الاقتصاد الأخضر حلم من ورق... قانون البيئة الجديد أمام تحديات الجغرافية الملوثة
منذ ما يزيد عن عشرين عاماً (ليس نكأ للذاكرة) كان الطريق من المدرسة الثانوية إلى بيتنا خالياً من كتل الاسمنت العشوائي، وحضّرت لامتحانات البكالوريا في البساتين القريبة من حيّنا الصغير، ولست أنسى طعم (توت السياج) الذي طبع في ذاكرتي مع كل صفحة أقلبها من كتاب التاريخ.
اليوم الطريق إلى بيتنا لا فسحات فيه، ولا توت سياج في البساتين التي صارت مجموعات صغيرة من الأشجار الفزعة من القطع، والفرن الآلي الذي كان علامة وعنواناً اختفى بين الأبنية الشاهقة.
النهر الصغير دائم الجريان والذي كان يسمى (المخنونة) لأنه يتحول صاخباً أيام ذوبان الثلوج في أول الربيع، تحول إلى حاوية طويلة، وأما الهواء الذي يؤمه المتشوقون فما زال يحوي بعض الأوكسجين.
هي روايات الجميع نفسها عن تحولات البيئة في سورية.. من واحة تنفس غنّاء إلى مستنقعات اسمنت لا تنتهي.. ماء وهواء وأرض.
قانون بيئة جديد
الخبر الحكومي يتحدث عن قانون جديد للبيئة غايته إرساء القواعد الأساسية لسلامة البيئة وحمايتها من التلوث وتحقيق التنمية البيئية.
القانون كما جاء في الخبر يضع خارطة طريق لإنقاذ البيئة السورية من التدهور الكبير الذي طالها نتيجة الفساد أولاً، ومن ثم تأتي مفردات الإهمال الحكومي، وضعف التنسيق بين القطاعات، والفشل في اعتبار البيئة منهجاً أساسياً من أجل صياغة خطط التنمية، ضعف الوعي العام بشأن البيئة، وغياب الضوابط الردعيّة لحماية البيئة، ونقص المسوح البيئيّة الشاملة وقواعد البيانات، ونقص السياسات القطاعيّة الواضحة الهادفة إلى تخفيف الأثر البيئي لممارسات التخطيط السابقة مما يؤدي إلى ضرر بيئي جلي ( كما جاء في ملخص الخطة الخمسية العاشرة حول المشاكل والتحديات التي تواجهها البيئة.
الخارطة الجدية يقضي بتعديل الفقرة /ج/ من المادة /1/من القانون /273/ لعام 1956 بما يعطي الحق لمجلس المدينة والبلدة والبلدية أن يملك الأرض أو جزءا منها لصاحب البناء أو الغراس أو الزرع بعد التثبت من ملكية البناء، أو استثمار الأرض بالطرق المعتبرة قانوناً، ووفقا للضوابط المحددة في مشروع القانون.
بين القانون والبيئة.. ثغرات
حول القانون الجديد قالت كوكب الداية وزيرة الدولة لشؤون البيئة إنه من خلال التطبيق العملي للقانون رقم /50/ لعام 2002 الخاص بحماية البيئة تبين وجود ثغرات، ونقاط ضعف فيه حالت دون تحقيق الغاية التي صدر القانون /50/ من أجلها، وهي حماية البيئة، ومكافحة التلوث البيئي، وبناء على ذلك عملت الوزارة على إعداد مشروع القانون الجديد للبيئة بديلاً عن القانون /50/ متلافياً تلك الثغرات.
هنا نصفق للوزيرة الداية التي اعترفت بقصور القانون 50 عملياً، وحين صدوره ككل القوانين التي صدرت في عصر الانفتاح الذي قادته الحكومة المنصرمة اعتبر القانون انجازاً سينقض على كل ما خربته سنوات إهمال البيئة السورية، والسيل الجارف للمخالفات التي عمرت أحياء جديدة، ولكنها هدمت الطبيعة البريئة، وكذلك ترك الصرف الصحي بأيدي المتعهدين الذين جمعوا الملايين مقابل تربة ملوثة ومشاريع ناقصة.
الوزيرة الداية تضيف على أن القانون الجديد يتناول مواضيع لم تكن مطروحة في القانون 50 ومنها عناصر البيئة – تلوث البيئة – التدهور البيئي – المادة الخطرة – المادة المقيدة – المادة الضارة، وكما يتضمن القانون مهام جديدة أنيطت بالوزارة، ومنها ما تقوم الوزارة بتنفيذها وحدها أو بالتعاون مع الجهات المختصة.
