ملف إعادة الإعمار في سورية (3): أفغانستان: المساعدات.. طفرة النمو وشروط الدول المانحة!

ملف إعادة الإعمار في سورية (3): أفغانستان: المساعدات.. طفرة النمو وشروط الدول المانحة!

عرضت قاسيون في العدد (695) في تغطيتها لملف إعادة الإعمار في سورية شيئاً من التجربة الأفغانية، وتوقفت عند دور الغزو الأمريكي في تكييف الاقتصاد الأفغاني في مراحل إعادة الإعمار، حيث صارت أفغانستان أشبه بقاعدة عسكرية أمريكية، بمواجهة ميلشيات مسلحة، ناهيك عن القوات الحكومية، وكانت وظيفة النشاط الاقتصادي بغالبيته هي خدمة القوات المحتلة أو الميلشيات هناك ومهمات "حفظ" الأمن.

اليوم سنتوقف عند دور المساعدات الدولية وخطرها على الاقتصاد الأفغاني في مرحلة إعادة الإعمار، إلى جانب تكيّف الاقتصاد لصالح الغزو ومفرزاته، وسنكمل في حلقات لاحقة عن دور الفساد والمنظمات غير الحكومية (NGO’s). وستعتمد قاسيون في قرائتها هذه على المراجع العلمية التالية:
1. Peace through Reconstruction: An Effective Strategy for Afghanistan (GRACIANA DEL CASTILLO) Spring- Summer 2010
2. Rebuilding from War: Economic Reconstruction in Post Conflict State. (GRACIANA DEL CASTILLO) 31 May 2011
لقد بلغ مجموع أموال المساعدات في الاقتصاد الأفغاني خلال ستة أعوام، بين عامي 2002 و2008، حوالي 13 مليار دولار موزعة على المانحين المبينين في الشكل المبني على بيانات وزار المالية الأفغانية.

وترى الخبيرة في شؤون البلدان المأزومة نتيجة الكوارث الطبيعية والصراعات والأزمات المالية، كراسيانا ديل كاستيللو، في ورقتها البحثية (إعادة بناء ما بعد الحرب: إعادة الإعمار الاقتصادي في الدول ما بعد الحرب) أن حجم المساعدات الكبير، الذي نالته أفغانستان نتيجة حتمية للأزمات ذات الطابع الأمني والصراع المسلح: (وفي نهاية الأزمات، وتحديداً ذات الطابع الأمني، والتي تأخذ النفقات العسكرية الجزء الأكبر منه، تخرج البلدان غالباً دون أي دخل أو إنتاج أو مدخرات، وبالتالي لا يمكنها الاستثمار، ما يجعلها تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية حتى في نفقاتها الجارية).
معايير اقتصادية غير واقعية!
وتنتقد ديل كاستيللو، وإن بشكل غير مباشر، منطق تعامل الدول المانحة مع المساعدات الممنوحة للدول المنكوبة، فهي ترى أن ربط هذه المساعدات بسياسات اقتصادية غير عملية على صعيد الاقتصاد الكلي، كسياسات (عدم التوسع في الإنفاق العام) و(الإصرار على استقلالية المصرف المركزي)، يضعف من دور الحكومات الوطنية في تلك الدول، كما ترى أن: (تأخير المساعدات في انتظار أن تصبح تلك الحكومات ذات كفاءة إدارية أعلى هو ذو عواقب مأساوية). إن هذه الإشارات تؤكد على فكرة لم تصغها الباحثة، ألا وهي إشكالية ربط المساعدات بإملاءات وشروط اقتصادية معيارية لا يمكن تأمينها في ظروف ما بعد الحرب، وإن فرضها بهذا الشكل هو إما ذريعة لمنع المساعدات، أو مسعىً من الدول المانحة لإضعاف الحكومات المحلية وتكييف اقتصاداتها مع رغبات (المانحين)!


نمو يفوق الصين؟!

ورغم أن معدل النمو في أفغانستان بلغ أكثر من 10% في عام 2005، وبوسطي نمو 12% خلال الفترة 2001-2010 وهو أعلى من معدلات النمو الصينية البالغة 11%، وذلك بسبب الكميات الكبيرة من المساعدات والوجود الأجنبي الكبير، إلا أن ذلك لا يعد مؤشراً إيجابياً على الاقتصاد طالما أن المساعدات هي السبب الرئيسي في طفرة النمو تلك، وذلك وفقاً لما رأته ديل كاستيللو في مقالتها (السلام من خلال إعادة الإعمار: استراتيجية فعالة لأجل أفغانستان)، وخصوصاً أن 75% من هذه المساعدات كانت خارجة عن سيطرة الحكومة.


بين السنارة والسمكة!

لم تتوقف كاستيللو عند إدارة هذه المساعدات وشروطها فقط، بل أيضاً عند طرق توظيفها، حيث ترى أن حصر هذه المساعدات بتأمين المواد الاستهلاكية هو أمر سيء، لذا ينبغي أن تتجه هذه المساعدات إلى قطاعات الإنتاج، ناهيك عن ضرورة التمييز بين "المساعدات الإنسانية" و"مساعدات إعادة الإعمار" وذلك لضمان عودة النشاط الاقتصادي والنمو المستدام مع الاستمرار بتأمين المساعدات الإسعافية والإغاثية. وتجمل كل ذلك بضرورة (إعادة تقييم دور الجهات المانحة التي تقوم في كثير من الأحيان بتمويل مشاريع يديرها خبراؤهم ومتعاقدون خاصون بهم، فذلك يضعف الحكومة، ويخلق استياءً عند الناس ويجلعهم يعتمدون على المساعدات. وعلى النقيض من ذلك، يمكن دعم الموازنة لنفقات محددة، تشمل الإعانات وبرامج دعم الأسعار، وتنشيط القطاع الزراعي والأنشطة كثيفة العمالة... بالإضافة إلى الدعم التقني والإئتماني ومنح صاردات البلدان المنكوبة تفضيلاً في أسواق الدول المانحة). 

دور حاسم للدولة

رغم عدم القدرة على الاستغناء عن المساعدات بشكل كلي، تستنتج كاستيللو، ضرورة الإنتهاء من نظام المساعدات الموازي الخارج عن سيطرة الحكومة، وأن دور الدولة حاسم في استمرار برامج المساعدات، وينبغي على وكالات المساعدات دعم برامج المساعدات الحكومية، وينبغي الاعتماد على المشتريات والمنتجات ذات المدخلات واليد العاملة المحلية.

خلاصة:
لقد وضح هذا الجانب من تجربة إعادة الإعمار الأفغانية خطر المساعدات الدولية على الاقتصاد، فهو وإن سمح بطفرة في النمو، إلا أنه يعزز الجوانب الاستهلاكية على الجوانب الانتاجية في الاقتصاد، ما خلق ميلاً للاعتماد الطويل على هذه المساعدات وتكييفاً للاقتصاد، وفق هذه المساعدات، في الوقت الذي ينبغي أن تكون هذه المساعدات ذات مردودية أعلى فيما لو استخدمت في دعم الإنتاج والأسعار.
كما تعزز المساعدات من هيمنة الدول المانحة، عبر فرض شروط اقتصادية. ووضحت هذه التجربة تناقض دور الدول المانحة ومساعداتها مع دور الحكومة المحلية، الذي يؤدي تعزيزه وهيمنته على المساعدات إلى خلق شروط أفضل لإعادة الإعمار وإعادة السلام.