عن دعوات الدولرة وسياسات مواجهتها
لا تنفصل القضايا الاقتصادية عن السياسية عموماً وفي الأزمات تحديداً تزداد هذه العملية تلازماً، وليست الأزمة السورية إلا نموذجاً حياً على ذلك، فالأزمة أظهرت انحيازاً للسياسات الحكومية لمصلحة أصحاب الربح الذين لا هوية لهم إلا (كمية المال) والذين يشكلون جزءاً من النظام السياسي الاقتصادي-الاجتماعي القائم، أيا كانت اصطفافاتهم المؤقتة، معارضة أم موالاة، من المحسوبين على الحكومة أو من يقفون ضدها.
برز مؤخراً موقف لبعض المنتديات المحسوبة على (المعارضة) من الليرة السورية كرر جزءاً من مواقفهم في بداية الأزمة التي كانت تدعو لحصار النظام اقتصادياً وضرب الليرة كونها (عملته)!
طروحات (المعارضة) عن الليرة لمصلحة من؟!
في (المنتدى الاقتصادي السوري) أحد المواقع المحسوبة على المعارضة والذي يُعنى بالشؤون الاقتصادية، يبرز شيء من مواقف هؤلاء حول منطق التعامل مع الاقتصاد والعملة الوطنية في ظل الأزمة. يتبين، وفق ما نشروه مؤخراً لمقالة في جريدة الحياة اللندنية بعنوان (الليرة السورية بعد تراجع المركزي)، للوهلة الأولى أن الاقتصاد والعملة ساحة حرب مفتوحة بين (النظام والمعارضة) إلا أن النتائج وانعكاساتها على الناس ستشير إلى عكس ذلك. أي أن سياسات بعض (المعارضة) وسياسات الحكومة تؤدي إلى خدمة الشريحة ذاتها من أصحاب الربح المستفيدين من تراجع قيمة الليرة.
تعالج تلك المقالة وضع (الليرة السورية) بوصفها عملة للنظام وهي لذلك تؤثر على بقائه، وعلى الرغم من أثرها على المواطنين، يرى الكاتب أن (تدهور الليرة السورية بالمحصلة يضعف النظام، لكنه يضرّ أيضاً بالآلاف من الموظفين الذين ظلت رواتبهم كما هي)، ويضيف أن (جزءاً من العملة الأجنبية الآتية من مساعدات الدول للمعارضة، لا يزال ينتهي إلى المصرف المركزي السوري)، ويستنتج بناءً عليه وصفة اقتصادية للمناطق المحسوبة على المعارضة والخارجة عن سيطرة الدولة تقول بضرورة: (بقاء العملة في شكل أكبر ضمن تلك المنطقة المحاصرة. والحدّ من التبادل الاقتصادي مع المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وبالتالي تقليص تدفق العملة الأجنبية إليه)!.
بناء على ما تقدّم تبدو ساحة الاقتصاد بالنسبة لهؤلاء الكتاب والمروجين لهم ساحة حرب لا أكثر يتم ابتزاز الطرف الآخر فيها أياً كانت النتائج الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية لما يَدْعون له، حتى لو كانت النتيجة إنهاء لقمة عيش الناس البسطاء الذين يدّعون دفاعهم عنها. ويخلص أولئك -مستندين إلى تساؤل (شعبوي) وفق ما جاء في المقال مفاده: (كيف نتداول عملة النظام الذي يقتلنا وندعم اقتصاده؟)- إلى الاستنتاج التالي: (نهايةً، يبدو أنه لا خيار أمام السوريين في المناطق المحررة سوى الدولرة الجزئية للاقتصاد والتقليص التدريجي لتداول الليرة)!! رغم أن مثل تلك التساؤلات وأجوبتها المتحذلقة غير موجودة مطلقاً في ذهن الناس البسطاء بهذا الشكل الذي يتباكى عليه أصحاب تلك الأجوبة.
