استطلاع قاسيون من الشارع: أجور بخسة وتقشف صارم وإرادة الحياة!

استطلاع قاسيون من الشارع: أجور بخسة وتقشف صارم وإرادة الحياة!

يعيل أي عامل من العاملين في القطاع العام والخاص المنظم في سورية اليوم أكثر من ست أشخاص. وهؤلاء يحصلون على أجور وسطية لا تتعدى 20-22 ألف ليرة. حيث أن قلة من موظفي القطاع العام ذوي الخدمة الطويلة والقريبين من سن التقاعد يحصلون على أجور تقارب 40 ألف ليرة، وقلة من موظفي المراتب الأولى في القطاع الخاص يحصلون على هذا الدخل أو أكثر منه. فلا تزال أغلبية المهن في القطاع الخاص عند راتب 18 ألف ليرة في دمشق، بينما في المدن الأصغر كطرطوس، تتراوح بين 14-15 ألف ليرة.

في الوقت ذاته فإن نفقات الغذاء الضروري فقط، بلغت ما لا يقل عن 30 ألف ليرة، وذلك دون الحليب اليومي للأطفال، أو اللحوم الحمراء والأسماك، ودون أنواع الفواكه غالية الثمن، وأنواع الحلويات العربية، وهذه العناصر المتجاهلة إذا ما أضيفت فإن تكلفة الغذاء الشهري ستتجاوز 50 ألف ليرة. أما أجار السكن الشهري الذي أصبح أساسياً للأسر النازحة، فهو يتطلب ما لا يقل عن 15 ألف ليرة، أما النقل للأسرة فيتطلب بأقل التقديرات 13500 ألف ليرة شهرياً. بالنسبة للملابس والتعليم والصحة فبحدودها الدنيا التقشفية تتطلب 6000 ليرة شهرياً، وحدث ولا حرج عن الظروف الاستثنائية!
وبالعموم فإن تقديرات نفقات المعيشة الضرورية لأسرة سورية في الظروف الحالية، وبالحدود الدنيا والنموذجية أي دون أي استثناءات طارئة تتجاوز 90 ألف ليرة شهرياً لخمسة أشخاص.
فكيف يوفق السوريون أصحاب الأجر أو معيلي الأسر العاطلين عن العمل بين هذه المتطلبات مقابل عدم توفر فرص عمل جدية. قاسيون استطلعت بعض الآراء من الشارع السوري عبر مجموعة من المواطنين الذين التقتهم..


التقشف المجحف

الخطوة الأولى التي يقوم بها السوريون هي محاولات تقليص الإنفاق إلى الحدود الدنيا الممكنة، فهناك أسر يقتصر غذاؤها على وجبتين فقط، وبمكونات محدودة تعتمد الخبز والبقوليات التي تقدمها سلّات المعونة. أم سمير من حمص إحدى اللواتي استطلعتهم قاسيون تقول بصوتها المبحوح: (لقد نسينا البيض واللحوم الحمراء والسمك وزيت الزيتون.. ولكي نتذكرها ينبغي أن نبيع شيئاً من مواد سلة المعونة أو كاملها ونبادلها بشيء من اللحمة أو البيض، هذا إذا بيعت السلة كاملة فقد نحصل على 5000 ليرة).
18 ساعة يومياً!
بالإضافة إلى التقشف يلجأ معيل الأسرة للبحث عن عملين أو ثلاثة، وإذا وفق في بحثه سيحظى بشيء من المال وكثير من التعب... أبو ناصر من ريف دمشق يقول لقاسيون: (في الصباح أعمل موظفاً في مؤسسة المياه وأنتهي من عملي في الساعة الثانية، ثم أذهب للعمل في محل موبايلات من الساعة الثالثة وحتى التاسعة مساء.. أتناول وجبة الغداء في المحل.. وبعد التاسعة أعمل على التكسي ليلاً بين بلدتي ومدينة دمشق حتى ساعات الفجر وبعدها أنام قليلاً لأكفي المشوار). و(مجموع كل دخولي قد يصل إلى 60 الف ليرة وهي بالكاد تكفي في هذه الظروف، 20 ألف من الوظيفة الحكومية وحوالي 12 ألف من المحل و1000 ليرة يومياً تقريباً من التاكسي)، يضيف أبو ناصر. ثم يبتسم ذلك الثلاثيني ذو الأطفال الثلاثة ويردف: (أنا محظوظ فمنطقتي آمنة واستطيع العمل حتى أوقات متأخرة)!
آخرون ممن استطلعتهم قاسيون لجؤوا إلى أعمال مختلفة، مثل الناطور، والعتالة، وأصحاب البسطات، وأولئك الذين ينجزون المعاملات الحكومية عن الآخرين، والدوام المسائي في محال البيع وغيرها، حيث أن مختلف الأعمال بدوام جزئي، تعتبر ضمن قطاع العمل غير المنظم. يقول مهند وهو طالب جامعي في كلية الاقتصاد: (لقد جربت كل تلك الأعمال ولم أحصل على أكثر من 20 ألف ليرة شهرياً).


المرأة في سوق العمل!

