من أين تولد الثروة.. وكيف تقاس؟ الإحصاء العالمي يغطي على الأزمات

من أين تولد الثروة.. وكيف تقاس؟ الإحصاء العالمي يغطي على الأزمات

في كل عام تحصي الدول ومنظمات الإحصاء نتائج النشاط الاقتصادي العالمي: إجمالي إنتاجه، حجم توسعه، والدخل الوطني، أي جزء الإنتاج الجديد المنتج في هذا العام، والمخصص للتوزيع بين المساهمين في النشاط الاقتصادي، ليتم استخدامه في النهاية بطريقتين، إما عبر الاستهلاك، أو التراكم أي الإضافات على رأس المال ليتم التوسع لاحقاً.

طور الاقتصاد العالمي لهذا القياس مؤشرات وطرق قياس أصبحت موحدة عالمياً، تسهل إجراء مقارنات بين نشاط الدول، ودراسة وضع الاقتصاد العالمي، إلا أن هذا التوحيد شبه الكامل في المعايير وأدوات القياس الإحصائية لا يشهد حتى اليوم مراجعات جدية، لنقطة انطلاق طرق الحساب، أي المنهج، لأن منهج حسابات الدخل الوطني، والناتج العالمي، قائم على الإجابة عن سؤال أساسي في الفكر الاقتصادي: ما هو مصدر الثروة والقيمة؟


ولهذا السؤال إجابتين رئيسيتين في الفكر الاقتصادي، إحداهما مشتركة لدى الفكر الاقتصادي الرأسمالي وإن ظهرت بأشكال متنوعة، والثانية لدى ماركس!.
وبناء على تفسير مصدر الثروة الاجتماعية والقيمة، ينشأ اتجاهان رئيسيان في طرق قياساتها السنوية، سواء عبر الناتج، أو عبر الدخل الوطني.
فما الذي يقوله ماركس وما الذي يقوله الفكر الاقتصادي الرأسمالي وتطبيقاته الإحصائية.


ماركس ومصادر خلق الثروة

وظيفة الإحصاء الاقتصادي موضوعياً، هي قراءة قدرات المجتمع الاقتصادية على تلبية حاجاته الضرورية، أي إنتاجها أولاً، وتوزيع العوائد لاستهلاكها ثانياً، وقدرته على إعادة إنتاج ما تم استهلاكه، وتوسيع هذا الإنتاج وتطويره، بناء على التطور في الحاجات سواء من حيث الكم أو النوع.
إن ماركس يجيب على سؤال مصدر الثروة والقيمة، بالعمل البشري، حيث صاغ نظرية القيمة بالعمل، منطلقاً من نواة النظرية لدى سميث وريكاردو.
فالعمل البشري وفق ماركس هو شرط ولادة الثروة الجديدة، حيث أن قوة العمل البشري هي (السلعة السحرية) التي تستخدم وسائل الإنتاج من آلات ومستلزمات منتجة سابقاً، بطريقة تنقل قيمتها إلى البضاعة الجديدة. كما أن قوة العمل البشري لا تكتفي خلال عملية الإنتاج بنقل القيم والثروات القديمة، بل تقوم بإنتاج إضافي جديد: جزء منه يستخدم في تجديد قواها أي في إنتاج سلع الحاجات الضرورية لاستهلاك الطبقة العاملة، الذي يسمى بالأجر، وتنتج أيضاً منتوجاً فائضاً، يسمى بالقيمة الزائدة، ويعبر عنه في الواقع بالربح، هو ربح لمالكي وسائل الإنتاج أي الطبقة الرأسمالية.


وقد عبر عن هذا بقانون القيمة:
W= c + v +m

حيث W  مجموع السلع الجديدة أو الثروة الجديدة المنتجة، C هي ثروات أو قيم قديمة مستخدمة في الإنتاج على شكل وسائل إنتاج، أما V فهي حاجات تجديد قوة العمل للطبقة العاملة، وm   هي الربح العائد لمالكي رأس المال.
حيث يعتبر أن الناتج الإجمالي، هو مجموع البضائع ذات القيمة الاستعمالية w، أما الدخل الوطني فهو القيم الجديدة الإجمالية مطروحاً منها القيم القديمة C.
أي ماركسياً يعتبر المصدر الرئيسي للدخل الوطني هو القيمة المنتجة مجدداً أي : v+m))
وذلك في قطاعين رئيسيين:  الأول هو إنتاج وسائل الإنتاج، والثاني هو إنتاج وسائل الاستهلاك.
فالماركسية تنطلق من محدد النشاط الإنتاجي، الذي يتفاعل فيه العمل البشري، مع المادة وقواها، وعليه أن يكون نشاط هادف لتكييف المادة، كي تسد حاجات المجتمع الإنتاجية واللاإنتاجية  (الشخصية والاجتماعية)، أي المجالات التي تخلق بضائع وقيم استعمالية.
أي أن التحديد لا ينغلق على القطاعات الإنتاجية، بل على مجمل الخدمات المرتبطة بها، والمشروطة بنشاط العمل البشري، المتفاعل مع المادة ليخلق قيمة مضافة للسلع.


