ملف إعادة الإعمار في سورية (2): خطة (مارشال) أفغانستان.. تكييف الاقتصاد مع الغزو!

ملف إعادة الإعمار في سورية (2): خطة (مارشال) أفغانستان.. تكييف الاقتصاد مع الغزو!

تستكمل قاسيون فتح ملف إعادة الإعمار في سورية عبر الإضاءة عن تجارب إعادة الإعمار في دول أخرى اختلفت ظروفها عن ظروف الأزمة السورية لكن بكل تأكيد سنحاول استخلاص شيء من تعميمات دروس التجارب السابقة.

وستستعرض هذه المقالة على جزأين1، شيئاً من تجربة إعادة الإعمار في أفغانستان البلد الذي مرت فيه عملية إعادة الإعمار بعدة مراحل، فمنذ أواخر ثمانينات القرن الماضي وعلى إثر الصراع بين الحكومة الأفغانية وقوات طالبان التي دعمتها الولايات المتحدة في حينه، ولاحقاً في مطلع الألفية الجديدة مع الغزو الأمريكي لهذا البلد في ظل تقهقر طالبان، ومن ثم في مرحلة الحكومة الأفغانية الجديدة في ظل الصراع بين القوات الحكومية والأمريكيين من جهة ضد طالبان والقاعدة وغيرها من الميليشيات المسلحة في الجهة المقابلة.

ركزت هذه المقالة على ثلاثة دراسات أساسية:
1. بحث لساركا وايسوفا، بعنوان (مرحلة مابعد الحرب في أفغانستان وتغير العلاقة بين الحكومة والمنظمات غير الحكومية)
2. بحث لـ كراسيانا ديل كاستيللو2، بعنوان (السلام من خلال إعادة الإعمار: استراتيجية فعالة لأجل أفغانستان) في ربيع/صيف عام 2010.
3. تقرير لكراسيانا ديل كاستيللو، بعنوان (مناطق إعادة الإعمار في أفغانستان وهاييتي، وسيلة تعزيز فعالية المساعدات والمساءلة) صادرة في تشرين الأول 2011 عن معهد الولايات المتحدة للسلام في واشنطن.
رغم استمرار الغزو الأمريكي لهذا البلد في عملية أسماها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بـ (عملية تثبيت الحرية)، انطلقت عملية إعادة الإعمار، أو خطة (مارشال الأفغانية) وفق وصف بوش الإبن. وبعد ثلاثة عقود من الصراع في أفغانستان انطلقت هذه العملية التي وصفتها الأمم المتحدة بالتحول من (الصراع إلى السلام)، وذلك وفق ما اعتمد من صيغ في اتفاق بون الدولي عام 2001 بواسطة الأمم المتحدة، والذي دعم العملية بمبالغ ضخمة عبر المساعدات وتخفيف الديون.
التكاليف الباهظة على الأمن!
اعتمد المانحون الدوليون وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية على المنهج التجزيئي في التنمية في مناطق مختلفة، ووفقاً للباحثة كراسيانا ديل كاستيللو يقوم هذا المنهج على إنفاق أكبر قدر ممكن على العديد من المشاريع المختلفة، وهو ما أثبت عدم فعاليته بسبب تكاليفه المرتفعة جداً ويدل على ذلك ما يلي:
• لقد كانت التكلفة العسكرية للحرب ضخمة فيما يتعلق بالمساعدات وإعادة الإعمار لهذا البلد، فمن 443 مليار دولار موازنة الحرب الأمريكية في أفغانستان للفترة 2002-2011، خصصت الولايات المتحدة 52 مليار دولار للمشاريع الرئيسية، وكان أكثر من نصفها مخصص للبرامج المتعلقة بالأمن في أفغانستان، وحوالي 20 مليار دولار من المساعدات الأمريكية كانت للإغاثة وإعادة الإعمار، وكان مجموع الناتج المحلي الإجمالي في أفغانستان خلال الفترة 2002-2011 نحو 100 مليار دولار وبالتالي كانت المساعدات الأمريكية تمثل 20% من الناتج الأفغاني سنوياً بالمتوسط.
• كان الجزء الكبير من المساعدات غير الأمنية في أفغانستان ينفق على شركات المقاولات الأمريكية ومستلزماتها ومعداتها، وينطبق الشيء نفسه بالنسبة للمساعدات الأمنية، حيث كانت تنفق نسبة كبيرة منها في الولايات المتحدة لأجل المشتريات والمعدات العسكرية للجيش الأمريكي.
بين الأمن وإعادة الإعمار!
تضع ديل كاستيلو جملة من الانتقادات على هذه العملية، أبرزها هي ضياع البوصلة بين استراتيجيتين فيهما الكثير من التناقض الأولى هي (الوصول للسلام عبر الأمن) والثانية هي (الوصول للسلام عبر إعادة الإعمار)، وفي الحالة الأفغانية كانت عقلية الاستراتيجية الأولى هي السائدة عبر أولوية إرساء الأمن وهو ما يعكسه حجم الإنفاق على الأمن بشكل كبير لكن دون جدوى، في الوقت الذي غابت إنعكاسات إعادة الإعمار عن المواطن الأفغاني، حيث فشلت هذه الاستراتيجية في برامج نزع السلاح، والتسريح، وإعادة إدماج المقاتلين المدعومة من الأمم المتحدة في تحقيق أهدافها وتدهورت الأوضاع الأمنية في عام 2006، وغابت المصالحة الوطنية عن هذه الاستراتيجية، وزاد من ذلك تدخل حلف الناتو والقوات الأمريكية فزادت تكلفة الحرب وإعادة الإعمار بشكل كبير.
حقيقةً لا يمكن لأي مراقب وباحث فصل عملية إعادة إعمار أفغانستان عن ظروف الغزو وطبيعته، وهو ما أفضى إلى دور كبير وإشكالي للولايات المتحدة الأمريكية في تلك العملية، حيث تكيف الاقتصاد الأفغاني مع هذا الغزو وشروطه ولذلك رأت الباحثة في تقريرها عن «مناطق إعادة الإعمار في أفغانستان وهاييتي» أن: (الاقتصاد الأفغاني سوف ينهار بمجرد الانسحاب العسكري للولايات الأمريكية وخروج الشركات والمستثمرين الأجانب، ولتجنب مثل هذا الانهيار على حكومة أفغانستان الانطلاق بإعادة العمل في القطاعات الإنتاجية وأن الإخفاق في تفعيل الأنشطة الإنتاجية مرده إلى الاعتماد الكبير على المساعدات).
وقد عكس حجم المساعدات الأمريكية لأفغانستان وطبيعة هذه المساعدات شيئاً من حجم الدور الأمريكي وطبيعته، حيث أنفقت المساعدات الأمريكية على شركاتهم وحاجات قواتهم من السلع والخدمات عملياً، ولم ينل التنمية وإعادة الإعمار الشيء الكثير:


