خميس أسود يودي بالخبز إلى مقصلة «عقلنة الدعم»
يوم الخميس الماضي، استهدفت سياسة «عقلنة الدعم» التي تنفذها الحكومة جرة الغاز، وليتر المازوت الذي يلهث وراءهما المواطن على أبواب الشتاء. وفي هذا الخميس الواقع بـ15/10/2015، أصدرت الحكومة قراراً برفع سعر الخبز من 35 إلى 50 ليرة للربطة، هذا، ولم يتبين بعد: هل سينخفض وزن الربطة المتعارف عليه بـ 8 أرغفة إلى 7 فقط، أم لا؟ في ظل أقاويل لم تنفها الحكومة بعد.
عشتار محمود
رفعت الحكومة سعر الخبز بنسبة 43%، وهو الارتفاع الأكبر في سعر المادة منذ بداية الأزمة. والرغيف السوري الذي كان يعتبر خطاً أحمر، تحمل مسيرة إنتاجه دلالات عميقة، حيث أن رحلة إنتاجه، من القمح إلى الأفران، وفق سلسلة من الدعم، يعبر تعبيراً بليغاً عن توزيع الحصص في سورية، حيث يلتهم الفساد الممنهج من مخصصات القمح المحلي والمستورد، ومن مخصصات استيراد الطحين، والخميرة، ثم تظهر حلقة النهب في توزيع مستلزمات إنتاج الرغيف، كحصة من الطحين والخميرة والمازوت المدعومة للأفران. وبعد هذا كله، يصل الرغيف أسمراً وذو رائحة غير مقبولة وبسعر متصاعد، لتقول الحكومة بأنه مدعوم ويجب عقلنته!
ستحصل الحكومة من هذا الرفع خلال عام واحد، على ما يقارب 9 مليار ل.س، على اعتبار كميات الإنتاج السنوية للمخابز الآلية والاحتياطية 778 ألف طن، حسب تصريحات رسمية حول إنتاجها نصف السنوي.
ثمن هذا الوفر الحكومي، سيكون غالياً على مخصصات الأسر السورية للغذاء، وحصتها من الأجور التي لم تعد تغطي الغذاء الضروري. إلا أن تحمل ذلك يبدو ثانوياً على أصحاب القرار، مقابل ناهبي مخصصات الخبز المدعوم بمراحله.
فيما يلي، تستعرض «قاسيون» ما تابعته خلال أعوام الأزمة، عن حلقات الفساد المرتبطة بالخبز بمراحله كافة:
فساد نقل القمح
خلال العام الحالي، خصصت الحكومة لشراء القمح من المزارعين مبلغاً قدره 70 مليار ل.س، وتم استلام قرابة 13,5% من الكميات المتوقع إنتاجها، وتدفع الحكومة مقابلها للمزارعين قرابة 25 مليار ل.س.
تمت عمليات نقل قمح عام 2014 المخزن في الحسكة، عبر وكلاء يعبرون مناطق سيطرة «داعش»، ويسلمونها نسبة 25% من القمح أو من قيمته، ويحصلون على تعويضات نقل تبلغ 28 ألف ليرة على الطن الواحد، والحسبة الإجمالية لحصة هؤلاء مع «داعش» بلغت 83% من قيمة القمح المنقول!
واستمرت العملية في نقل القمح في عام 2015، حيث تم تنظيم عمل شركات الضمان والنقل، التي احتلت حصة هامة من نقاشات وزير التجارة الداخلية المقال، حسان صفية، مع اللجان المسؤولة عن عمليات تسويق القمح ونقله.
استيراد القمح من فرنسا
أما حاجات القمح المتبقية، فقد تم تأمينها استيراداً، وكانت تتم عمليات الاستيراد من فرنسا حتى عام 2015..! حيث صرّح المسؤولون الحكوميون أمام مجلس الشعب، بأن الحكومة استلمت 300 ألف طن قمح فقط، وأنها تستورد القمح الآن من فرنسا لسد نقص الحاجات، وذلك بسعر 250 دولار للطن، واصلاً إلى الموانئ السورية، حيث استوردت الحكومة السورية القمح من فرنسا بسعر 250 $ للطن، أي بسعر 74 ل.س للكيلو غرام الواحد، وفق سعر صرف السوق، وهو سعر أعلى من السعر المدفوع للمزارعين بمقدار: 13 ل.س للكغ، لتحصل فرنسا وسماسرتها على عائد من الحكومة السورية أعلى من عائد المزارعين.
وقد كان سعر تصدير روسيا لطن القمح إلى مصر في الفترة ذاتها 212$ للطن، وهو أقل من سعر فرنسا بمقدار 38$، ولاستيراد 50 ألف طن فقط، تكون الخسارة، 1.9 مليون دولار.. وهذه الخسارات التي يتم السماح بها، هي تعبير عن التغطية على حصص السمسرة من علاقات مستوردي الحكومة مع الغرب على ما يبدو!