المفتش البيئي
تقول الوزيرة الداية إن من المهام التي ستقوم بها الوزارة عملاً بالقانون الجديد، وفي سبيل الحد من التلوث البيئي الحاصل والسعي للحد من ظهور أية مشكلات بيئية أخرى تهدد بضرر محتمل للبيئة... سيتم إجراء تقييم دوري لمنحى ووضع التلوث في عناصر البيئة، و تشكيل باحثين في الوزارة للقيام بالبحوث العلمية البيئية التي تساهم في معرفة المشكلات البيئية وطرح الحلول اللازمة لها.
ولكن الجديد الذي ربما نجد أنه من الضروري التوقف عنده كونه يتشابه مع نظراء له في وزارات أخرى، هو المفتش البيئي، والغاية كما تقول الوزيرة: (بهدف مراقبة إجراءات المعالجة المطلوبة من كافة النشاطات والمنشآت التنموية فقد أوجد مشروع القانون تسمية المفتش البيئي من العاملين في الوزارة وأعطاه الحق في دخول الأماكن التي تحددها الوزارة بالتنسيق مع الجهات المختصة لتفتيشها من الناحية البيئية).
في وزارة العمل وتحديداً في أهم مفاصل عملها قام مفتشو مؤسسة التأمينات الاجتماعية بالمساهمة في عدم تأمين آلاف العمال في القطاع الخاص بثمن قليل، وقد يجد البعض فيه اتهاماً واضحاً ولكن التجربة العملية التي أوصلت إلينا شكاوى لا تعد من عاملين في ورش ومعامل صغيرة، ووسط أجواء عمل قاسية وصل بعضها إلى إصابة غالبيتهم بالربو في بعض المنشآت التي تقص الرخام وخلائطه.
هل تردعهم التعويضات
القانون الجديد يمتلك سلاحاً بحدين في التعامل مع المفتشين، يغريهم من طرف ويهددهم من طرف آخر، تقول الدكتورة الداية: (خصصت له تعويضات مناسبة وبالمقابل فرض عليه عقوبات في حال التغاضي عن المخالفات).
ولكن، ماذا لو كانت التعويضات على النموذج الحكومي حوافز شهرية 500- 2000 ليرة، وفي المقابل كانت الرشاوى المقدمة من مخالفين متخمين وبأرقام خيالية تعجز أمامها التعويضات الصغيرة، وهذه الحال تتشابه في تجارب سابقة.
ومن ثم يأتي السؤال الآخر الذي تولده الصلاحيات التي تحدثت عنها الوزيرة لهؤلاء المفتشين: أعطاه (القانون) الحق في اقتراح الإغلاق الفوري للأماكن التي تستوجب مخالفاتها البيئية هذا الإغلاق ، وذلك في حال عدم تنفيذ الاشتراطات البيئية المطلوبة وانتهاء المهل المعطاة لتنفيذها)... هل ستكون هذه الصلاحيات سيفاً لابتزاز المخالف برشا أكبر.
نحن بالنهاية لا نتمنى أن يتشابه عمل مراقبي البيئة مع عمل مفتشي التجارب السابقة فاللعبة هنا قاتلة، ونكون قد جربنا سيوفهم في الإنسان والأرض التي يعيش عليها.
الاقتصاد الأخضر
للوصول إلى الاقتصاد الأخضر تضمن القانون حسب الوزيرة الداية ما يسمى بمواد محفزة: (ودعماً للتوجه نحو الاقتصاد الأخضر أوجد القانون مواد محفزة لحماية البيئة نصت على إعفاء التجهيزات والتقنيات والمواد الأولية المستوردة والتي تسمح بتفادي أو تقليص أو القضاء على أشكال التلوث بنسبة 50% من الرسوم الجمركية، إضافة إلى منح تخفيضات ضريبية لكل من يقوم بنشاطات تساهم في المحافظة على البيئة).
ترى هل ستعيد المحفزات الأراضي التي فقدتها غوطة دمشق بسبب الدباغات ومعامل الرخام التي أحرقت الأرض، ولوثت التربة بما يجلب أمراضاً عضالاً لن تنتهي بعشرات السنين؟
هل ستعيد المحفزات ما خسرناه من سقاية الأراضي بمياه الصرف الصحي على امتداد خطوطه في الغوطة وصولاً إلى بحيرة العتيبة؟.
