اليوان.. معضلة بحجم الصين للنظام النقدي الدولي! (2/2)
استكمالاً للمادة المنشورة في العدد (737) بعنوان (اليوان.. إصلاح النظام الدولي.. استيعاب أم تغيير؟!)، نستعرض في هذا العدد قراءة أهم أبعاد اعتماد العملة الصينية (اليوان) كإحدى مكونات سلة حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي.
ليس من الصعب التأكيد على أن النظام النقدي والمالي الدولي بات مطرحاً للتغيير أو الإصلاح، فهذا النظام تغير مرات عدة على وقع الأزمات الاقتصادية الكبرى، إلا أنه تغير في كل مرة وفق اتجاهات التغيرات الاقتصادية الكبرى في المنظومة الرأسمالية ووفق مصالح مراكزها الرئيسية، أما اليوم فهو محكوم بإعادة توزيع مراكز القوى العالمية الإنتاجية التي لم تعد تحتكرها المراكز التقليدية الغربية.
الحاجة للتغيير في ظل آفاق الأزمة الغائمة
كان انقلاب نيكسون الشهير، على اتفاقية بريتون وودز، مطلع سبعينيات القرن الماضي أبرز التعديلات في هذا النظام بعد أزمة اقتصادية أواخر الستينيات، والذي مهّد الطريق للنيوليبرالية (إصلاحات تاتشر وريغان في الثمانينات).
اليوم وبعد ثماني سنوات من أزمة عام 2008 لا مخارج جدية للرأسمالية، وهذا ما أشارت له مؤخراً كريتسين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي عندما وصفت آفاق العام الجديد بالقول أن: (ضعف القطاع المالي باقٍ في العديد من البلدان ــ وتتنامى المخاطر المالية في الأسواق الناشئة. وسوف يكون النمو العالمي في عام 2016 مخيباً للآمال ومتفاوتاً بفضل اجتماع كل هذه الظروف) كلها!
وبناءً على هذه الآفاق وما سبقها من إرهاصات لتغيرات كبرى في الاقتصاد اضطرت الولايات المتحدة المهيمنة على النظام النقدي الدولي بفعل دور الدولار، لتقديم مزيد من التنازلات في كل الاتجاهات، وقد يكون أبرزها دفع صندوق النقد للقبول بدور اليوان في حقوق السحب الخاصة، خاصة وأن ملامح الركود ونقص السيولة الدولية تلوح في الأفق مع رفع الاتحاد الفيدرالي الأمريكي أسعار فائدته.
بين عوامل قوة اليوان وهيمنة الدولار!
لكن في حقيقة الأمر إن ما حدث حتى اللحظة لا يمكن اعتباره إصلاحاً أو تغييراً في أركان النظام النقدي الدولي، خاصة وأن الدولار لا يزال يشكل حوالي 43,3% من تسويات المدفوعات الدولية، ويليه اليورو بـ 28,6%، بينما يحل اليوان خامساً بـ2,5%، بعد الجنيه الاسترليني (9%) والين الياباني (2,9%) وذلك في خريف العام الفائت، كما أن إصلاح مثل هذا النظام يتطلب إجراءات أخرى مختلفة نوعياً. لكن ما يلاحظه المرء قبل هذا الإجراء أن حصة اليوان من التسويات الدولية نمت بمعدل (80%) من شهر كانون الثاني 2014 وحتى أيلول 2015، ما يسمح بالتكهن بأن الولايات المتحدة تستبق تطورات كبيرة على المدى المنظور.
يشار أيضاً إلى أنه وحتى عام 2014 شكّل الدولار 60% من احتياطيات البنوك المركزية من العملة الأجنبية، فيما شكّل اليورو 21%، بينما قلت نسبة كل من الجنيه الاسترليني والين عن 5%، بالمقابل أشارت التوقعات إلى أن حصة اليوان ستبلغ 5,5% من احتياطيات البنوك المركزية في السنوات الخمس المقبلة.
الثابت هو أن وضع الصين يتصاعد سريعاً، فهي أسهمت بربع النمو العالمي في عام 2015 متفوقة على الولايات المتحدة بذلك، وشكل ناتجها المحلي الإجمالي 17% تقريباً من الناتج الإجمالي العالمي في العام ذاته، كما تقول وكالة بلوبمبيرغ أن حصة اليوان من التجارة الدولية بلغت 13% حتى اليوم، ولا أحد يستطيع توقع تطورات وضع اليوان الجديدة بعد اعتماده كعملة احتياطيات دولية، وعليه فإن الولايات المتحدة مرغمة على التعاطي مع اليوان بطريقة جديدة.
معضلة بآفاق واسعة!
إن معضلة الولايات المتحدة، والنظام النقدي والمالي الدولي تتكثف بسؤال ذو طبيعة استراتيجية مفاده: هل سيدفع إعطاء دورٍ أكبر للصين في المؤسسات الدولية عمليات «إصلاح/رسملة» أوسع في الصين ما يشكل دعامة جديدة للقوى الرأسمالية المهيمنة على النظام النقدي الدولي؟ أم أن الدور الجديد للصين سيفتح ثغرات كبرى في بنى المؤسسات الدولية ما يهدد هيمنة الغرب ويفتح آفاقاً جديدة في اتجاهات الاقتصاد العالمي؟!
