ملف إعادة الإعمار في سورية (4): صراع المنظمات غير الحكومية والسلطات الأفغانية!
في الأعداد السابقة من قاسيون تم نشر مقالتين عن تجربة أفغانستان في إعادة الإعمار، تناولتا دور الغزو الأمريكي في تكييف الاقتصاد الأفغاني، ودور المساعدات الخارجية في منع إطلاق القدرات الإنتاجية للبلاد وتسييس هذه المساعدات. وفي هذه المتابعة نستكمل الجزء الأخير عن هذه التجربة، والتي ستلقي الضوء على دور المنظمات غير الحكومية الـ (NGO’s) في مرحلة إعادة الإعمار.
تبني المقالة هذه معظم معطياتها على الدراسة* التي قام بها الباحث، ساركا وايسوفا، وهي بعنوان: (مرحلة إعادة إعمار ما بعد الحرب في أفغانستان وتغيرات العلاقة بين الحكومة والـ (NGO’s))، بالإضافة إلى بعض الرؤى التحليلية المستقاة من دراسات** الباحثة، كراسيانا ديل كاستيللو، حول إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب، والتي تم التركيز عليها في الأعداد الماضية.
تسيس أنشطة المنظمات غير الحكومية
يمتلك المجتمع الأفغاني خبرة كبيرة مع المنظمات غير الحكومية، لأن هذه المنظمات غير الحكومية الدولية (NGOs) عملت في أفغانستان منذ عام 1980. عملت هذه المنظمات بداية كمزودين رئيسيين للمساعدات الإنسانية، والرعاية الصحية، في مخيمات اللاجئين في أفغانستان، وأيضاً على الحدود الأفغانية الباكستانية، ثم بدأت في تنفيذ مشاريع تتعلق بالتنمية. كما تركز عمل هذه المنظمات في عدد قليل من المناطق التي تعتبر آمنه نسبياً، والتي تتوفر فيها البنية التحتية الأساسية التي تمكن من توزيع المساعدات.
ويرى الباحث وايسوفا، أن: (المنظمات غير الحكومية أصبحت بشكل تتدريجي قنوات مهمة بالنسبة للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى من أجل نقل الموارد المالية للقادة الميدانيين الأفغان)، وذلك إبان الحرب الباردة مع السوفييت، الذين دخلوا أفغانستان بناء على طلب الحكومة الأفغانية ضد قوات طالبان في حينه.
كانت الحكومة الأمريكية تقوم بتوجيه المساعدات للاجئين والنازحين عن طريق المنظمات غير الحكومية. ويؤكد الباحث أن: (المنظمات غير الحكومية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية ساهمت بشكل واضح في تسيس المنظمات غير الحكومية في أفغانستان، وأدت إلى سقوط شعار حياد المنظمات غير الحكومية، فكانت تدعو إلى حماية اللاجئين والمشرّدين داخلياً في الساحة الدولية، ولكن جدول أعمالها كان يتضمن بشكل أساسي محاربة النفوذ السوفيتي، أو الشيوعية في أفغانستان)!.
وفي ظل هذا الدور المُسيّس ضد السلطات الحكومية اعتمدت تلك المنظمات (بشكل كامل على إفساد الشرطة والضباط المحليين بهدف التغاضي عن المعابر الحدودية غير الشرعية، بما في ذلك تأمين نقل الإمدادات الغذائية والأموال والمعدات والتعاون مع القادة الميدانيين الأفغان)، وفقاً لما عرضه الباحث.
من الدور الإنساني إلى الدور التجاري!
لاحقاً تنامى دور المنظمات غير الحكومية، وأخذت تتمتع بدرجة أكبر من الاستقلالية، وتنفذ المشروعات نيابة عن الحكومة، وأصبحت شريكاً تجارياً للعديد من الشركات الكبرى. حيث وقع على سبيل المثال، الصليب الأحمر الأمريكي العامل هناك اتفاقية مع شركة (Cable & Wireless) ومع شركة (IBM) و(CNN)..
بعد سيطرة طالبان انسحبت وكالات الأمم المتحدة من أفغانستان، وخفضت المنظمات الدولية مساعدتها الإنسانية والتنموية، وبقيت المنظمات غير الحكومية، هي المزود الوحيد للمساعدات الإنسانية والتنموية والتقنية، وشمل جدول أعمالها كل شيء، من إعادة الإعمار إلى التعليم، مما دفع نظام طالبان إلى فرض القيود على أنشطتها، وتم حظر منظمات التنمية والسماح للمنظمات الإنسانية بالعمل فقط، وفي عام 1994 أجبرت المنظمات الأجنبية على إغلاق مكاتبها ومنعها من العمل وطردها البلاد، نتيجة خوف ممثلي الحكومة من الروابط، بين المنظمات غير الحكومية والمجموعات المسلحة في الأراضي الخارجة عن سيطرة الحكومة، وخوفاً من أن تنتهي أموال إعادة الإعمار في أيدي هذه المنظمات ومجموعات المعارضة.
هيمنة على الإعمار والتشغيل
عادت المنظمات غير الحكومية إلى أفغانستان مع الغزو الأمريكي وسقوط طالبان، ووسعت من نشاطاتها لتشمل إضافة للمساعدات الإنسانية، نشاطات متعلقة بإعادة الإعمار والتنمية: كالرعاية الصحية، وتحسين نظام التعليم، والبنية التحتية، وإزالة الألغام، وتوفير الأمن الغذائي، ونزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة دمجهم. وبلغ عددها 2000 منظمة غير حكومية دولية ومحلية، وبالتالي كانت تلك المنظمات المقدم الوحيد لفرص العمل والغذاء والدواء والمساعدة الاجتماعية والمنفذ لبرامج ومشاريع إعادة الاعمار. ومع استمرار العنف والقتال وتولي المنظمات الحكومية لمعظم الأنشطة الاقتصادية والخدمية تحولت أفغانستان إلى (ثقب أسود يمتص الميارات دون أي تأثير إيجابي ملحوظ على حياة السكان واستقرار الدولة) وفقاً لما أورده الباحث.