سمسرة الطحين والخميرة
أما استيراد الطحين، فقبل أن يتم اعتماد الائتماني الإيراني، تم استيراد 2.4 مليون طن، من فرنسا أيضاً، وبسعر حددته بـ 580$ للطن، بحكم أنه من الأموال السورية المجمدة، وهو يفوق أعلى سعر عالمي في حينه، والبالغ 328 $ لطن الطحين، بينما كان سعر روسيا 287$!.، أي حوالي 600 مليون دولار إضافية عن أعلى سعر عالمي..!
أما الخميرة، فوفق تصريحات لإدارة المؤسسة العامة للسكر في عام 2013، تبين أن تكلفة استيراد الخميرة الجافة في عام 2013 كانت 615 ألف ل.س للطن، وهي بسعر صرف 150 ل.س/$ في حينه، كانت تبلغ: 4100 $ للطن، بينما في بحثنا حول أسعار الخميرة الجافة عالمياً لم نر سعراً يفوق 3200 $ للطن..! أي بفارق 900 $ في الطن الواحد.
اللافت أنه، وبحسب مدير المؤسسة العامة للسكر، فإن كلفة معمل للخميرة الطرية في تل سلحب لا تتجاوز 5 مليار ل.س، بطاقة إنتاجية 50 طن يومياً، أي طاقة نظرية قرابة 15600 طن خميرة طرية سنوياً (مع احتساب أربع أيام عطل في الشهر)، قادرة على إيقاف عمليات استيراد الخميرة، ولكنها تؤجل، كذلك الأمر في مشروع مطحنة تلكلخ الحكومية الموقع عقدها مع روسيا منذ عام 2013، وتؤجل أيضاً!..
فوارق الاستيراد الحكومي السوري عن أعلى الأسعار العالمية، لا يمكن تفسيرها بكلف النقل والتأمين الناتجة عن العقوبات الاقتصادية، بل أن جزءاً هاماً منها يعود إلى استغلال الظروف المذكورة سابقاً، وتضخيم الكلف لنهب جزء من المال العام، عبر استيراد المستلزمات.
مستلزمات إنتاج الرغيف
تتم عملية إنتاج الخبز في الأفران العامة (الآلية والاحتياطية)، وفي الأفران الخاصة التموينية، عبر توزيع المستلزمات من الطحين والخميرة والمازوت بأسعار مدعومة للأفران، وتنحصر هذه الحلقة بالشركة العامة للمطاحن- المخابز التموينية العامة والخاصة المرخصة لهذه الغاية- وسائط النقل المتعاقد معها لهذه الغاية. ومع ذلك، يتم ضبط كميات كبيرة من الدقيق المهرب، في سوق سوداء هامة، تهرب جزءاً هاماً من الطحين المدعوم للسوق، وتسمح بتهريب الخميرة والمازوت المخصص لإنتاجها أيضاً إلى السوق السوداء، لتتشكل حلقة فساد هامة تستفيد من فروق كبيرة بين السعر المدعوم الواصل للأفران، وبين أسعار السوق. حيث 1 طن من الدقيق التمويني المهرب، يحقق بالحساب قرابة 80.000 ل.س بالحد الأدنى، وفق حسابات «قاسيون» في العدد (724).
بلغت كميات الدقيق المهرب المضبوطة في ريف دمشق فقط، خلال 8 أشهر، مقدار 300 طن! وهو ما يعادل 37 طن شهرياً، بقيمة تقدر بـ3 مليون ليرة سورية، فماذا عن مناطق البلاد كافة؟!
إن كل طن من الطحين المهرب من المؤسسات المسؤولة أو الأفران إلى السوق، يقتضي تهريب المخصصات المقابلة من الخميرة والمازوت، وبحسبة قاسيون كل طن يحقق خسارة 80 ألف ل.س هي ربح لسماسرة التهريب.
حلقات الفساد الكبير واضحة المعالم في إنتاج الخبز انطلاقاً من القمح ومخصصاته وكلف نقله واستيراده، مروراً باستيراد الطحين والخميرة، وانتهاءً بتهريب الطحين للسوق وتهريب مستلزمات المازوت المدعومة معه..! إن متابعتها ورصدها يتيح للحكومة عقلنة النفقات، وإعادة تحويل الموارد من حصص الفساد الهامة إلى نفقات ضرورية. إلا أن أصحاب القرار اختاروا عوضاً عن ذلك تقليص كميات الخبز في غذاء السوريين اليومي لتوفير بضعة مليارات. وفي هذا النوع من الخيارات، تتوضح طبيعة القرار الاقتصادي السوري، التي تعكس وزن الفساد وتحكمه بالقرار.