4 إجراءات لدعم الليرة لم تفعلها الحكومة السورية
من المعروف علمياً واقتصادياً أن أي عملة نقدية كالليرة السورية لها وجهان متلازمان هما القوة الشرائية لليرة (هو مقدار السلع والخدمات التي تشتريه الليرة) وسعر صرف الليرة (وهو قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار). إن كلا المفهومين السابقين مترابطين ومتلازمين وهما شكلا تجلي قيمة الليرة. الأول في السوق المحلية السورية، والثاني في السوق الدولية لأغراض عمليات الاستيراد والتصدير بشكل أساسي. ومن المعروف أن قيمة الليرة تتحدد بتوازنات العلاقة بين الكتلة السلعية من جهة (الناتج الحقيقي: أي مجموع السلع في السوق) وبين الكتلة النقدية (كمية النقود الموجودة في السوق)، وإن انخفاض حجم الإنتاج السلعي عن حجم الكتلة النقدية المقابلة له يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة، ما يعني انخفاض في القوة الشرائية لليرة (ارتفاع أسعار السلع) وانخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار (ارتفاع سعر الدولار).
ما حصل عملياً في الاقتصاد السوري هو اختلال هذا التوازن، فانخفض الناتج بمستويات كبيرة نتيجة تعطل عجلة الإنتاج لأسباب كثيرة أهمها تدمير للعديد من المنشآت الصناعية وخروج الأراضي الزراعية عن السيطرة. ومع انخفاض الإنتاج المحلي بات الحل الرئيسي المعتمد عليه هو الاستيراد لتغطية نقص المواد. وتكمن إشكالية الاستيراد في أنها لا تعوض نقص المواد الموجودة في السوق السورية بشكل كامل وهي تتطلب كميات كبيرة من العملة الأجنبية ما يعني طلباً متزايداً على الدولار في السوق، بالتالي ارتفاع سعره وانخفاض سعر الليرة. وكون نقص الإنتاج كان حاداً فاختل التوازن بشكل كبير وانخفضت قيمة الليرة بشكل حاد، ومع انخفاض قيمتها واستمرار الحصار بدأت عمليات المضاربة تزداد نشاطاً سواء في السوق المحلية عبر السوق السوداء وأشباهها أو عبر أسواق الدول المجاورة التي شنت حرباً على العملة الوطنية بضخ كميات الليرة لديها في الأسواق المجاورة.
سيناريو تخفيض مستوى الإنهيار!
أمام هذا السيناريو الذي بات معروفاً للقاصي والداني كان على الحكومة والمصرف المركزي إنجاز حزمة متكاملة من المهمات خلال السنوات الأربعة الماضية والتي كانت كافية فيما لو أنجزت لخلق واقع جديد يؤمن لليرة السورية والاقتصاد الوطني وضعاً أفضل من الحالي بكثير، وأهم بنود هذه الحزمة هي:
- زيادة معدلات الإنتاج والاستثمار لمواجهة نقص السلع في السوق.
- سحب كميات الليرة في السوق السورية بالحد الأدنى لتخفيف حدة التباين بين الكتلة السلعية والنقدية.
- هيكلة الاستيراد وحصره بالمواد الضرورية للإنتاج وأساسيات الاستهلاك وتغيير طبيعته لجهة اعتماده على الدولار، والانتقال إلى الاعتماد على طرق الدفع الأخرى كالمقايضة، أو العملات الاخرى.
- وقف المضاربات للسيطرة على الأسباب غير الموضوعية في انخفاض سعر الليرة.
انخفاض الإنتاج..
أين الاستثمار الحكومي؟!
بالنسبة للإجراء الأول وهو العمل على زيادة الإنتاج لم تفعل الحكومة السورية الكثير بل على العكس، قامت بتهميش الإنفاق الاستثماري الحكومي فانخفض فعلياً عن المستويات الضرورية في الأزمة وعن مستوياته المعتادة ما قبل الأزمة وفي الجدول الآتي تبيان لهذه الفكرة:كما أن الحكومة لم تعمل جدياً لزيادة الإنتاج عبر القطاع الخاص في الصناعة الوطنية، حيث أسهمت برفع تكاليف الإنتاج عبر زيادة أسعار الوقود والطاقة كما أنها لم تدعم مستلزمات الإنتاج، وتباطأت في إنقاذ البنية الصناعية كما حصل في مدينة الشيخ نجار الصناعية في حلب.
