ملف إعادة إعمار سورية (5).. العراق: الحصار مقدمة الانهيار الكبير!
تستكمل قاسيون تغطيتها لملف إعادة الإعمار في سورية، والذي ابتدأته بتغطية لأهم مفاصل تجارب إعادة الإعمار سابقاً في البلدان الأخرى، آخذة بعين الاعتبار ظروف تلك البلدان الخاصة، وسياقات تجاربها المختلفة، حيث تمت الإضاءة حتى الآن على تجربة دولتي الكونغو وأفغانستان، واليوم نستكمل الحديث حول التجربة العراقية.
سامر سلامة
تستند قاسيون في قراءتها للتجربة العراقية إلى ثلاثة مراجع رئيسية* وهي:
1-بحث علمي بعنوان (إعادة إعمار العراق الفرص والتحديات للباحث م.د محمد موسى علي المعموري).
2-التقرير الأول للمفتش العام الأمريكي ستوارت بووين حول إعادة إعمار العراق، بعنوان: (دروس قاسية من تجربة إعادة إعمار العراق، المنشور في شباط 2009).
3-التقرير النهائي للمفتش العام الأمريكي ستوارت بووين حول إعادة إعمار العراق، بعنوان: (التعلم من العراق، المنشور في آذار 2013).
وستركز هذه التغطية على الجوانب المتعلقة بالتقديرات المختلفة للقوى المعنية بعملية إعادة الإعمار، والخطة الرئيسية التي صيغت لهذه العملية، وسنتحدث لاحقاً عن دور سلطات الاحتلال الأمريكي فيها، ودور الحكومات العراقية ما بعد الغزو، والفساد، واستراتيجية إعادة الإعمار المتعلقة بقطاع النفط وغير ذلك...
(النفط مقابل الغذاء) إفساد ممنهج!
كانت مقدمات احتلال العراق، أي مرحلة الحصار المفروض على البلاد في تسعينيات القرن الماضي، ممهداً رئيسياً لانهيار البنية التحتية العراقية وتدهورها بشكل كبير إبان الغزو في 2003، أي أن ظروف الحصار الدولي الخانق، وظروف الحروب الأخرى التي شهدها العراق، مثلت محدداً رئيسياً لمشاكل عملية إعادة إعمار ما بعد الحرب، وهو ما ثبته التقرير الأول للمفتش العام الأمريكي للجنة التي شكلها الكونغرس، بعد أن ذاع صيت التجربة العراقية كأكبر عملية إعمار فاسدة في التاريخ الأمريكي، حيث يقول التقرير: (تدهورت البنية التحتية المادية للبلاد بشكل كبير نتيجة عقوبات الأمم المتحدة من جانب، وإهمال صدام حسين والحرب الإيرانية العراقية وحرب الخليج عام 1991... بعد حرب الخليج الثانية في التسعينيات، فرضت الأمم المتحدة المزيد من العقوبات وفرضت حظراً دولياً على التجارة، الأمر الذي قيد قدرة البلاد على استعادة العافية، وبحلول أواسط التسعينات تجاوزت البطالة الـ50%، وبلغ الناتج المحلي ذروته عام 1990 بمقدار 74.9 مليار دولار لينخفض خلال عقد التسعينات دون 20 مليار دولار).
كما أسهمت برامج الأمم المتحدة وتحديداً عبر برنامجها الشهير (النفط مقابل الغذاء) بدفع اقتصاد البلاد باتجاهات محددة، عززت دور القطاع الخاص وأسهمت بزيادة الفساد، ويشير التقرير إلى أنه: (وفي وجه انعدام الاستقرار الاجتماعي والتدهور الاقتصادي المتصاعد وافق العراق على اقتراح الأمم المتحدة: (برنامج النفط مقابل الغذاء)، وأدارت الأمم المتحدة التوزيعات الشهرية، عبر شبكة من 44 ألف متجر من القطاع الخاص، وفي ظل العقوبات ومبيعات النفط المسموح بها ازدهر الاقتصاد غير المشروع، وانتشر الفساد في مؤسسات الحكومة).
البنى التحتية والإنتاجية الرئيسية بعد الغزو
لم تكن عملياً، إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب إلا الأداة التي رسخت يد الإدارة الأمريكية في العراق، وذلك ضماناً للإمساك بزمام الأمور في البلاد، ومنعها من العمل على إنتاج نظام وطني واقتصادي مستقل، لا بل والاستفادة من إمكانياته لتوظيفها خدمة للاقتصاد الأمريكي من جهة، عبر موارد النفط الهائلة، وجعل العراق مفتاح تفتيت منطقة الشرق الأوسط، وما يقتضيه ذلك من إبقائه ساحة للفوضى، بعد أن تدهور حاله إلى مستويات تاريخية، ولا أدل على ذلك إلا الأرقام البسيطة حول كميات إنتاج النفط والكهرباء، بين ما قبل الغزو وما بعده:
لقد عانى قطاع الكهرباء في العراق سنوات، من الصيانة غير الكافية والإدارة السيئة، فوفقاً لصندوق النقد الدولي كان متوسط الإنتاج الشهري للكهرباء في العراق بين 2002 و2003 حوالي (5075) ميغاواط وانحدر إلى (711) ميغا واط في 2005. وقدرت وزارة الطاقة الأمريكية أن إنتاج النفط في العراق قبل الحرب بشهرين، كان 2.58 مليون برميل في اليوم، وانخفض بعد الحرب مباشرة إلى حوالي 2,1 مليون برميل. وحتى عام 2010 بقي أقل من 3 مليون برميل رغم أنه بلغ ذراه عند 3,5 مليون برميل في عام 1980 من القرن الماضي، ما يعني أنه رغم هيمنة الولايات المتحدة على هذا القطاع واهتمامها به لدرجة سعيها الدؤوب لعودته السريعة نسبياً للإنتاج، لمستويات ما قبل الحرب، إلا أنها لم تستطع تطويره لذراه السابقة، وهذا ما سنعمل على توضيحه أكثر في الأعداد اللاحقة.