تنامي الاستياء الحكومي والشعبي
لقد تناقض تنامي دور المنظمات الحكومية، مع ضرورة استعادة الاستقرار في البلاد موضوعياً، والذي كان يستدعي تقوية السلطات المركزية والحكومات المحلية. فرغم الترحيب بدورها في مطلع عام 2001، إلا أنه سرعان ما تصاعدت اتهامات تلك المنظمات للحكومات المركزية بالفساد وعدم الكفاءة، وبدورها اشتكت الحكومات المركزية من قيام المنظمات غير الحكومية بتفريغ الحكومة من كواردها الهامة، والكفؤة والمدربة، عبر استقطابها برواتب عالية جداً، ناهيك عن ارتباطاتها بالمسحلين، فقطع المسؤولون الحكوميون علاقتهم بها في كثير من الأماكن.
كما تصاعد المزاج الشعبي بالتدريج ضد هذه المنظمات، التي بات الناس يربطونها بشكل أو بآخر بالغزو الأمريكي، وفُقدت الثقة بها وبدورها، وهو ما أدى أحياناً إلى تصفيات جسدية لموظفي هذه المنظمات، ما اضطرها لاسترضاء الناس بتوسيع تمويلها للمشاريع الاقتصادية الصغيرة.
ويكثف الباحث، ساركا وايسوفا، عوامل التوتر والعلاقة بين الحكومة الأفغانية والمنظمات غير الحكومة بما يلي:
1-الشك في حياد هذه المنظمات بسبب تعاونها مع فرق إعادة الإعمار الإقليمية (PRTs) وقوات التحالف المسلحة.
2-انتقادات المنظمات غير الحكومية للحكومة ما جعلها تفقد شعبيتها.
3-المنظمات غير الحكومية تمتلك الموارد والإمكانيات التي تفتقدها الحكومة بشكل كبير، مما يجعل الحكومة تمتلك عدداً قليلاً من الوسائل للتأثير أو السيطرة على أنشطة هذه المنظمات.
محاولات الضبط الفاشلة
لقد بدأت عدة محاولات ضبط لعلاقة هذه المنظمات بالحكومة الأفغانية، وكان أهمها في مؤتمر طوكيو للمانحين عام 2004، حيث تم إنشاء هيئة تنسيق للمساعدات، كما وضع مشروع آخر في إطار مؤتمر لندن عام 2006، وفي باريس عام 2008، إلا أنها كانت غير ملزمة للدول المانحة. كما وضعت الحكومة الأفغانية مشروع (استراتيجية التنمية القومية)، الذي مثل آخر المحاولات لتحسين تنسيق المساعدات المقدمة.
لقد باءت معظم هذه المحاولات بالفشل، فالصيغ القانونية التي تحد من نشاط تلك المنظمات تم الانقلاب عليها من قبل الحكومة ذاتها، وذلك بضغط من المنظمات غير الحكومية التي باتت تملك تأثيراً كبيراً على مفاصل الحكومة الأفغانية، وهذا ما حصل لـ (رامازان بشاردوست) وزير التخطيط في حكومة كرزاي عام 2004، والذي نُحي جانباً بعد أن وضع مشروعاً يقترح تخفيض عدد المنظمات، ويمنع نشاطاتها الربحية ويخفض إنفاقها على مستلزماتها غير الضرورية، حيث كلفت مصاريف السيارات ورواتب كبار الموظوفين ( 20% من الموارد الإجمالية المخصصة لعمليات إعادة الإعمار، وهو ما أسهم في جذب خيرة الكوادر وإفراغ الحكومة من كوادرها الكفؤة)، وفقاً لما رآه الوزير دوست حينها..
شيء من نتائج
التجربة الأفغانية:
• لا زالت أفغانستان تواجه الفقر المدقع حيث يعيش ثلثي السكان على أقل من 2 دولار أمريكي.
• متوسط عمر الإنسان عند الولادة أعلى بقليل من 40 عاماً.
• الالتحاق بالتعليم حوالي 50% .
• أجزاء كبيرة من البلاد لا تزال غير آمنه مما خلق البيئة الملائمة لزراعة الحشيش وصناعة المخدرات، حيث بلغ إنتاج الأفيون عام 2009 حوالي 7000 طن.
• الزراعة غير قادرة على استعادة التعافي الذي كان موجوداً قبل الحرب.
خلاصات
من الواضح أن خلاصة التجربة الأفغانية فيما يخص دور المنظمات غير الحكومية الـ (NGO’s) يشير إلى تناقض موضوعي بين ضرورة استعادة دور الدولة والحكومة في كافة مفاصل الحياة، وبين تنامي دور المنظمات غير الحكومية وفق دوافع مختلفة منه سياسية وربحية، وآخر همها (الإنسانية)، وهو ما خلق عقدة جديدة تضاف إلى مشاكل التجربة الأفغانية كالمساعدات واقتصاد الغزو التي ناقشناها في حلقات سابقة.
هوامش:
*
Post-war Reconstruction in Afghanistan and the Changing NGO-Government Relationship (Sarka Waisova) August 2008
**
-Peace through Reconstruction: An Effective Strategy for Afghanistan (GRACIANA DEL CASTILLO) Spring/Summer 2010
-Reconstruction Zones in Afghanistan and Haiti A Way to Enhance Aid Effectiveness And Accountability (GRACIANA DEL CASTILLO) October 2011