ليس من السهل الإجابة عن مثل هذا السؤال حقيقةً، خاصة وأن الأمور تحمل متغيرات كبرى يصعب التنبؤ بها، فعلى الصعيد المالي قد يؤدي هذا التحول إلى زيادة مضطردة للطلب على اليوان ما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره وهو ما سيؤثر سلباً على النمو في الصين ويشكل بشرى سارة للولايات المتحدة. لكن انخفاضات قيمة اليوان مؤخراً نتيجة التقلبات المالية في أسواق المال الصينية خفضت من قيتمه وأعادت احتمال اعتماد الصين على العملة الرخيصة في النمو. على الصعيد المالي أيضاً ووفق السيناريوهات الاستراتيجية سيؤمن دور اليوان الجديد مزيداً من التدفقات المالية للأسواق الصينية ما يعزز قدرات الصين الهائلة للنمو على كافة الأصعدة كافة.
وفي المقابل يرى بعض المحللين أن تحول الصين إلى نمط النمو المعتمد على الاستهلاك الموازي للسياسات النقدية الجديدة، قد يشكل إبطاءً للنمو الصيني في الداخل ويعزز آمال المنتجين خارج الصين الذين ينتظرون سماح الصين لدخول المنتجات الاستهلاكية من الدول المختلفة (علماً أن الاستهلاك شكل 51% من النمو في الصين في عام 2015).
التحرير ومسك العصا من المنتصف!
لا شك أن الصين قطعت أشواطاً في تحرير سياساتها النقدية في عام 2015، ومنها تحرير سعر الفائدة مؤخراً بالإضافة إلى إجراءات كثيرة في أسواقها المالية وسوق العملة، والتي يتحدث عنها أحد تقارير مصرفها المركزي (بنك الشعب الصيني) في عام سابق بالقول: (إننا نسعى للتقدم والتكيف مع الحالة الطبيعية الجديدة في التنمية الاقتصادية مع المحافظة على الاستقرار، ونعلق أهمية أكثر على التكيف الهيكلي والاستمرار في سياسات مالية نشطة وسياسة نقدية سليمة وتنفيذ سياسة لا توسعية جداً ولا إنكماشية جداً، وسوف تكون هناك جهود حثيثة لتعزيز الإصلاح وانفتاح القطاع المالي وتعميق الإصلاح الشامل مع رصد وتحليل المخاطر في المجالات الرئيسية لضبطها بإجراءات وقائية).
لكن تحرير الصين الذي تصفه بأنه (لا توسعي ولا إنكماشي) ما يشير إلى أنه تحرير متحكم به، لا يزال محط انتقادات غربية كبيرة، فهو يعاكس مصالح رأس المال العالمي الذي ينتظر تحرير أسواق رأس المال الصينية، والتي بلغت قيمتها السوقية في عام 2012 حوالي 4 ترليون دولار، ولا أدل على ذلك إلا حالة سوق هونغ كونغ الذي تتحكم الصين من خلاله بالطلب على اليوان، حيث تشكل سوقها حوالي 70% من الطلب على اليوان على المستوى العالمي ما يعني قدرة الصين على التحكم بشكل كبير في الطلب على عملتها.
ذراع الدولة الضاربة!
إن جوهر الانتقادات الفعلية لطريقة التحكم الصينية في اقتصادها الكلي عائد إلى دور الشركات الصينية المملوكة للدولة (SOE’s)، والتي يبلغ حجم أصولها حوالي 16 ترليون دولار، وهي ذراع الصين الضاربة في الاقتصاد العالمي، وذراع الصين الخفية في تنظيم العرض والطلب على الاستهلاك والاستثمار وحتى على موازنة الطلب على العملة الصينية، فهي تساهم بـ34% من القيمة المضافة في المجال الصناعي الصيني، ولذلك يطالب الغرب بالإسراع والمزيد من الخصخصة لهذه الشركات رغم مضي الصين في مشاريع خصخصتها ولكن ببطء شديد وبتحكم من الحكومة المركزية عبر مدراء تنفيذين تعينهم الحكومة في الشركات المخصخصة.
يقول أحد المعلقين في الصحف العالمية: إن الصين تقول أنها حررت اليوان وجعلته خاضعاً لقوى السوق أي العرض والطلب، ولكن الحكومة الصينية ذاتها هي المتحكم بالعرض والطلب على عملتها الوطنية، فأين التحرير؟! كما يضرب كاتب آخر مثالاً حول عدم جدية الصين في المضي في مجال اللبرلة، فيرى أن الاهتزاز الذي ضرب الأسواق الصينية وخفض قيمة اليوان في أيلول الماضي دفعها للتدخل في سوق العملة وضخ الدولار لموازنة سعر اليوان، فأي تحرير تتدخل فيه الحكومة مع كل تقلب؟!
لا ينكر أحد أن الصين حررت شيئاً واسعاً من اقتصادها، لكن من السذاجة التعامل معها على أنها دولة عالم ثالث ستدفعها سياسات الإصلاح والتكييف الهيكلي إلى مزيد من التبعية والخصخصة واللبرلة، ولا شك في أن ذلك التحرير المتحكم به إلى حدود بعيدة كما بينا هو محط انتقاد من قبل الاقتصاديين الجذريين، فالمرحلة تستدعي سياسات تدخلية أكبر في ظل الأزمة الرأسمالية المستمرة، ولكن في المقابل يمكن القول أن التنين الصيني فتح ثغره الواسع على مراكز العالم الرأسمالي، فمن سينجح في ابتلاع الأخر؟!