تقديرات إعادة الإعمار
إبان هذا الوضع، عملت عدة جهات فعلياً، على تقدير ورسم استراتيجيات إعادة الإعمار، وكان أبرزها الحكومة العراقية الإئتلافية المشكلة إثر الغزو، والتي تبنت الخطة الأمريكية عملياً، فيما اكتفت باقي الجهات الدولية بوضع تقديرات أولية لعملية إعادة الإعمار، فعلى سبيل المثال، قدّرت الأمم المتحدة مع فريق من البنك الدولي في 2003 أن إعادة بناء العراق قد تكلف 56 مليار دولار على الأقل خلال ثلاث سنوات، من بينها 36 مليار دولار للصحة، والتعليم، والزراعة، وتنمية القطاع الخاص، وبناء القدرات الحكومية، وحكم القانون، ولم يعالج التقييم النفط أو الأمن، مختاراً بدلاً من ذلك إدخال تقييمات سلطة الائتلاف المؤقتة البالغة 20 مليار دولار لهذه القطاعات.
وقد أظهرت الدراسة أن التكلفة الأساسية لإعادة الإعمار ، تتمثل في إعادة إعمار وتأهيل البنية التحتية، حيث وصلت التقديرات إلى 24,2 مليار دولار تقريباً وهي تمثل 68%، من مجموع الاحتياجات المقدرة لبرنامج إعادة الإعمار. وشكلت تكلفة إعادة تأهيل شبكة الكهرباء الجزء الأكبر من تكلفة البنية التحتية، إذ قُدرت بنحو12,12 مليار دولار وشملت إعادة تأهيل المنشآت القائمة لإنتاج وتوزيع الكهرباء واستثمارات جديدة لزيادة طاقة الإنتاج وتوسيع شبكة التوزيع .
سيطرة أمريكية وتقسيمات اقتصادية لمصلحتها
عملت الولايات المتحدة على (لعب دور كبير في إعادة إعمار العراق ما بعد صدام، مع مساهمات ومشاركة الأسرة الدولية التي سوف تباشر بسرعة في إعادة اعمار البلاد) وفق ما ذكره التقرير. وهو ما عنى عملياً استراتيجية أمريكية للهيمنة المطلقة على العراق وثرواته وطاقاته كافة، ومن المستهجن أن يكون أبرز المشاكل وفقاً للتقرير وصوله لنتيجة مفادها أن: (غياب المعلومات حول البنية التحتية والمؤسسات الحكومية العراقية جعل من الصعب تحديد ما كان ضرورياً لإعادة تأهيل الخدمات الأساسية) فهل يعقل أن تكون مشكلة إعادة إعمار هي خطأ في التقدير وحسب؟!
إنه لمن المؤكد أن هذه التقديرات لم تغب عن الذهن الأمريكي تحديداً، كون استراتيجية إعادة الإعمار الأمريكية عملت على الهمينة المطلقة على الاقتصاد العراقي عبر مؤسساتها مباشرة، وتنظيم إدراته بطريقة عملية تخدم مصالحها بالدرجة الأولى، فقسمت اقتصاد البلاد إلى كانتونين إن صح التعبير:
الأول: هو اقتصاد النفط الذي عُهد لوزارة الدفاع الأمريكية مباشرة البنتاغون.
الثاني: ما تبقى من اقتصاد البلاد الخدمي والرزاعي والصناعي والذي عُهد للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وسنبحث كلا الجهتين ودورها بشكل مفصل في العدد للاحق.
خلاصة أولية:
لقد كانت تجربة إعادة الإعمار العراقية درساً تاريخياً، فمن دور الحصار الدولي الذي هتك مفاصل الاقتصاد العراقي وبناه التحتية وأدى إلى استشراء الفساد تدريجياً، مروراً بالدمار الذي جلبه الغزو والمتمثل بانهيار جهاز الدولة بشقيه المدني والعسكري، وصولاً إلى الدور الأمريكي المباشر في إدارة سلطة ما بعد الغزو، والتي أمعنت في تدمير أهم طاقات الاقتصاد العراقي، واستنزاف ثروته الأهم أي الثروة النفطية.
هوامش
عناوين المراجع والدراسات:
• إعادة إعمار العراق الفرص والتحديات للباحث م.د محمد موسى علي المعموري. مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية عام 2007 مجلد رقم 13 العدد 45.
• LEARNING FROM IRAQ-MARCH 2013, A FINAL REPORT FROM THE SPECIAL INSPECTOR GENERAL FOR IRAQ RECONSTRUCTION
• HARD LESSONS: THE IRAQ RECONSTRUCTION EXPERIENCE, FEBREAUARY 2009.