سياسات المؤسسات الدولية وخفض الدور الحكومي

من جانب آخر انتقدت الباحثة في جامعة كولومبيا الأمريكية، كاستيلو، دور صندوق النقد والبنك الدوليين وذلك بسبب فرضهما لسياسات محددة لايمكن أن تكون عملية ومجدية في مرحلة إعادة الإعمار. فموضوعتي (استقلالية المصرف المركزي) و(تخفيض مستويات العجز في الموازنة الحكومية) التي أصرت عليهما المؤسستين الدوليتين منعت الحكومة من تمويل نفقاتها الضرورية للتحكم بالعمليات الاقتصادية، حيث تمنع هاتين الموضوعتين الحكومة من عمليات التمويل بالعجز والتي قد تتيح لها في ظروف محددة بالتوسع بالإنفاق الحكومي وبالتالي تمويل عمليات التنمية الضرورية من وجهة نظر الاقتصاد الأفغاني بدل الاعتماد على المساعدات التي نمت قطاعات محددة لم تنعكس إيجاباً على عمليات التنمية، وهو مايعني أن شروط المؤسسات الدولية قننت دور الحكومة الأفغانية في عمليات تمويل التنمية لجعلها تلجأ بشكل أكبر للمساعدات التي سنبحث دورها في عمليات تكييف الاقتصاد الأفغاني لمصلحة الغزاة في العدد القادم.
أمام هذا الواقع رأت كاستيلو المستشارة لدى العديد من المنظمات الدولية والحكومات والقطاع الخاص، أن نموذج مناطق إعادة الإعمار (Reconstruction Zones) المعتمد في هاييتي ضرورة لإنعاش الاقتصاد الأفغاني، وهو مايعني إنشاء مناطق محددة لإعادة الإعمار مجهزة بالبنى التحتية الضرورية تتولى عمليات إنتاج السلع، وتقسم هذه المناطق إلى قسمين. أحدهما مخصص لإنتاج السلع للسوق المحلية والثاني مخصص لسلع التصدير التي ينبغي أن تقابلها أسواق الدول المانحة بالتسهيلات التفضيلية. أي أن طرح كاستيلو عاد للوقوع في مطب تكييف مناطق إعادة الإعمار مع شروط الدول المناحة وإن بشكل جزئي.

هوامش:
1. يركز الجزء الأول من هذه المادة على دور الغزو الأمريكي في تكييف الاقتصاد لحاجات الغزو. بينما سيتناول الجزء القادم دور المساعدات الدولية والمنظمات غير الحكومية والفساد في عملية إعادة الإعمار.
2. كراسيانا ديل كاستيللو، باحثة في جامعة كولومبيا الأمريكية، ومستشارة للمنظمات الدولية والحكومات والقطاع الخاص، وخبيرة في شؤون البلدان المأزومة نتيجة الكوارث الطبيعية والصراعات والأزمت المالية.

خلاصة  أولية من التجربة الأفغانية:
• تكيف الاقتصاد الأفغاني في مرحلة إعادة الإعمار مع إرادة الولايات المتحدة الأمريكية التي ابتغت له أن يؤمن البيئة الخصبة سياسياً واقتصادياً لاستمرار وجود قواتها هناك.
• إن هذا التكيف جعل من الاقتصاد الأفغاني يضع الإنفاق على الأمن كأولوية على حساب عملية إعادة الإعمار من جانبها الاقتصادي والإنتاجي، مما أدى إلى تدهور حال المواطن الذي وجد في حمل السلاح وإنتاج الخشخاش (المستخدم في المخدرات) مصدر عيشه الوحيد، ففشلت المصالحة وتدهور الاقتصاد من جديد.
• لم تكن المبالغ الضخمة المنفقة من قبل الولايات المتحدة على شكل مساعدات إعادة الإعمار عملياً إلا إنفاقاً على قواها العسكرية هناك بأشكال مختلفة وبذلك لم تسهم بشكل جدي في عمليات إعادة الإعمار.
• لقد منعت سياسات المؤسسات الدولية سواء عبر إطاراتها الاقتصادية وشروطها أو عبر إغراق البلاد بمساعدات من نمط محدد، إطلاق يد الحكومة الأفغانية في تولي مهمة التنمية.

آخر تعديل على الأحد, 01 آذار/مارس 2015 18:45