يضاف إلى ذلك لجوء النساء غير العاملات إلى العمل في المهن المختلفة وضمن المتوفر منها الذي لا يتيح للنساء غير المتعلمات أو صاحبات المهن، الكثير من مجالات العمل. نهاد الشابة في منتصف العشرينات والتي رفضت إخبارنا عن اسمها الكامل أو المنطقة التي نزحت منها، لم تكن تتوقع أنها ستعمل يوماً بهذه الأعمال. تقول نهاد: (أعمل في تنظيف البيوت وأتقاضى أجراً مقداره 3000 ليرة في اليوم فيما لو كان العمل تعزيل كامل.. أما إذا كان تنظيفاً يومياً فآخذ 1000 ليرة... لكن هذه العمل  غير مستمر ومتقطع). لا تستطرد نهاد كثيراً وتختم: (إن ذلك أهون من عملي السابق في أحد مطاعم دمشق الذي كان يضطرني أن أعود إلى منزلي بعد العاشرة ليلاً).

تقول أم رامي وهي التي تسكن في دمشق القديمة، والتي تعمل بشكل جزئي بشك الخرز: (لا يتجاوز أجر القطعة فيها 200 ليرة وهي تتطلب حوالي ساعة عمل لو كنت محترفة، إلا أنني لازلت في بداية الطريق.. لكنني متفائلة فجارتي تحصل من هذا العمل دخلاً يصل إلى 30 ألف ليرة بـ 5 ساعات عمل يومية).


حصيلة الأسرة بعد التعب!

بأفضل الأحوال لن يستطيع رب الأسرة العامل بدوامين أو ثلاثة تستهلك من 16 إلى 18 ساعة يومياً، أن يحقق أجراً يتجاوز 60 ألف ليرة وهذا في أحسن الأحوال. وفيما لو افترضنا أن أجر العمل الصباحي يصل إلى 40 ألف، فقد يصل إلى ذلك الدخل مع عمل ثاني، ولكن بأجر وسطي للدوامين فإن ما يحصله شهرياً لا يتعدى 40 ألف ليرة، وهي بالكاد تستطيع تغطية غذاء الأسرة بشكل متقشف إلا إذا أضيف لها ساعات عمل متقطعة لزوجته غير العاملة.
أما بساعات العمل الـ 18 للعامل السوري، أي ثلاث دوامات، فقد يستطيع أن يغطي ثلثي نفقات الأسرة الشهرية، وذلك مع (خطة تقشف) قاسية!

أعمال غير شرعية

الظروف تدفع الأسر السورية إلى السعي الدائم لزيادة مصادر دخلها، والطريقة الرئيسية هي اللجوء إلى تخفيض نفقات الأولاد، وذلك بدفعهم إلى سوق العمل، وتبدأ هذه الظاهرة من لجوء أغلب الطلاب الجامعيين بالعمل مع دراستهم، ليهجروا دوامهم وجامعاتهم ويعملوا 8-9 ساعات يومية بأجور تتراوح بين 12-25 ألف ليرة بحسب المدينة، وطبيعة العمل، بعضها أجور ثابتة، وأخرى تعتمد على (البقشيش)، وبيوم عطلة واحد، وهذا النوع من العمل يعتبره وحيد وهو جامعي يعمل في أحد مقاهي في العاصمة: (أراه عملاً مؤقتاً بينما يراه زملائي في العمل ممن لم يستطعوا دخول الجامعة، أو المراهقين الذين تركوا دراستهم، يرونه عملاً ثابتاً ورغم أنه يؤمن المصروف الشهري لشاب أو فتاة في العشرين من العمر، إلا أنه لا يقدم أي ضمانة للمستقبل).
أما عن ظاهرة عمل الأطفال المتفشية بوضوح، فمن حالات عمل الأطفال إلى جانب دراستهم والتي تؤدي في أغلب الحالات إلى ترك الدراسة لاحقاً، كحالة عدي الطفل المهجر من دير الزور إلى ريف دمشق الذي قال: (أداوم على فرن الخبز في الصباح الباكر قبل دوام المدرسة، وأحصل على ربطات خبز بربح 5-10 ليرة في الربطة)!.
أما الاطفال (المتفرغين) للعمل بجانب الأفران فإن دخلهم اليومي يصل إلى 500 ليرة، وهذ حال وليد الطفل ابن العاشرة الذي ترك عمله السابق في محل لتصليح السيارات للعمل عند الفرن. ويبدو ذلك  مجدياً لأسر لا تستطيع إعالة وتعليم أطفالها، أو ترى أن الظروف ستدفعهم إلى الانخراط في سوق العمل عاجلاً ام آجلاً.
يضاف إلى ذلك الأطفال العاملين في المحال وعلى البسطات وفي الورش، والذين تعتبر كل عمالتهم غير شرعية، وأجورهم اليومية لا تتعدى 300 ليرة!. ناهيك عن التسول أو أِشباهه من الأعمال في الطرقات فهي الملجأ الرئيسي لأطفال الأسر الأكثر ضعفاً اقتصادياً.
وبالتوازي مع ذلك تغدو ظواهر النصب والاحتيال جزءاً من منظومة الكسب، فعدا عن (الراتب البراني) هناك عمليات النصب المنظمة والمنتشرة التي تساعد على توسعها، الفوضى الحاصلة وكثرة حملة السلاح الشرعيين وغير الشرعيين.
أما مجال العمل الأكثر انتشاراً في الظروف الحالية فهو النشاطات المرتبطة بالسلاح والعنف، فمكاتب تجنيد المقاتلين تنتشر في أرجاء البلاد وتجند العاطلين عن العمل، بالإضافة إلى فتح بوابات الأعمال غير الشرعية المرتبطة بحمل السلاح، حيث تعتبر ظواهر (التعفيش) والخطف مقابل فدية أوضحها وأبسطها!.