى الإنتاج في الاقتصاد الوطني واستمرارية هيمنة البنى التقليدية فيها، حيث يمثل انسجام عرض قوة العمل معها ركوداً تعليمياً وثقافياً، وهنا ليس النظام التعليمي المطالب بتوفيق مخرجاته مع الطلب في سوق العمل بل المطلوب من السياسات الاقتصادية تحفيز القطاع الخاص لتطوير بناه الإنتاجية وهياكله التنظيمية، لاكتساب قدرات إنتاجية وتنافسية أكبر.
أما العامل الثاني فيتمثل بمواكبة التطور الحاصل على مستوى الثورة العلمية والتقنية العالمية، وتطوير الفروع التعليمية والمناهج بما يتناسب والتقدم المتحقق على صعيد الإنتاج والإدارة، لكن جميع ما سبق يصطدم بمفهوم القبول الجامعي حيث انتهجت الحكومة السورية خلال العقود الماضية سياسة الاستيعاب في التعليم العالي، حيث كانت الأعداد المقبولة سنوياً في جميع الاختصاصات تنطلق من منطلق وحيد يتمثل بالطاقة الاستيعابية للكليات والمعاهد، ما أفرز أوضاعاً سلبية على سوق العمل أفضت إلى معدلات بطالة مرتفعة لبعض الاختصاصات، والهدر التعليمي الذي يتجلى في أن نسبة غير قليلة من المتعلمين يعملون في مجالات بعيدة عن اختصاصاتهم، أو أنهم يمارسون أعمالاً هامشية لا تتناسب مع مستوى تحصيلهم العلمي، ويتمثل الفشل بهذه السياسة أيضاً باختلال جغرافي من حيث مواكبة تطور الموارد البشرية مع متطلبات التنمية).
بطالة الاختصاص
يرى البعض أنه بالرغم من حصوله على فرصة عمل تعود عليه بدخل مقبول إلا أنه يعيش حالة بطالة أكثر ممن يجلس في البيت، وهؤلاء ممن يعملون في مكاتب إدارية في غير اختصاصاتهم.. كأن يتم مثلاً تعيين خريج معهد تمريض رئيساً لديوان بلدية، أو خريج حقوق مشرفاً على (وردية) في فرن آلي.
مما يشعرك بالأسف يقول مهندس ميكانيك: الفرن الآلي الذي تكلف أعمال الترميم والصيانة لخطوطه أرقاماً فلكية يديره عامل فئة ثانية يحمل شهادة (البكالوريا) بعد أن يتم إقصاء مهندس شريف كان يقوم بصيانته بخبرته الواسعة مع عمال الفرن، والنتيجة كانت أن المدير المهندس وضع بأعمال إدارية في شركة المخابز، والمدير المدعوم لا يأبه بكل الشكاوى التي يقدمها المواطنون بسبب الإنتاج السيئ من مادة الخبز.. فالمدير مدعوم.
في المدى المنظور
البطالة وظروف الإحباط التي يعاني منها الشباب السوري قادت الكثيرين إلى الخروج من الجامعة، وعدم الإيمان بجدوى التعليم الذي لا يوصل إلى وظيفة في أقل مواصفاتها حماية وجه الإنسان من العوز بعد أكثر من ربع قرن يقضيها في التحصيل العلمي ليصل إلى نهاية غير مشرفة، وكذلك أفقدت الأسرة إيمانها بالتعليم كحل لمشاكلها الاجتماعية والاقتصادية.
يعمل الكثيرون منهم ويدرسون في الوقت نفسه، وهؤلاء ما زالوا يراهنون على تحسن سياسات الحكومة، وتحسن الوضع الاقتصادي، ومنهم من يعمل في المطاعم، والتسويق، والترويج لبضائع وسلع استهلاكية.
فيما الحكومة الحالية التي تقع تحت تأثير العقوبات الاقتصادية، وضعف الموارد، وعجز في إيجاد حلول إبداعية للخروج من بعض أزماتها لا يمكن أن ينتظر منها سوى الاعتراف بهذه الأزمات.
يأمل بعض المتفائلين بأن يفلح قانون التقاعد المبكر في إزاحة الكم الكبير من العجائز الذين يقبضون على مفاصل المؤسسات، ولا يتزحزحون عنها بحجة خبراتهم الطويلة التي يمكن استبدالها بجامعي واحد..أما في المدى المنظور فالآفاق مفتوحة على أرقام متصاعدة إن لم تتخذ خطوات إبداعية يعتمد فيها على الشباب.