على العكس من كل ذلك جاءت تسهيلات الحكومة لدعم القطاع الخاص العامل في قطاعي الخدمات والتجارة وذلك عبر تخفيضها لمعدلات الجمارك بشكل كبير ما أسهم بزادة الورادات وهو يعني ضرب الصناعة الوطنية أيضاً.
كان من الممكن أن تقوم الحكومة بوضع خطة استثمارية يكون عمادها القطاع العام وذلك لسد نقص الإنتاج السلعي بالسرعة الضرورية لحل مشكلة سعر الليرة الحالي، ولإيجاد فوائض كبرى لإدارة مرحلة إعادة الإعمار بدل التركيز على خصخصة القطاع الحكومي وتهميشه والتي خفضت الناتج السلعي ووضعت دور الدولة في مهب الريح في المرحلة القادمة وجعلت الاستثمار في سورية خاضعاً للتسهيلات التي تقدمها الحكومة للاستثمار الخاص والأجنبي اللذين لن يتحركا وفق الأولويات التنموية الضرورية للشعب السوري رغم كل إجراءات «الدلال»!.
لماذا لم يتم تحريك سعر الفائدة وإصدار سندت الخزينة؟!
لا شك أن عملية سحب العملة من السوق ليست عملية سهلة لسبب أساسي وهو أن أسواق الدول المجاورة ودول الخليج تملك كميات كبيرة من الليرة السورية لايستطيع المصرف المركزي حصرها حتى اللحظة، ويعتبر هذا إشكال غير مبرر في أداء سياستنا النقدية متراكم لعقود كما أنه (وصمة) ناتجة عن طبيعة علاقاتنا التجارية والاستثمارية المرهونة لدول كهذه.
ومن المعروف أن أحدى الأداوت الأهم لتنفيذ هذه المهمة هي رفع سعر الفائدة والذي استخدمه المصرف المركزي ثلاث مرات أثناء الأزمة فقط وكان آخرها في شباط 2012 حيث ارتفع سعر الفائدة على الودائع طويلة الأجل إلى 11% بعد أن كان 7% في 2011. ويرى البعض أن هذا الإجراء يفيد في امتصاص جزء من السيولة النقدية لكنه يضر بالاستثمار الخاص كونه يرفع تكاليف الاقتراض لأجل الاستثمار وهو مادعى المركزي إلى عدم استخدامه إلا بشكل عارض. لكن ذلك صحيح جزئياً في بعض استثمارات القطاع الخاص التي قد تتأثر بسعر الفائدة، ولكن فيما لو اعتمدت الحكومة على استثمارات القطاع العام فإن ذلك لن يؤثر على الاستثمار بشكل جدي.
إن الإجراء الأهم الذي تناسته الحكومة والمصرف المركزي هو إصدار سندات خزينة طويلة الأجل وهو من الإجراءات الفعالة في تخفيض السيولة النقدية في السوق والذي لم تقترب منه الحكومة لأسباب مجهولة!.
بيع الدولار هو الإجراء الوحيد!
لقد اقتصر إجراء المركزي الأساسي لامتصاص فائض السيولة عبر بيع الدولار في السوق، وذلك لتحقيق هدفين من وجهة نظر المركزي، سحب الليرة من السوق وتأمين الدولار للسوق لوقف المضاربة عليه. إلا أن تدخل المركزي لم يقدر على تأمين الحد الضروري من امتصاص فائض العملة فإمكانات المركزي ببيع الدولار لتحقيق هذا الهدف محدودة طالما أن الليرة السورية مستحوذ عليها من الدول المجاورة بكميات كبيرة.
بيع مع هامش ربح..
وإخراج الأموال!