هل ستخلص المحفزات مياه الآبار من تلوثها من اعتداءات الصرف الصحي والحفر الجائر على طول حوض بردى؟
هذه الأسئلة يراد منها أن لا ينسى المفتشون والوزارة دورهما في حماية ما تبقى لنا من إمكانيات الحياة كسوريين وسط بيئة أكلها الفساد أولاً والتلوث أخيراً.
الوعي البيئي.. المدرسي
لا يهمل القانون الجديد أهم مفردات حماية البيئة وهو الوعي البيئي، والذي تجسد حسب (الداية): (لتعزيز مشاركة المجتمع الأهلي في حماية البيئة تضمن القانون دعم الجمعيات البيئية، ومنظمات المجتمع الأهلي العاملة في مجال البيئة لتفعيلها وتسهيل نشاطاتها).
تصف دراسة تخصصية للبيئة الطبيعية والحيوية وتدهورها في سورية أعدت في عام 2008 الحماية البيئية بأنها تُفهم على نطاق واسع مهمة حكومية صرفة، وليس كمهمة المجتمع بأسره، وأما عن دور المجتمع فالمجتمع المدني يلعب دوراً صغيراً نسبياً في الحماية البيئية، وما زالت مشاركة الشركاء المعنيين في اتخاذ القرارات البيئية في بداياتها الأولى، وأن عدد المنظمات غير الحكومية في سورية مازال صغيراً نسبياً، ولها قدرات محدودة جداً للعب دور فاعل في صنع القرار البيئي من جهة وتنفيذ المشاريع البيئية ذات التأثير الكبير من جهة أخرى.
أما عن المشاركة الشعبية فتقول الدراسة بأنها ما زالت ضعيفة أيضاً في صنع القرار فيما يخص مشاريع الاستثمار، ورغم أن إجراءات تقييم الأثر البيئي تتنبأ بالمشاركة الشعبية الفاعلة، تبقى هذه الإجراءات في حاجة إلى تطوير وترسيخ أكثر في سورية.
وبشأن الوعي البيئي ترى الدراسة أنه ما زال في بداياته في سورية، كما يمكن أن يظهر في التعامل غير الحذر مع المشكلات البيئية، وحين يتجاوز تلوث الهواء أو الماء على سبيل المثال الحدود القصوى الموضوعة من منظمة الصحة العالمية لا يتم عادة إغلاق مصادر التلوث على الفور، ويعاني السكان الذين يعيشون في النقاط الساخنة للتلوث ذات التجمعات الصناعية الكبيرة على الأخص كثيراً من التعامل غير الكافي لضبط التلوث.
في التحديات الأساسية
هل ستتجاوز الحكومة الحالية ممثلة بوزارة البيئة جملة التحديات التي وردت في خطة العمل البيئية الوطنية التي صدرت عام 2003، والتي تتضمن التحديات البيئية الكبرى في سورية.
التحديات التي كان من واجب الحكومة المنصرمة تجاوزها لم تزل قائمة، ومنها المعالجة السيئة لمياه الشرب الملوّثة، ونقص شبكات مياه الشرب والصرف الصحي في بعض المناطق الريفية، والتكاليف المرتفعة المرتبطة بتوفير موارد مائية بديلة نتيجة استنزاف موارد المياه السطحية والجوفية، وتدهور التربة وتلوّث الأراضي، وتراجع مساحات الأراضي الزراعية بسبب تملح التربة، والحت المائي والريحي، و الاستخدام غير السليم للأرض والتصحّر.
أما في تلوّث الهواء فجملة التحديات كانت زيادة أعداد المرضى، وارتفاع تكاليف معالجة الأمراض المنقولة بالهواء نتيجة تأثير ملوّثات الهواء على صحة البشر.
في تدهور المناطق الحضرية تحديات الإسكان غير المنظّم، وتلوّث المياه برشح مكبات القمامة، والتكاليف المرتبطة بموارد المياه والكهرباء غير المشروعة.
التحديات التي تواجهها الطبيعة السورية كانت أكثر خطورة وتحدياً ومنها فقدان الموارد الطبيعية والتنوع الحيوي، وتدهور الحيوان والنبات، بما في ذلك التنوع الحيوي البري منه والمائي، تأسيس المناطق المحمية وإعادة تأهيلها.
لن ندخل في الأرقام التي تحتاج إلى مراكز بحث ودارسين متخصصين، ولكننا نقف أمام جملة تحديات ليست هينة، وتستلزم إرادة للخروج من مأزقنا الحضاري والإنساني خصوصاً إن أدركنا أننا نفقد تراثنا الثقافي كجزء هام وأساسي من بيئتنا، والتي تشكل المواقع الأثرية المنسية تاريخنا وذاكرتنا.