الخطة الخمسية الحادية عشرة تطارد الليرة!
مع استمرار ارتفاع سعر الدولار وانخفاض قيمة الليرة، تمر الكثير من التحليلات حول أسباب التراجع المستمر للعملة الوطنية، لا سيما أن محاولات تفسير ذلك التراجع كلها تحوم حول أداء المصرف المركزي المستمر بضخ الدولار لشركات الصرافة، والتي بدورها تقوم ببيعه بشكل رئيسي لطالبي الدولار وهم بأغلبهم من كبار أصحاب رؤوس الأموال.
وفقاً لعقلية المصرف المركزي فإن عمليات ضخ الدولار لأصحاب رؤوس الأموال تخفف آنياً الطلب على الدولار في السوق مما يهدئ من تراجع الليرة. ولكن سرعان ما يقل حجم الدولار في السوق مع عودة طلب كبار الرساميل لمزيد من الدولار وهو ما يشكل ارتفاعاً في الطلب عليه ما يؤدي إلى ارتفاع جديد في سعره وانخفاض لقيمة الليرة بالتالي. وتتكرر هذه العملية مراراً في الاقتصاد السوري دون أن يسأل أحد الأسئلة التالية:
أولاً- ما الذي يلزم المصرف المركزي ببيع الدولار لشركات الصرافة طالما أنه سيذهب لأصحاب كبار الرساميل؟
ثانياً- ما حاجة أصحاب الرساميل لمثل هذه الدولارات؟ وماذا يفعلون بها؟
ثالثاً- كيف تؤثر هذه العملية على قيمة الليرة وسعر الدولار الذي يرتفع كل مرة؟
السياسة النقدية.. تشرعن ذلك كله
الجواب عن السؤالين الأول والثاني يتلخص بكلمتين: إنها (السياسة النقدية)! والتي تفرض على المصرف المركزي بيع هذه الدولارات لشركات الصرافة، فطالما أن السياسة النقدية التي أقرها المصرف المركزي قبل الأزمة لم تتغير خلالها، فالمركزي ملزم وفق لهذه السياسة بالاستمرار بهذه الإجراءات، حيث ورد في بند السياسة النقدية في الخطة الخمسية الحادية عشرة، التي تعد استكمالاً للخطة الخمسية العاشرة، أنه وخلال السنوات 2011-2012-2013، فإن السياسة النقدية تعمل على:
- استكمال إلغاء ما تبقى من أنظمة الرقابة على النقد والعمل على إصدار دليل ينظم كافة التعاملات بالقطع الأجنبي.
- الاستمرار في تضمين كافة عمليات القطع الأجنبي داخل السوق الرسمية وإدارتها بكفاءة وفاعلية.
وهنا النصوص صريحة وواضحة، فالمركزي وفقاً لهذه السياسة المقرة ملزم بتنظيم عمليات بيع العملات الأجنبية كافة وعلى رأسها الدولار طبعاً داخل ما يسمى السوق الرسمية، والتي تشكل شركات الصرافة جزءاً منها. أي أن المركزي ملزم بالتعاطي معها وتنشيطها وتلبية طلبها في مواجهة السوق غير الرسمية (السوق السوداء) رغم أن هذه الشركات ليست إلا أذرعاً للسوق السوداء من حيث الممارسة.
كما أن فكرة (إلغاء ما تبقى من أنظمة الرقابة على النقد) هي أيضاً كلمة مفتاحية في هذه السياسة، حيث وفقها يتم التغاضي عن الكميات الكبيرة من الدولارات التي تستخدم لإدخار أصحاب كبار الرساميل، والتغاضي عن عمليات التبادل بالدولار لولا أنه تم منع هذه العملية بمرسوم رئاسي في عام 2013.
نزيف الرساميل سمة الأزمة
للجواب عن السؤال الثاني حول ما حاجة أصحاب الرساميل لهذه النقود وما يفعلون بها، فالجواب هو أمر سهل نسبياً، حيث يمثل أي تدهور اقتصادي ذريعة لأصحاب الرساميل كي يواجهوا انخفاض قيم ادخاراتهم أو رساميلهم المحفوظة بالليرة السورية باستبدالها بالدولار ولضمان أمثل لهذه المدخرات يتم تحويلها للخارج، وقد أشارت دراسات مؤخراً إلى نزيف رساميل بحجم 22مليار دولار إبان الأزمة، كما أن خبراء اقتصاديين قدروا أن نصف الودائع السورية البالغة عشية الأزمة 1600 مليار ليرة أي حوالي 800 مليار قد خرجت إلى خارج سورية. إن خروج هذه الأموال بهذه السلاسة ودون أية ممانعة من السلطات النقدية وعلى رأسها المصرف المركزي تشرعنه أيضاً السياسة النقدية التي تنص بشكل واضح على: (الاستمرار بالتحرير التدريجي والمضبوط للحساب الرأسمالي من ميزان المدفوعات) وهو ما يعني السماح لخروج الرساميل ودخولها إلى سورية دون أية ضوابط!.
العملية اللانهائية؟!
بالنسة للسؤال الثالث حول كيفية تأثير عمليات ضخ الدولار وادخارها بأيدي أصحاب الرساميل على سعر صرف الليرة، فيوضحه ما توصلنا إليه هذه السياسة حيث من المعروف أن قيمة الليرة مرتبطة بالإنتاج أي أن الضامن لليرة هو قدرة الاقتصاد السوري على إبدال أي حامل لليرة بمنتجات معينة، وفي حال تراجع حجم هذه المنتجات تضعف قدرة الاقتصاد على تلبية حاجات مختلف الشرائح الاقتصادية أصحاب الرساميل، أو المواطنين العاديين، فتهتز الثقة بالليرة ويتحول الجميع لعملة أخرى أكثر ثباتاً وعلى ذلك يغدو الدولار ملجأ الناس الوحيد فيزداد الطلب عليه. وهو ما يقابله المركزي بمزيد من ضخ الدولار ليخفض الدولار ويعيد سعر العملة إلى حاله.
الحالة السورية تشير إلى فشل هذه العملية، ليس لأن المصرف المركزي لم يكن لديه كم من الدولار يكفي الطلب عليه بمستوياته الأولية، لكن بسبب أن الطلب على الدولار أصبح مستمراً لما لا نهاية. فطالما أن السياسة النقدية تسمح بتحويل كل المداخيل إلى دولار عبر التزام السياسة النقدية الذي أوضحناه (بضمان عمليات القطع الأجنبي ...وإلغاء الرقابة على النقد)، وطالما أن هذه العملية مترافقة مع السماح لهذه الأموال بالخروج من الاقتصاد السوري عبر الاستمرار بسياسة (تحرير حساب رأس المال في ميزان المدفوعات)، فإن هذه العملية ستستمر حتى نفاذ كامل دولارات المركزي حتى لو جاءه المدد من كل أصقاع العالم. طبعاً ناهيك عن هوامش الربح التي تتضمنها حلقات التجارة والمضاربة بالدولار والتحويلات إلى الخارج، والتي تشكل عوامل إضافية للاستمرار بهذه العمليات.