إن الأخطر من كل ذلك هو شكل تدخل المركزي عبر آليات السوق ببيع الدولار بهامش ربح للقطاع الخاص ما شرع هوامش الربح عبر المتاجرة في الدولار وأجج رغبات (هوامير المال) التي باتت تطلب الدولار للمتاجرة فيه، ناهيك عن تحول السوق إلى قوى هامة عبر استحواذها على كميات كبيرة من الدولار جعلها تتحكم بسعره. كما أن سياسات المركزي التي تشرعن هجرة رؤوس الأموال إلى الخارج دون رقابة أسهمت بتسهيل المضاربة على العملة، فأصحاب رؤوس الأموال دأبوا على تحويل أرباحهم البالغة مليارات من الليرات السورية إلى دولار وتصديرها للخارج، ما يعني زيادة في السيولة في السوق السورية ونقصاً في دولار المركزي.
أما فيما يخص وقف المضاربات فما قد حصل فعلياً هو تأجيجها، وذلك بسبب تدخل المصرف المركزي عبر بيع الدولار بمزادات وهي طريقة غير معروفة بالسياسات النقدية، وبغض النظر عن ذلك، فإن خلق هامش ربح للدولار مشرعن رسمياً وخصخصة قطاع الصرافة وعدم ضرب فاسدي السوق السوداء، وهيمنة منطق (تعويم العملة) المدعوم من القوى الليبرالية على حساب (سعر الصرف الثابت) بالإضافة إلى الهجوم على الليرة من الدول التي لازالت مترابطة اقتصادياً مع الاقتصاد السوري استمراراً لسياسات الحقبة السابقة التي لم تقبل بتبديل طبيعة هذه العلاقات رغم كل ذلك، فأسهم كل ما سبق بتأجيج المضاربات.
سياسات الحكومة والمصرف المركزي متكاملة، وهما يمثلان الأدوات المنفذة لمصلحة قوى المال والنفوذ في النظام الاقتصادي الاجتماعي، وما لم يقوما به هو عملياً مصلحة غالبية الشعب السوري الذي صمد بدمه خلال الأزمة.
هيكلة الاستيراد..
من بين الإشكاليات الرئيسية التي لم تعمل الحكومة على حلها هي تخفيض مستوى الاعتماد على الدولار، ومن المعلوم أن طبيعة الاستيراد وحجمه هو مفتاح هذه العملية فمع تخفيض الاستيراد يتم تخفيض وزن الدولار وتقلباته في الاقتصاد السوري، كما أن تغيير طبيعة العلاقات التجارية التي كانت قبل الأزمة 70% منها مع الغرب الذي أسهم بحصارنا، وربطها مع الدول الحليفة كإيران وروسيا والصين يقلل من ضرورة الاعتماد على الدولار، وهو ما لم يتم العمل عليه بشكل جدي خلال 4 سنوات بسبب هيمنة مصالح القوى التجارية التقليدية المرتبطة بالغرب تاريخياً. ناهيك عن ضرورة تغيير طبيعة المستوردات لجعل تركيزها على المواد ذات الأولوية كمدخلات الإنتاج والمواد الغذائية غير القابلة للإنتاج محلياً فمن غير المنطقي أن تكون الرسوم الجمركية على استيراد (اللؤلؤ) تعادل الرسوم الجمركية المفروضة على (الذرة). ومن غير المنطقي أن يتم تخفيض الرسوم الجمركية على استيراد السيارات من 150% إلى 30%!!، حيث يدل تساوي نسب الرسوم الجمركية على غياب أي سياسة للتمييز بين أنواع المستوردات وفق الضرورة. بينما تحولت تمويلات الحكومة لمستوردات التجار التي لا تقتصر على الضروريات، إلى بوابة لنقل دولار الاحتياطي الأجنبي السوري إلى السوق السوداء. لقد وجدت القوى التجارية، وكبرى قوى السوق في الأزمة فرصة لإحداث نقلة نوعية في حصة التجارة الخارجية من القطاعات الرئيسية، وأهمها حصولها على الحق باستيراد وتوزيع المحروقات، التي كانت مهمة الدولة حين كانت تبيعها بسعر مدعوم!.