أي «نصر» على الشعب السوري!

أي «نصر» على الشعب السوري!

مع كل خطوة حكومية لرفع أسعار المحروقات والمواد المدعومة تكثر التصاريح الحكومية عن اضطرارها لرفع السعر لدواعي «ضرب التهريب» أو «التخلص من وجود سعرين» السعر المدعوم وسعر السوق السوداء، أو أن الأمر مرتبط «بنقص المعروض من المادة مما يؤدي إلى رفع أوتوماتيكي للسعر»، أو «نقص الموارد وأعباء خزينة الدولة» أو الحصار إلخ إلخ...

بداية علينا أن نذكر بأن جوهر فكرة "الدعم" هو ردم الفجوة بين مستوى المعيشة ومستوى الأجور، وهو مايسمح بالارتقاء بالتنمية البشرية إلى مستوى التحديات التي تواجه الدولة واقتصادها، وعلى ذلك تملي الضرورة على واضعي السياسات الاقتصادية في البلاد تعبئة موارد الدولة لردم هذه الفجوة أولاً وأخيراً، فهي المهمة الأولى في بناء الدولة، وإلا فهم يعبثون بأموال الشعب التي ينبغي أن تصرف لأجل صموده وتماسك بنيانه المجمتعي في مواجهة التحديات الاعتيادية، والتي تتفاقم في زمن الحرب. إن أي خلل في هذه الرؤية يعني التخلي عن المسؤولية التاريخية وترك الشعب يواجه مصيره وحده، ما يستوجب توقع الخطر قبل أي خروجٍ عن هذه الرؤية.
نريد الانطلاق من هذه الرؤية لتثبيت مفهوم الدعم، فأصحاب القرار في هذه المرحلة خرجوا علينا بقراراتهم الأخيرة القاضية برفع أجزاء كبيرة منه تحت مبررات سنناقش مدى سطحيتها قياساً بالرؤية التي توخينا التأكيد عليها أعلاه، إن هذه المبررات الساذجة ليست إلا الغطاء الناري للاعتداء على حق الشعب السوري في أمواله ومكتسباته الضرورية لمواجهة كافة أعدائه من الإرهابيين إلى كبار الفاسدين والناهبين مروراً بالأمريكيين والصهاينة.   
العرض والطلب (أ-ب) الاقتصاد!
لاشك أن من بديهيات علم الاقتصاد أن أي خلل في جانبي العرض والطلب يؤدي إلى تغير في السعر، فإذا ارتفع العرض عن الطلب انخفض السعر، وإذا انخفض العرض عن الطلب ارتفع السعر. وعندما يتغير هذا السعر فإن ذلك يؤدي إلى الوصول في كل مرة إلى سعر توازني جديد تختلف عنده كميات العرض والطلب. وعند استقرار السعر على سعر توازني جديد مرتفع نسبياً عما سبقه فإن ذلك يعني أننا أمام معروض أقل وحجم طلب أقل والعكس صحيح. والحال كذلك يتذرع المسؤولون الحكوميون بأن نقص المعروض من النفط الناتج عن انخفاض الإنتاج بنسب كبيرة هو سبب موضوعي لارتفاع السعر.
إن ذلك صحيح من الناحية الشكلية فقط، لكنه لا يمت لمجريات الاقتصاد السياسي ولا إلى الواقع بأي صلة، حيث من المفترض تعلم كيفية التحكم بالقوانين الموضوعية لأجل تحقيق الأهداف الضرورية. فطالما أن الحكومة هي المتحكم الرئيسي بعرض النفط  سواء عبر إنتاجه أو عبر استيراده فهي قادرة على وضع أي تسعيرة تريدها له ومهما كان حجم النقص في الكمية، فما بالنا إذا كانت الدولة السورية عرفت ولسنوات طويلة آليات كالتسعير الإداري واحتكار الدولة للتوزيع والاستيراد والإنتاج. إن من يصر على تبرير رفع الأسعار بقانون العرض والطلب يريد القول عملياً إنه استسلم لآليات اقتصاد السوق وقوانينه وهو بذلك يحاول إخفاء إنحياز سياساته بشكل كلي لمصحلة قوى السوق لا أكثر، ويريد نفي دور الدولة في الاقتصاد، ناهيك عن ممارسته التضليل العلمي في الاقتصاد. كما لا يستطيع هؤلاء التصريح بكم انخفاض استهلاك الشعب السوري جراء ارتفاع السعر المتكرر لهذه المادة الضرورية لمعيشته.
التأخير المقصود!