إجابة رأس المال..

 أما إجابة الفكر الاقتصادي الرأسمالي على مصدر الثروة الاجتماعية والقيم، وبالتالي على طرق قياس الناتج والدخل، فهي تعتبر أن الثروة أو القيم الجديدة مولودة من كل عناصر العملية الإنتاجية -رأس المال، الأرض، والعمل- على قدم المساواة، والبعض يضيف إليها حنكة الإدارة والتنظيم الرأسمالية (هناك إجابات أخرى لكنها تنطلق من عوامل ذاتية مرتبطة بالسوق كالعلاقة بين العرض والطلب، والمنفعة من السلع، وهي لا تجاوب عن مصدر الثروة، بل تفسر تغيرات الأسعار وهذا أمر آخر)!
وبناء على هذا التعريف لمصادر الثروة، فإن قياسها يكون بجمع كل النشاطات الاقتصادية معاً دون التمييز بينها لتحديد الناتج الإجمالي: لتتساوى الصناعة والزراعة مع المصارف والعقارات وأرباح البورصة، مع دخل المطاعم والخدمات الحكومية الصحية والتعليمية وغيرها.
وليحتسب الدخل الموزع على أنه أجور العمال كلهم، وأرباح رؤوس الأموال كلها أياً تكن طبيعة النشاط الاقتصادي، لأن توفر أي عنصر من العناصر قادر على خلق الثروة، فرأس المال يولد الثروة ويأخذ الربح كعائد، والطبيعة وخيراتها تولدها ويحصل مالكيها على الريع، والعمل يساهم في الإنتاج ويأخذ الأجر كمقابل.
ولذلك يكون الناتج الإجمالي هو مجموع النشاط الاقتصادي ومجموع السلع والخدمات المقدمة مقدرة بأسعار سنة ما، أما الدخل الوطني فيكون مجموع الدخول (أي الأجور والأرباح بأنواعها الصناعي والتجاري والريع والفائدة) في القطاعات كلها مع بعضها البعض.


تكرار وتضخيم.. للأرقام

وفق المنطق الرأسمالي الذي لا يبحث عن مصدر الثروة في العملية الإنتاجية، فإن كثيراً من الحسابات تصبح مكررة، فعلى سبيل المثال يحتسب الناتج والموارد المالية المتراكمة في القطاعات المالية من مصارف وتأمين، على اعتبارها جزءاً من الناتج، بينما ينبغي التساؤل ما هو مصدر هذه الأموال، هل هي من عمليات الإقراض؟ وإذا ما كانت من فوائد الإقراض، فمن أين تأتي الفوائد؟ إنها تأتي من الربح الناتج في العمليات الإنتاجية، نتيجة عمل العمال وخلقهم لقيمة جديدة. ولذلك فإن الإحصاء الرأسمالي يضع الناتج، والدخل في العمليات الإنتاجية الرئيسية، ويضع إلى جانبه الناتج في القطاعات الأخرى، التي تحصل على رؤوس أموالها وعوائدها من القطاعات الرئيسية، أي التي لا تنتج الثروة المنتجة مجدداً (v+m) بل تحصل عليها في عملية تسمى إعادة التوزيع.
وعلى هذا المقياس يندرج الكثير من النشاط التجاري، حيث أن بعضه يضيف قيمة بعمليات التخزين والنقل، ولكن جزءاً كبيراً منه لا يضيف قيمة مثل خدمات الإعلان والتسويق وغيرها، وجمعها إلى جانب بعضها البعض يؤدي إلى تكرار في الحساب، وتضخيم للأرقام.
لذلك فإن الحساب الرأسمالي للناتج والدخل الوطني، يعتبر متضخم عن الحساب الماركسي، لأنه يضع ثروات ودخل القطاع الإنتاجي، ويضيف إليه القطاع غير الإنتاجي، وهو النابع من الأول خلال عملية إعادة توزيع الدخل الوطني التي سنعود إلى تفاصيلها لاحقاً.