ما وراء (الدولرة) !
إنها (الدولرة) إذاً، الحل المنقذ لهؤلاء الفقراء المنكوبين! هكذا يدعي أولي الاقتصاد المحسوبين على بعض (المعارضة). والجدير بالذكر أن (الدولرة) تعني جعل الدولار عملة أساسية للتداول والتعامل في السوق السورية بدلاً من العملة الوطنية، وهو ما يعني فقدان سيطرة جهاز الدولة على أحد أهم أدوات التحكم بالاقتصاد وهي السياسة النقدية والعملة الوطنية، وجعلها خاضعة كلياً للدولار ومالكيه من مستثمري وتجار الخارج ودولهم. لن نناقش فكرة الدولرة وكامل آثارها السلبية، فهي قضية معروفة وبديهية، إلا لدى هؤلاء الناطقين باسم أجندات الأجنبي، موقفنا منها قائم على كونها خرق للسيادة الوطنية يضع صاحبها في دائرة الخيانة. لكن ما سنركز عليه هو العوامل الموضوعية الممهدة للدولرة، ومناقشة مدى فعالية وجدية سلوك الحكومة الحالي لمنعها في ظل دعوات من يدّعون تَمَثُّلهم لآلام الناس. فهل تعادي السياسات الحكومية (الدولرة) فعلياً؟!.
عن الدولار في المناطق
خارج السيطرة
التعامل بالدولار موجود جزئياً في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة وهو محصورٌ إلى حدًّ بعيد بتعاملات كبار التجار هناك المستوردين من السوق التركية والعراقية بشكل أساسي وفي تعاملات كبار تجار النفط المستخرج بطرق شتى عبر إرهابيي «داعش».
أما الناس البسطاء الموجودون في تلك المناطق فهم غير قادرين على استبدال الليرة بالدولار، نتيجة أوضاعهم المعيشية المتدهورة، وعدم قدرتهم على تحمل الإنفاق بالدولار، في ظل وجود بطالة واسعة، وتوقف في الإنتاج، واستمرار الاعتماد على الليرة السورية. وهو ما أكدته أوساط مطلعة على الأحوال هناك لقاسيون، فالتعامل المباشر بالدولار في الأوساط الشعبية غير ملحوظ في كل من دير الزور وريف حلب والرقة والحسكة رغم أن معظم أسعار السلع المعمرة «أدوات كهربائية، عقارات، سيارات» باتت تقيم بالدولار.
كما أن عملية استبدال الليرة بالدولار هناك، تقتضي إدارة مركزية ومستقلة للاقتصاد والنقود، وقادرة على تَحمُّل تكاليف تنظيم أمور الناس، وملئ الفراغ الذي سيتركه التخلي عن الليرة. لن تكون القوى المسلحة المسيطرة أو أي من أشكال التنظيمات المجتمعية هناك بقادرة على القيام بعملية من هذا النوع في ظل الفوضى، حتى لو تأمن ضخ عملة أجنبية بكميات كبيرة. إذاً بالإمكان القول أن الدعوة إلى الدولرة من قبل أولئك القابعين خارج البلاد ليست واقعية، ولا تعدو كونها دعوة للضغط على (الليرة)، وذلك لجعل الناس تفرغ جيوبها من كميات الليرة ما يؤدي إلى زيادة عرضها في السوق، وبالتالي انخفاض سعرها كما حصل لعدة مرات، وهو ما يعني فعلياً سحق حياة الناس.
هل عززت الحكومة شروط الدولرة؟!