إن التذرع بنقص المعروض النفطي يبدو محض افتراء، فالحكومة استطاعت تجاوز جزء من آثار الحصار في ذروته عام 2013 بمساعدة الحلفاء (إيران وروسيا)، فما بالها اليوم؟! كما أنها تعد الآن بعودة تدفق المحروقات بانسيابية، ولكن بعد رفع السعر، متأسفة على بعض التأخير العارض!، أي أنها كانت قادرة على تأمين كميات النفط الضرورية إلا أنها تأخرت عن ذلك لأسباب لا يعلمها أحد. وللعلم فإن أزمة نقص المحروقات الحالية تراكمت تدريجياً منذ نيسان 2014، حينها تحدث البعض عن توقف الخط الإئتماني الإيراني بسبب نفاذه، ومنذ ذلك الوقت كان أصحاب وسائل النقل التي تعمل على المازوت يستشرفون الأزمة التي صمّت الحكومة لها آذانها، منتظرة رفع السعر على مايبدو!
التهريب أصعب من الإرهاب!
أما حديث الحكومة عن نقص مواردها المالية فقد بات إدعاءً ممجوجاً، فالحكومة التي تتخلى عن أجزاء كبيرة من إيرادات الخليوي لمصلحة بضعة مالكين، وتغدق على كبار المكلفين الضريبيين بالإعفاءات، وتتجاهل محاسبة تهربهم الضريبي، وتتعامى عن التهرب الجمركي وكبار  الفاسدين. إن حكومة كهذه لايحق لها التذرع بنقص الموارد، فهي عملياً شريكة في هدر وإنقاص موارد الشعب السوري وينبغي أن تحاسب على ذلك. أما الحديث عن رفع السعر كضرورة لتخفيض التهريب وهي الذريعة التي نسمعها منذ 10 سنوات، فباتت مخجلة، فهل يعقل أن الدولة التي أوقفت الإرهاب من التدفق من الحدود اللبنانية عاجزة عن إيقاف التهريب؟!! إن عجزها ذلك يفتح التساؤلات على مصراعيها حول العديد من القضايا.
الحكومة ذات السعرين!
كانت النكتة التي تندر فيها السوريون تبرير رفع سعر المازوت لأجل إنهاء وجود سعرين للمادة. علينا أن نذكر الحكومة أنها أسهمت بإطلاق سعرين للمادة، وذلك عندما سمحت للقطاع الخاص باستيراد النفط الخام وتكريره وبيعه في السوق المحلية وعندما طلبت من التجار استيراد المازوت للقطاع الخاص الصناعي بالسعر الذي يشاء، وهو ماحذرت قاسيون من مخاطره منذ شهر ونصف فقط. أما إذا كانت الحكومة تقصد بأن رفع السعر سيلغي سعر السوق السوداء، فهذا يعني أنها باتت قادرة على توفير كامل الكميات التي تحتاجها السوق مما يمنع نقص المادة عن أي أحد كي يسهم بزيادة سعرها، وهنا يعود السؤال لماذا لم تمتلك الحكومة هذه القدرة قبل أشهر؟ أم أنها تريد مبازرة الشعب السوري بتوفير المازوت مقابل تحرير سعره؟! وهل حقاً ستنخفض أسعار السوق السوداء أم سيزداد لهيبها بعد الارتفاع الأخير؟!
الشعب: هل من نصير؟!
في الوقت ذاته والتي حُرر فيه سعر أهم المواد الأساسية لمعيشة المواطن، لاتزال الحكومة من أشد أعداء «تحرير سعر قوة العمل» أي جعل الأجور السورية متطابقة مع الأجور العالمية طالما أن أسعار السلع الأساسية باتت متقاربة جداً مع الأسعار العالمية إن لم تفوقها. ألا يعتبر تثبيت الدولة لأجور العاملين عند مستويات متدنية "التسعير الإداري" الوحيد والقسري الذي يصر عليه واضعو السياسات! كيف يستطيع أحدٌ أن يتجرأ ليعتبر الزيادة الهزيلة بمبلغ 4 آلاف ليرة بدلاً عن رفع السعر بعد أن بلغت الفجوة بين الحد الأدنى لمستوى المعيشة والحد الأدنى للأجور أكثر من 70 ألف ليرة سورية!.
حررت الحكومة سعر المازوت أخيراً. ربما تغازل المستنفرين لإعادة الإعمار بذلك كالبنك الدولي وغيره، وربما تحتفل لإنجاز هدف وُضع منذ عقد، فهو النصر الوحيد لها في العقد المنصرم، لكن هذا النصر جاء على حساب دماء الشعب السوري وفقرائه. نفس الدماء التي تغدق في مواجهة الإرهاب والإمبريالية، فهل من عبرة!