إن تقلبات الليرة هذه التي يغذيها البعض بالدعوة للدولرة، لا تنعش المضاربين عليها للكسب من تجارة الدولار وحسب، وتنعش كذلك تجار المستوردات، الذين توسعت تجارتهم نتيجة تدهور الإنتاج الوطني بسبب تقلبات الليرة وارتفاع التكاليف والوضع الأمني والعسكري المتدهور. وإن هذه الدعوات لا تخدم هدف الدولرة بشكل رئيسي طالما أنها غير قادرة على تطبيقها بالمفهوم المتعارف عليه فلا الحكومة السورية بوارد تطبيق الدولرة فهي تنهي سيطرتها بشكل كامل ولا تلك المناطق الخارجة عن السيطرة قادرة على تأمين كافة شروط الدولرة، إلا أن الدفع بهذه الفكرة للأمام يهز الليرة ويخدم الشريحة المضاربة والمرتبطة بالخارج، المنتعشة من تقلبات الليرة والموجودة حتى في المناطق المسيطر عليها حكومياً.
مقابل ذلك أصدرت الحكومة في وقت سابق قانوناً يمنع ويجرم اعتماد غير الليرة السورية في التبادل في السوق المحلية وهو الإجراء اليتيم الوحيد لمنع الدولرة والحد من تأثيراتها، لكن ذلك لم يكن كافياً. فمنع الدولرة لا يقتصر على منع التبادل المباشر عبر الدولار، بل يشمل عزل تأثير الدولار وتقلباته عن مجالات الاقتصاد السوري كافة والمراقب للاقتصاد السوري في مناطق المسيطر عليها من قبل الحكومة يجد أن هذه العملية غير محققة، فتقلبات الدولار لا تزال تحكم سوق التجارة الداخلية أي أنها تحكم شيئاً من عمليات التبادل ولاتزال تحكم المستوردات سواء السلعية أم الإنتاجية وتحديداً مستوردات الطاقة المدخل الرئيسي في عمليات الإنتاج مما يعني تأثير الدولار على حلقات الإنتاج، ناهيك عن زيادة حجم ودور المستوردات في الاقتصاد الكلي نتيجة تدهور الإنتاج الوطني التي عادت الحكومة لتوجه ضربة قاصمة له عبر تخفيض رسوم الاستيراد ورفع تكاليف الإنتاج المحلية عبر زيادة سعر المحروقات.
الدولرة كهدف غير واقعي لمصلحة من؟!
إن كل ما سبق لم يعزز دور قطاع الاستيراد بشكل كبير وحسب، فسياسة الحكومة الجديدة القائمة على (الانتاج لأجل التصدير) ستوسع من تأثير دور الدولار في الاقتصاد الكلي، ناهيك عن كون المصرف المركزي وسياساته زادت من دور تجارة الدولار في السوق السورية عبر التوسع المستمر بضخ الدولار الذي أسهم في تراجع سعر الليرة بدل إنقاذها، وإن كل ذلك لم يخدم سوى الشريحة نفسها أي شريحة تجار المستوردات وتجار الدولار في السوق التي من المفترض من الحكومة أن تسيطر عليها!.
من الصحيح أن الدولرة بمعناها الرائج لم تصبح واقعاً وهي عملية صعبة طالما أن ما تبقى من حلقات الإنتاج والتبادل الرئيسية غير معتمدة بشكل رئيسي على الدولار وهو ما منعه الدور الكبير للقطاع العام بأشكاله كافة (الإنتاجي والخدمي)، إلا أن مجموع إجراءات الحكومة والحصار الدولي والأعمال الإرهابية والدمار الكبير التي أدت إلى تراجع الإنتاج الوطني لصالح الاستيراد وتراجع دور القطاع العام، والتي تركت الأسواق دون مراقبة وضبط للأسعار، أخضعت عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج إلى أسعار الدولار وتقلباته، وجعلت من تأثير الدولار كبيراً لاشك على الاقتصاد السوري، وهو ما يعني شكلاً من أشكال الدولرة المخففة، والتي لا تختلف عنها دعوات وإجراءات بعض المعارضة المرتبطة بالخارج طالما أن كليهما يخدم ذات الشريحة من تجار المستوردات والدولار.